في هذا الحوار، يتحدث الكاتب والناقد والأكاديمي الدكتور عبد الله العشي، عن الرواية وما يدور حولها من أراء واعتقادات والتي في أغلبها تقول بعدم عافيتها في السنوات الأخيرة ولأسباب متعددة. مُوضحًا بهذا الخصوص أنّ مؤسسات الجوائز فرضت على القراء أدباء معينين وموضوعات معينة وكتابات معينة، دون أن تكون تلك بالضرورة مؤهلة لتحتل ذلك المقام وتنال تلك القيمة، وفي المقابل مؤسسات إعلامية استطاعت أن تُعدل توجهات الكُتّاب والباحثين. وإلى جانب هذا فثمّةَ أوهامٌ تصنعها حول الأدب مؤسسات إعلامية أو مالية أو سياسية. كما تطرق العشي في نص الحوار لإشكالية أخرى تتمثل في موقع الناقد، إذ يرى هنا أنّ هناك من النقاد من جاء إلى النص الأدبي من خارج الأدب ومن خارج النقد، يستعمل لغة من سياق آخر، ويخوض «معركة» يبدو أنّ موضوعها هو الأدب، لكن الأدب ليس سوى مجرّد ميدان لها. لهذا يحتاج الناقد أن يكون مؤسسة بذاته، متحررا من أي إكراه، ومستقلا بعقله، عن أية غايات أو مصالح غير علمية. كما تحدث عن وسائط التكنولوجيا الجديدة وعلاقتها بمساحات الحرية، مؤكدا بهذا الخصوص أنّها وسائط لم تُقوض مؤسسة الرقابة ولم تحد من سلطة الرقيب، إذ ورغم وهم الحرية -حسب قوله- الّذي صاحب الوسائط الحديثة التي يبدو من ظاهرها أنّها تفتح باب الحرية للمبدع على مصراعيه، إلاّ أنّ مستوى الرقابة فيها ربّما يكون أعلى، بحيث تجاوز الرقابة إلى الجوسسة.

حاورته/ نـــــوّارة لــحـــرش
أغلب النقاد في السنوات الأخيرة، يقولون إنّ الرواية ليست بخير. ما الّذي يدفعهم إلى هذا القول؟ وكيف يمكن تفسير ما يدعيه البعض من وجود أزمة في الرّواية؟ وهل الكم الهائل من الروايات التي تصدر كلّ يوم لا يعني بالضرورة أنّه دليل عافيتها بقدر ما يعني أنّه وبشكلٍ ما دليل أزمتها؟
- عبد الله العشي: ثمّةَ أوهامٌ تصنعها حول الأدب مؤسسات إعلامية أو مالية أو سياسية، أو خليطٌ يجمعها جميعًا، وتشكل عنه صورة هي أقرب ما تكون إلى سلعة من السِلع، والغريب أنّ هذه الأوهام تجد صدى قد لا تجده منجزات المؤسسات الأكاديمية المختصّة، انظر مثلا مؤسسات الجوائز كيف فرضت على القراء أدباء معينين وموضوعات معينة وكتابات معينة، دون أن تكون تلك بالضرورة مؤهلة لتحتل ذلك المقام وتنال تلك القيمة، وانظر كيف استطاعت مؤسسات إعلامية أن تُعدل توجهات الكُتّاب والباحثين وتقلبهم ذات اليمين وذات الشمال، وأن تصنع أساطير وتصورات خيالية حول الأدب.
ومن هذه الأوهام وتلك الأساطير ما صنعته حول الرواية، فمقولة «زمن الرّواية» واحدة من تلك الأساطير، فالرّواية لها حدودها التي تتحرك في فضائها ولها وظيفتها ضمن سياق المعرفة البشرية ولا يمكن أن تكون بديلا لأي شكل أدبي. لكن هذه المؤسسات قدمت صورة وهمية أوحت للقراء أنّ هذا زمن الرواية فقط، فهب الخلق إلى كتابتها، يكتبها الروائي المحترف، ولكن يكتبها أيضا الإعلامي والمعلم والمؤرخ والسياسي وأستاذ النحو ورجل الدين والفيلسوف وعالم الاِجتماع وعالم النفس ومن لا ينتمي إلى أي عِلم وغيرهم من الذين ليسوا أدباء أصلا، لكن جلال الرواية المصطنع اِستهواهم وجرهم إليها جراً، ليس العيب في الرواية لكن في هذا الوعي الشقي الّذي تَشكَل حول الرواية، وفي هذه الاِنتفاضة التي حركتها مُوجِهات لا صلة لها بالأدب، والأغرب أن يتخلى بعض الشعراء والقصاصين عن شِعرهم وقصصهم ويلتحقوا بــ»مجتمع الرواية» الّذي تحكمه سلطة ذات طابع ديكتاتوري.
