- مرت أوبئة كثيرة على البشرية، لكن لم تتم أدلجتها كما وباء كورونا. فهل أنّ الأوبئة السابقة لم تكن ذات طبيعة عالمية ولم تمس كلّ البشرية، أم أنّ الأوبئة في عصر التكنولوجيا والعولمة صارت قابلة أكثـر للأدلجة والتوظيف السياسيّ حسب أمزجة واستراتيجيات وسياسات بعض دول العالم وبعض قادتها الذين يمسكون بزمام أمور هذا العالم. فهل يمكن الحديث حقًا عن أدلجة مُمنهجة للوباء، وعن أمور أخرى ذات صلة أهمها الاِستغلال السياسي والتوظيف الأيديولوجي لأزمة أو جائحة كورونا. حول هذا الشأن «أدجلة الأوبئة والتوظيف الإيديولوجي لجائحة كورونا»، كان ملف «كراس الثقافة» لهذا العدد مع مجموعة من الدكاترة والباحثين الأكاديميين المختصين في العلوم السياسية.

إستطلاع/ نــوّارة لحــرش

- عادل جارش/ باحث دكتوراه علاقات دولية -جامعة مرمرة بإسطنبول
الأدلجة تمت على نحو يخدم مصالح القِوى الدولية


عملياً لو قُمنا بمقارنة كوفيد19 مع غيره من الأوبئة التي أصابت البشرية فيما مضى، فنحن في وضع أحسن مبدئياً، فمثلا في القرون الوسطى قضى الطاعون الأسود أو ما يُسمى بــ: «الموت الأسود» على حوالي 40 مليون شخص في أوروبا، وهو ما يُعادل ثلث سكانها ومئات الآلاف في مناطق متفرقة من إفريقيا وآسيا، ولقد كان لهذا الوباء دورٌ في إضعاف الحضارة الأوروبية آنذاك، أمّا عند الحديث عن الكورونا فأعتقد أنّ الوضع يختلف بسبب تطور الطب بالرغم من الآثار والنتائج السلبية التي كابدها العالم من ورائه منذ 19 ديسمبر 2019، والتي مازالت مُستمرة على مُختلف المستويات، لكن في الحقيقة هناك شيء يدعو للقلق وهو أدلجة هذا الوباء في النظام العالمي على نحو يخدم مصالح القِوى الدولية، فعند النظر إلى سياسات الدول للتعاطي مع هذه الجائحة سنلاحظ أنّ هناك بشكل واضح سباقا بين عشرات الدول للكشف عن لقاح لعلاجه، لأنّ العلاج هنا لا يعني العلاج فقط وإنّما يتعدى ذلك عبر اِستخدامه كورقة رابحة لتعميق الولاء بين الدولة مُكتشفة اللقاح والدول الأخرى التي ستستجديها من أجل هذا الدواء، وفي مقدمتها الدول المُتضررة منه، وبالتالي فإنّ ذلك سيُعزز العلاقات بينهم على أساس أنّ الدولة المانحة أو المُكتشفة للقاح هي المُنقذ، في الوقت الّذي تُحاول فيه كلّ دولة أمننة نفسها فقط دون مساعدة الدول الأخرى.
تتجلى كذلك الأدلجة في فيما يُسمى بـــ: «دبلوماسية الكمامات والأقنعة»، وهي مزيجٌ من سياسة القوّة الناعمة والرسائل المُصممة لتصوير الدولة المانحة على أنّها حليفٌ كريمٌ وفعّال، لذلك نجد أنّ هناك بعض الدول تعمل على إرسال عشرات الشُحنات من المساعدات الطبية إلى الدول المُتضررة من الفيروس، فعلى سبيل المثال قامت الصين بإرسال شحنات من المساعدات الطبية إلى إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وهولندا وصربيا والمجر، ولقد لاقت اِستحساناً كبيراً من هذه الدول المُستقبِلة، فلقد وصف الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيش الرئيس الصيني شي جين بينغ بالأخ، وبأنّ الصين يمكنها لوحدها المساعدة في حين أنّ التضامن الأوروبي غير موجود، لكن في الحقيقة قد تكون هذه المساعدات وسيلة للتغلغل السياسيّ وفتح الكثير من الآفاق الجديدة في شرق أوروبا وداخل الاِتحاد الأوروبي. ومن ناحية أخرى قد تُمهِد دبلوماسية الكمامات نهج أو طريق تخفيف حِدة الخلافات مع المنافسين الأعداء، وقد تُعزز أكثر العلاقات مع الأصدقاء والحُلفاء فدعم الصين لإيران وفنزويلا قد يزيد من اِرتباطهما بالصين
إنّ تحوّل هذا التحدي الصيني بسرعة قياسية من مشكلة صينية كان يمكن اِحتواءها إلى مشكلة عالمية أثبت لنا أنّ هذه الأزمة العالمية التي ما تزال دون أُفقٍ واضح اِتخذت بُعداً إيديولوجيًا وسياسيًا كبيرا مُقارنة مع الأوبئة السابقة نظراً لثلاث نقاط رئيسية تتعلق بزيادة الترابط والتشبيك في العلاقات الدولية في مختلف المجالات مِمَا ساهم في اِنتشاره بسرعة مُحيلا إلى وجود مصير عالمي مشترك تتشابه فيه الهموم والمشاكل البشرية وكذلك زيادة سقف طموحات القِوى الدولية خاصة الصين وبدرجة أقل روسيًا للتخلص من الهيمنة الأمريكية والتوجّه نحو نظامٍ مُتعدّد الأقطاب.

- لطفي دهينة/ أستاذ وباحث في العلوم السياسية -جامعة قسنطينة 03
لم تسلم أزمة كورونا  في العالم من التوظيف السياسي


لم تسلم أزمة كورونا التي اِجتاحت العالم من التوظيف السياسي رغم أنّها أزمة صحية بالأساس، لكنّها جعلت العالم يقف على قدميه مُترقبًا آثارها واِرتداداتها على الدول وعلى النظام العالمي، وعزز فكرة أنّه لا نجاة اليوم للجزء إلاّ بنجاة الكل، فما أصغر هذا العالم الّذي تعطس فيه الصين فتمرض أقاصي الأرض شمالاً وجنوبًا، ويرتبط مصير الكرة الأرضية بدواء منتظر لازال يحير أكبر المخابر وأعظم الباحثين والأطباء.
وجدت الصين نفسها مُبكرا في قفص الاِتهام تُواجه اِنتقادات كبيرة في تعاطيها مع الأزمة منذ بدايتها، حيث اُتهمت بالكذب وعدم الشفافية مع مواطنيها ومع العالم في إعطاء المعلومات بشأن الفيروس الجديد والتكتم الشديد في التعامل معه، كما أنّها لم تسمح لحد الآن للمحققين الدوليين بالدخول لمدينة ووهان، وهذا ما زاد من التساؤلات حول حقيقة الدور الصيني في هذه الأزمة، فهل هي من خلقتها أم أنّها اِستثمرت فيها؟
هذه الاِتهامات ما فَتِئَ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في كيلها للنظام الصيني واصفًا كورونا بالفيروس الصيني في مُعظم تصريحاته، وهو ما فُهِمَ على أنّه نوعٌ من التوظيف السياسي لمحاولة النيل من النموذج الصيني، الّذي اِستطاع التحكم في الفيروس وإعادة تشغيل النظام الاِقتصادي الكبير ليصبح هو المخزن الخلفي للعالم فيما يتعلق بالمُعدات الطبية اللازمة للمواجهة.
ترامب لم يسلم هو الآخر من التوظيف السياسي للأزمة الّذي مارسته أحزاب المعارضة ضدّه، حيث وجد نفسه في قلب الإعصار جراء الاِنتقادات الشديدة لمرشحي الحزب الديمقراطي الذين ركزوا على الإدارة السيئة للأزمة وسوء التقدير لعواقبها في بداياتها، للنيل من ترامب الجمهوري على بعد أشهر قليلة من الاِنتخابات الرئاسية المزمعة في نوفمبر القادم.
إنّ الاِستغلال السياسي للوباء أعاد إلى الواجهة تساؤلات عديدة عن كفاءة النظام الدولي وقُدرة الولايات المتحدة الأمريكية على البقاء في ريادة العالم، وأثار تساؤلات عن كفاءة الأنظمة الصحيّة لدول مُتطورة على غرار الولايات المتحدة الأمريكية، إيطاليا، فرنسا، إسبانيا... التي تهاوت أمام فيروس كورونا في ظرف قياسي، وروّج للكفاءة الكبيرة التي أظهرتها دول شرق آسيا في التعاطي مع الأزمة والتحكُم فيها، ثمّ إنّه أثار التساؤل بشأن كفاءة الأنظمة الديمقراطية الغربية في هذا النوع من التحديات وهي التي طالما تغنت بريادة العالم في مختلف المجالات بِمَا فيها الصحية، وعزّزَ الحديث عن مدى نجاعة هذا النموذج وقدرته على الاِستمرار.
إنّ هذه الأزمة أثرت على تنظيم العلاقات بين الدول في إطار مواجهتها للوباء واِستعدادها لمرحلة ما بعد الكورونا، لذلك يكثُر الحديث عن تحالفات جديدة وبروز قِوى اِحتلت مساحات جديدة بفضل تحكمها في الأزمة سريعًا واِتجاهها إلى تقديم المساعدات للدول المُتضررة، وهو الأمر الّذي كان إعلاميًا محلَّ جدلٍ كبير واٍتهامٍ لدول مثل الصين وروسيا بالتوظيف السياسي للأزمة للنيل من الوحدة الأوروبية جراء مسارعتها لتقديم المساعدة لإيطاليا، لكنّه في الجهة المُقابلة قاد إلى الحديث عن القيم ومبدأ التضامن الدولي وجدوى العضوية في منظمات إقليمية لها وزنها على غِرار الاِتحاد الأوروبي، في ظل تأخر المساعدات الأوروبية والأمريكية للحليفة إيطاليا المُتضرر الأكبر من الوباء في أوروبا ومُسارعة الصين وروسيا لمساعدتها.
يبدو أنّ أزمة كورونا قد أخرجت الوجه السيئ للعالم.. أخبار كاذبة، أرقام خاطئة، خِطابات كراهية، سطو على قوافل المساعدات، توظيف سياسي... مُمارسات اِنخرطت فيها الدول والأشخاص بطريقة ميكيافيللية، ضاربةً عرض الحائط بالقيم والأخلاق التي طالما تغنت بها الدول خاصة الغربية منها التي نزعت نحو الواقعية الحادة، وهو الأمر الّذي يطرح تساؤلات عديدة بشأن حقيقة البُعد الأخلاقي في العلاقات الدولية، وفي الجهة الأخرى يقول عُمدة نيويورك في تصريح له مُخاطبًا العالم: «يجب أن تساعدونا لتساعدوا أنفسكم... يجب أن نتصرف كأمة واحدة»، مُشددا على أنّ مصير العالم مرتبطٌ ببعضه البعض وحينما تنجو نيويورك فهو طريق لعدم اِنتشار الوباء في بقية العالم، وهذا التصريح يحمل في طياته إشارات عميقة على ضرورة أخلقة العلاقات الدولية واِبتعادها عن البراغماتية الشديدة ومنطق الاِستغلال السياسيّ للأزمات.

- خالد طبيخ/ أستاذ العلوم السياسية -جامعة صالح بوبنيدر-قسنطينة3
براغماتية برائحة الموت


إنّ المُتمعن في مآلات وتطورات الأحداث المُرتبطة بتفشي وباء كورونا، يمكنه ببساطة شديدة أن يتيقن بأنّ هذه الأزمة الوبائية ستشكّل نقطة تحوّل خارقة، ومنعطفًا ومنعرجا شديد الخطورة في شكل وطبيعة العلاقات والممارسات مُستقبلا بين الدول (الكُبرى خاصة) وداخلها أيضا. حيث أنّ أكثر ما كشفه تفشي وباء كورونا وتداعياته الخطيرة، هو كثير من مظاهر الأنانية السياسية وتغليب النزعة الفردانية والاِنعزالية، وسيادة منطق «الغاية تُبرر الوسيلة» في مُجابهة هذا الوباء القاتل الّذي يجتاح العالم بأسره ليس فقط على مستوى العلاقات بين الدول ولكن حتى داخل الدولة الواحدة أيضا.
ومنه نتساءل: إلى أي مدى حقيقة صارت الأنظمة والمجتمعات وكلّ مكونات وفواعل النظام العالمي تعمل على الاِستغلال السياسي والتوظيف الأيديولوجي لجائحة «كورونا» من أجل تحقيق مكاسب سياسية وإستراتيجية واِقتصادية، رغم المآسي الإنسانية ومئات الآلاف من ضحايا الوباء العالمي؟
يمكن القول بأنّ تفشي ظاهرة الأدلجة (والتي تعني تغليب الأيديولوجية وتسييس القضايا واِعتمادهما كمعيار في تبني أي سلوك أو ممارسة في كلّ المجالات وحتّى في المبادرات الإنسانية وفي مُجابهة الأزمات والكوارث) والتوظيف السياسي لجائحة كورونا صار فِعلاً حقيقة بارزة على الساحة الدولية، في سابقة هي الأولى من نوعها التي تشوب التضامن الدولي لمجابهة الأوبئة العالمية، ودليل ذلك هي تلك الأمثلة العديدة في العالم عن تغليب المصلحة الضيقة للدول والأفراد على حساب مصلحة البشرية والعالم بأسره، وللتحقق من هذا الاِفتراض سنركز على «المستوى الدولي» وخاصة على اِستراتيجيات التعامل لثلاث دول عظمى يرى أغلب المحللين بأنّها ستمثل مستقبلا أضلاع مثلث نظام عالمي جديد لما بعد كورونا «الولايات المتحدة الأمريكية، الصين وروسيا».
وانطلاقاً من هذا المستوى الدولي يمكن البدء من السجال الحاصل بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين وحالة الاِتهامات بينهما التي لم تتوقف بشأن المسؤولية عن تفشي الوباء، فالرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» كان يصر دائمًا على تسمية الكورونا «بالفيروس الصيني»، كما اِتهمت «واشنطن» رسمياً «بكين» بالمسؤولية عن التفشي العالمي للفيروس، تارة بسبب خطأ في تجارب مخبرية صينية، وتارة أخرى لعدم اِنتهاج الصين للشفافية والصراحة الكافية وعدم كشفها عن المعلومات الكاملة التي تتعلق بالفيروس، واِعتبارها دولة غير ديمقراطية ولا تسمح بحرية التعبير وحقوق الإنسان (والقصد هنا طريقة تعامل السلطات الصينية مع الطبيب المُكتشف لوباء كورونا)، وهو ما يمثل قمة الاِستغلال العنصري لموطن الفيروس لضرب منظومة الحُكم الصينية، وضرب مصالح ومصداقية الصين دوليًا وتبرير فشل الإدارة الأمريكية في إدارة الأزمة الصحية وتأخرها في اِتخاذ الإجراءات المناسبة لمجابهته ومن ثم توجيه الرأي العام الأمريكي نحو مسائل هامشية.
على الجانب الآخر من المعادلة تروّج الصين ومعها روسيا عمليًا لأيديولوجية جديدة قوامها أنّ «عالم القُطب الواحد» الّذي نشأ بعد اِنهيار الإتحاد السوفياتي السابق اِنتهي بغير رجعة، وأنّ أمريكا المنهارة صحيًا والعاجزة عن مواجهة تداعيات الوباء صحيًا واِقتصاديًا لن تستطيع قيادة العالم مُجددا في مرحلة ما بعد كورونا.
كما عملت روسيا ومعها الصين بكلّ طاقتهما على التشكيك في قدرة الإتحاد الأوروبي على البقاء بعد الآن، كما تحاولان دائمًا الترويج لفكرة «أنّ إتحادا من 27 دولة لا يستطيع أن يُوفر حتّى أجهزة التنفس الاِصطناعي ومعدات الوقاية الصحيّة»، والتي وفرتها لاحقًا روسيا والصين لإيطاليا وإسبانيا وصربيا، لكن التساؤل الكبير الّذي يطرح نفسه هنا يتمثل في «حقيقة الثمن السياسي» الّذي طلبته موسكو وبكين من هذه الدول الأوروبية مقابل هذه المساعدات الطبية العاجلة؟.. والإجابة هنا «إنّه الاِستغلال والتوظيف السياسي للوباء» أي ببساطة أنّ «إيطاليا» هي الدولة الوحيدة أوروبياً التي دخلت في مبادرة «الحزام والطريق» الصينية، وتحاول الصين أن تظل روما ثابتة في هذه المبادرة خاصة بعد مرحلة الكورونا في ظل الضغوط الأوروبية الأمريكية السابقة لكي تُراجع موقفها، كما أنّ المساعدات الروسية لأوروبا فتحت الطريق حسب العديد من القراءات لإمكانية وقف «العقوبات الاِقتصادية والسياسية» الأوروبية ضد موسكو، والتي فرضها الإتحاد الأوروبي بعد دخول القوات الروسية لشبه جزيرة القرم عام 2014 وأزمة أوكرانيا.
هذا وقد اُستغلت كذلك أزمة كورونا من قِبل العديد من المعارضين في دول العالم للنيل من الحكومات القائمة وذلك بالتركيز على زوايا إدارتهم السيئة للأزمة، مثلما حصل مع الرئيس الأمريكي «ترامب» الجمهوري عندما اُنتقد بشدة من طرف النواب الديمقراطيين للنيل منه وتحطيم شعبيته المتهاوية أصلا، بسبب سوء إدارته للأزمة الوبائية، وخاصة مع اِقتراب موعد الاِنتخابات الرئاسية.
عمومًا فإنّ قضية أدلجة الأزمات الصحية وتوظيفها سياسيًا سواء على مستوى الدول أو داخلها عمل وسلوك غير أخلاقي، خاصة في ظل خطورة وحساسية هذه المرحلة، والعالم لازال يئنُّ تحت وطأة الجائحة العالمية المستشرية التي تحصد الآلاف من الأبرياء يوميًا، فالأولى هنا من كلّ البشر هو توحيد جهودهم وتنسيقها عالميًا لمجابهة هذا الوباء، بدل اِستغلال الوضع والاِصطياد في المياه العكرة وتعظيم دالة الأرباح السياسية أو الاِقتصادية، لأنّ هذا العالم يضم الجميع، وللجميع مكان فيه بعد كورونا، ومحكمة التاريخ لا ترحم فإمّا إلى مجد لا ينتهي وإمّا إلى مزبلة التاريخ التي لا تمتلئ.

- مريامة بريهموش/ أستاذة وباحثة أكاديمية -كلية العلوم السياسية، جامعة قسنطينة3
فيروس كورونا منذ بدايته كان نموذجاً لمحاولة أدلجة الأوبئة


منذ اِنتشار وباء كورونا ومحاولات التفسير الأيديولوجي له لم تتوقف، حيث يربطها البعض بالمؤامرات السياسية والاِقتصادية التي ستحدّد القوّة أو القِوى الجديدة التي ستُهندس للنظام العالمي الجديد، في حين هناك من يعتبرها عقوبة إلهية للإنسان الّذي ظنّ نفسه قد وصل حد القدرة المُطلقة بفضل اِختراعات وطفرات تكنولوجيا فاقت الخيال، لكن جاء هذا الفيروس ليضع الإنسان في حجمه الحقيقي أمام فيروس لا يُرى بالعين المجرّدة، إلاّ أنّ أكثر هذه التفسيرات ألماً هو الإلحاق العرقي والديني للفيروس، لقد كان فيروس كورونا منذ بدايته نموذجاً لمحاولة أدلجة الأوبئة وربطها بالعنصرية العرقية والجغرافية، إذ أنّه خلال فترة تمركزه في الصين فُسر على أنّه لعنة إلهية حلت بهم جراء إلحادهم وتبنيهم عادات مُقززة في معيشتهم وكذا قمعهم للإيجور المسلمين، ولكن عندما أُصيب به الرجل الأبيض في أوروبا وأمريكا بل وأنّه اِنتشر حتّى في البلاد الإسلامية نفسها اِختلف الأمر ووقع المؤدلجون في أزمة، ففيروس الكورونا أصاب الفقراء كما الأمُراء على حدٍ سواء، لتأتي الأحداث اللاحقة لتطوره. وتؤكدَ أنّه أحد النماذج الحيّة للوباء العابر للحدود ولا يرتبط بعرق ولا منطقة ولا دين ولا طبقات اِجتماعية، وأنّ سياسات القِوى الكُبرى الدائمة لتأمين نفسها من عبور الأمراض المعدية لهم من خلال بعض دول العالم النامي، أو حماية صحة شمال العالم من أوبئة جنوبه لم تعد قائمة، فالأمن الصحي الّذي هو أحد أهم أبعاد الأمن الإنساني صعد إلى الواجهة ليؤكد أن لا مكان للعقائد الأمنية التقليدية في مواجهة التهديدات اللاتماثلية والتي تُصنف الأوبئة كواحدة من أخطرها.
لقد فجرت عمليات الإغلاق والحظر التي فرضتها الحكومات لمكافحة كورونا كوامن التحشيد العدواني من خلال تنشيط النزعات القومية والقبلية والعنصرية والأيديولوجية، عن طريق اِستعمال خطابات سياسية قديمة جديدة تتبناها الأنظمة السياسية لمواجهة أزمات أخرى داخلية أو خارجية هي أكثر فتكًا، إذ منحتها الساحات المُعولمة على مستوى الفضاء الأزرق الفرصة للتغطية على عجزها في مواجهة الوباء حتّى في الدول التي طالما حققت الريادة في نظامها الصحي، فبدلاً من السعي لإيجاد علاج للفيروس دأبت الأنظمة السياسية لعدد من دول العالم مثل روسيا الصين الولايات المتحدة الأمريكية إيران على اِستغلال الأزمة الصحيّة لتسجيل نقاط في «حياة ما بعد كورونا»، على اِعتبار أنّ «النظام العالمي سيتغيّر بعد الجائحة»، خصوصاً في ظلّ الأزمة الاِقتصاديّة المُرتقبة.
وكان من بين تلك المحاولات أنّ كلّ دولة باتت تروّج «تقارير» تصوّر جهود الدول الأخرى في القضاء على الوباء على أنّها «غير كُفأة» مقارنة بجهودها هي، ونشر نظريات المؤامرة حول أصول «كوفيد19»، فنجد الولايات المتحدة الأمريكية تسعى جاهدة لتحميل الصين المسؤولية الأخلاقية لاِنتشار الفيروس في العالم حتّى وصل حد وصف الرئيس الأمريكي للفيروس بالفيروس الصيني وهو بهذا يُصفي حسابات سياسية واِقتصادية مع الصين، لقد أصبح واضحاً أنّ العديد من الأنظمة جعلت من وباء كورونا مُوسماً للدعاية السياسيّة.
صحيح أنّ الإنسان خاصة المُتدين يُميل بطبعه إلى إضفاء السحر الديني في تفسيره لكلّ ما يحل به، إلاّ أنّ اِتساع آفاق الإنسان ومداركه واِزدياد معرفته بحقيقة تلك الظواهر وأسباب حدوثها قد قلص من التفسيرات العقائدية  التي لم تعد رائجة إلاّ في أوساط المجتمعات البدائية الفقيرة علميًا ومعرفيًا.
إنّ الاِعتزاز بالإيديولوجية في أوقات الرخاء المادي والفكري قد يكون لها جوانب إيجابية من حيث تأثيرها على حماسه ودفعه للتألق، إلاّ أنّها ينبغي أن تغيب في الأزمات، فالمجتمعات تحتاج إلى ما يجمعها وليس إلى ما يفرقها، وهذا الوباء العالمي لن يُقضى عليه صحياً إلاّ بعد القضاء عليه اِجتماعياً من خلال التضامن وتغليب المصالح العُليا على جميع الإيديولوجيات والنفي الاِجتماعي.

- نبيل دحماني/ أستاذ وباحث أكاديمي -كلية العلوم السياسية، جامعة قسنطينة3
محاولة أدلجة الأوبئة تتحدّد من خلال سلوك تتبناه بعض الحكومات والدول الغربية


تتحدّد محاولة أدلجة الأوبئة في عالمنا المعاصر من خلال سلوك رد الفعل الّذي تتبناه بعض الحكومات والدول الغربية تجاه اِنتشار الأوبئة العابرة للحدود، وعلى الرغم من أنّ إقحام الإيديولوجيا هنا لا يمت بصلة لمنطلقات فكرية ولفلسفات معينة غير أنّه خلال العشرية الأخيرة أخذ ذلك منحىً مهمًا من خلال أطروحات الأمن الصحي للدول والأمن الصحي العالمي اللذان تزايد الاِهتمام بهما بعد تزايد حالات العدوى والأوبئة العابرة للحدود والقارات، كما هو الشأن بالنسبة لـ: الايدز، أنفلونزا الطيور، أنفلونزا الخنازير، ثمّ السارس والمارس وزيكا وأيبولا وصولا إلى كوفيد19 المستجد والّذي يُعد أخطر حلقة في مسلسل صعود الأوبئة على مستوى العالم.
لقد اِتجهت الأبحاث حول الأمن الصحي ذات الخلفية الإيديولوجية بمعنى المركزية الغربية، التي تدعي التفوق التكنولوجي والعلمي وامتلاك أعتى وأقوى النُظم الصحية في العالم في مقابل الأطراف غير الغربية في الشرق والجنوب والتي تُوصف بأنّها الأقل تقدمًا وأكثر هشاشة في مجال النُظم الصحية والغذائية وغيرها، لذلك حاول الغربيون بِمَا فيهم (سايمون راشتون) التي كتبتْ مقالاً حول الأمن الصحي العالمي: الأمن لمن ومِنْ ماذا؟ تسعى من خلالها لتأمين الدول الغربية في الشمال من اِنتقال الأوبئة والأمراض إليها من عالم الجنوب المُتخلف، ففي ثنايا المقال يمكن اِستخلاص أنّ هناك شكلٌا من أشكال العنصرية العرقية والجغرافية وحتّى المعرفية.
ورغم أنّ العالم يعيش اليوم في كنف نظام عالمي مُعولم لا يُؤمن بالحدود ولا بجغرافيات الأعراق والأجناس. غير أنّ هناك بعض التوظيفات غير المتناهية لهذه الخلفيات أو تلك، من حيث أدلجة مسار الوباء وانتشاره أو استخدامه كورقة ضغط تفاوضية ضدّ دول بعينها كحالة الولايات المتحدة وإيران، مِمَا يزيد من حِدة التوتر الدولي وتشتيت الجهود الرامية لمحاصرة الوباء، كما يُشيع حالة من اِنعدام الثقة بين الدول أو بين الدولة الواحدة ومواطنيها، بفعل طبيعة السياسات التي قد تتبناها في مجابهته كحالة بريطانيا، فيما نجد هناك من يرده إلى وجود مؤامرات سياسية واقتصادية أو اِستخباراتية عابرة للحدود، أو اِعتباره هجومًا بيولوجيًا وإرهابًا جديدا.
لعلّ أهم موقف سُجِل حول هذا السلوك العنصري الملفوف بالخلفيات اليمينية والشعبوية ذات الاِستغلال الاِنتخابي والسياسوي تغريدة الرئيس الأمريكي الحالي واصفًا الوباء بأنّه «فيروس صيني»، مِمَا أثار حفيظة الصينيين، واعتراضهم على هذا التصريح من شخصية سياسية عالمية، ومِمَا خلق فجوة داخلية حتى داخل المجتمع الأمريكي الرافض لتهور ساسة بلده، ولم تكن هذه الحالة الوحيدة فقد عانى الصينيون الكثير من العنصرية والتمييز في أنحاء العالم، ووُجِهتْ لهم الكثير من الاِتهامات بشأن إخفائهم لبدايات اِنتشار الوباء، أرجعه البعض إلى كونه السبب المُباشر الّذي سمح بالاِنتشار الواسع للعدوى، كما زادت سرعة اِنتشار الوباء من حِدة الاِتهامات والنقاشات السياسية والإعلامية بين الدول، حتّى كاد العالم أن يتصوّر نفسه أمام مؤامرة عالمية كُبرى لضرب اِقتصاديات الدول وسلامة مواطنيها، واستعانت الحكومات المختلفة بشتّى أنواع الحجر والمنع لتنقل الأشخاص منها وإليها، وأصبح الاِهتمام العالمي مُنصبًا على تأمين الحدود والوسائل المناسبة لمجابهته.
وحتّى التصريحات الأخيرة لمُمثل منظمة الصحة العالمية لم تخلو من هذه الأدلجة المُبيّتة للوباء حين وصف الدول في الجنوب بأنّها «صغيرة» و»فقيرة» كما هو الشأن في أفريقيا تحديداً، وبأنّها ستكون عرضة لمضاعفات كبيرة للوباء بدعوى ضُعف منظوماتها الصحية واِعتماداتها المالية، على الرغم من أنّ الكلام فيه الكثير من الحقيقة، غير أنّه لم يحث الدول المتقدمة في الشمال على بحث السُبل والآليات الاِقتصادية المُناسبة لمساعدة هذه الدول الضعيفة. في حين تحاول كلّ دولة على اِنفراد بذل قُصارى ما في وسعها لمجابهته كحالة الجزائر والمغرب وتونس ومصر شمال القارة، وقد ساهمت هذه الجائحة في بعث أخلاق الاِعتماد على الذات والإبداع فأصبحت الجزائر مثلا تصنع الكمامات والبدلات الواقية، ووسائل الكشف، وقامت برقمنة آليات المُتابعة والحصر لاِنتشار الوباء، والاِستعانة حتّى بالقطاع الحربي في جلب الوسائل الطبية والوقائية من دول صديقة وشقيقة كالصين، ناهيك عن تنظيم عمليات اِستقبال المرضى ووضع نقاط للاِستقبال وتوجيه الأفراد من خلال الأرقام الخضراء، دون أن تنخرط في خِطاب اِتهام الآخر. حيث كشف هذا الوباء على حقيقة أهمية تطوير قطاعات البحث العلمي، والمنظومات الوقائية والصحية، وضرورة اِنضباط الأفراد ووعيهم تجاه الأخطار الممكنة.
يعيش العالم اليوم حربًا عالمية من نوعٍ مُختلف تمامًا عمَّا عاشته البشرية سابقًا، حيث تدور رحاها بين الدول مجتمعة أو فرادى ضدّ فيروسات لا تُرى بالعين المجرّدة؛ في الوقت الّذي تكشف فيه الطبيعة عن وحشيتها، التي لطالما تفاخر أحفاد (غاشتون باشلار) بأنّ العِلم من شأنه أن يَحُدَ من خطر الطبيعة ويتحكم في ظواهرها. لذلك فمحاولات الأدلجة للأوبئة لا تعدو أن تكون ذر للرماد في عيون الناس في العالم وإلهاءهم عن القضايا المركزية التي تُثار حول الموضوع من قَبيل اِحتكار المعرفة واِنعدام ديمقراطية المعلومة وضعف منظمة الصحة العالمية واِحتكار مخابر تصنيع الأوبئة، وبراءات الاِختراع التي تحد من قدرة دول الهامش على اِمتلاك وسائل التصدي الحقيقية للأوبئة.

الرجوع إلى الأعلى