ونظرا لهذه الأوهام، ولهذه الهبة الروائية، فإنّنا نجد أنفسنا أمام روايات هي إمّا قصص قصيرة اِستعجلت الأمر وأرادت أن تُحلق في عالم الرواية، وإمّا أنّها حكايات لم تبلغ الرشد بعد، وإمّا أنّها سير شخصية وتخييلات ذاتية لا تكفي موضوعاتها ورؤيتها لأن تكون رواية، وإمّا أنّها سرد تاريخي لم يتمكن بعد من أن ينتشل شخصياته وأحداثه من ثقل التاريخ، وإمّا أنّها حكايات محدودة الرؤية هي أقرب إلى الخواطر منها إلى العمل الروائي. وحتى الأعمال الروائية التي أثبتت شخصيتها وحضورها غالبًا ما تُراهن إمّا على الكم القائم على إسهاب سردي لا ضرورة له، وإمّا على السير وراء خطى روايات شهيرة، وإمّا على موضوعات هي من اِنشغالات تلك المؤسسات الكُبرى المُوجهة للأساطير الأدبية، موضوعات مثل التسامح والحرية الدينية والحوار الثقافي والعولمة الثقافية وغيرها.
لم يعد الروائيون، إلاّ قلة، يُضيفون إلى الرواية إلاّ عبئا يُثقل كاهلها وقصوراً أسلوبيًا يُشكل خطراً عليها، الرّواية ليست مجرّد سرد لأحداث فقط، بل هي مشروع فكري وفلسفي واجتماعي يتخذ من الأحداث والشخصيات وسيلة له يتجسد من خلالها، وهذا ما ينقص أغلب الروايات الآن فهي تكتفي بالبنية السطحية وبنظام السرد وتتجاهل الرؤية الفلسفية والجمالية التي تُؤسس لها، لذا فالرواية ليست بخير ولا يمكن أن تكون شعبيتها الحالية دليلاً على صحتها بل هي دليل على أزمتها، كما أنّ ما يُكتب عنها لم يُقدم إلاّ القليل بسبب نمطيته وتكراره.
على ذكرك لِمَا يُكتب عن الرواية. كأنّ الكثير من النقد لا يخرج عن دائرة المحاباة والمجاملات والمعاداة وتصفية الحسابات.  لماذا برأيك ينحرف النقد عن مهمته ورسالته وسكته؟
- عبد الله العشي: حتّى لا يُفهم أنّ هذه الظاهرة هي المُمثلة للنقد الأدبي الجزائري، أُشير إلى أنّ هناك مُمارستين نقديتين، إحداهما تشبهها في الهدف وإن كانت نقيضًا لها في الشكل، وهي النقد القائم على المُجاملة والمحاباة، والأخرى المُختلفة عنهما في الشكل والهدف، وهي النقد العلمي الموضوعي. والممارسات الثلاث حاضرة في الخطاب النقدي في الجزائر. يمكن أن تكون (ظاهرة العنف) في النقد الأدبي مُرتبطة بحالة اِجتماعية أعم، يُوجهها العنف على المستوى السياسي والإعلامي والتربوي والإداري ثم الثقافي والأدبي، وربّما يعود ذلك إلى البنية النفسية والفكرية للفرد الجزائري الّذي غالبًا ما يُنعت بالقسوة والشدة، وبالتالي بالتمركز حول الذات واستبعاد الآخر (ولهذه الفكرة تفسيراتها التاريخية) لكن هذا التفسير لا يعني جميع الكُتّاب والأفراد، إنّما يتعلق فقط بمن يُمارسون هذا النوع من الكتابة النقدية. إضافة إلى هذا التفسير العام يمكنني أن أفسر الظاهرة، من وجهة نظري، بإعادتها إلى الأسباب التالية:
السبب الأوّل يتعلق بـ»الناقد» الّذي لم يبلغ بعد درجة الوعي النقدي، ولم يدرك دلالات فعل النقد، ولا مسؤوليات الممارسة النقدية، إنّما يتصرف بعقل تَشَكل خارج «المؤسسة النقدية»، ونما خارج  قيم العِلم والثقافة، وتُوجهه رغبات أو خلفيات ذاتية، فجاء إلى الكتابة «فقيرا» إلى لغة النقد ومناهجه وأساليبه وأهدافه المعرفية، جاء إلى النص الأدبي من خارج الأدب ومن خارج النقد، يستعمل لغة من سياق آخر، ويخوض «معركة» يبدو أنّ موضوعها هو الأدب، لكن الأدب ليس سوى مجرّد ميدان لها. صحيح أنّ هناك نصوصًا لا تستحق شرف الاِنتماء إلى الأدب، لكن النقد يمتلك من الآليات اللغوية والمنهجية والمعرفية ما يستطيع بها وصف حقيقة تلك النصوص، ويمتلك سلطة تستطيع إخراج «النتوءات الأدبية الدخيلة» من دائرة الأدب.
والسبب الثاني يعود إلى المؤسسة التي تُروج لتلك الكِتَابات وتسمح لها بالعبور، (سواء كانت مجلات أو جرائد أو مواقع إلكترونية  أو دور نشر الخ...)، فإمّا أنّ هذه المؤسسات تفتقر إلى الوعي الثقافي وإمّا أنّها مُتورطة مع الكاتب.
والسبب الثالث قد يعود إلى «الحراك النقدي» العام، الّذي لم يتمكن من تأسيس تقاليد تُمثل «سلطة رمزية» مُلزمة، هذا الحراك يصنعه الكاتب والناشر والقارئ والمؤسسة الإعلامية والأخلاق الاِجتماعية.
ولا شك أنّ ظاهرة «المركزيات الصُغرى» (الشللية)، والتي تشكلت في غياب مشروع ثقافي عام يجمع الأغلبية على قواعد عامة وقيم كُبرى، دعم هذا التوجه السالب. لكن المُمارسة الأخرى المُقابلة، ممارسة المجاملة والمحاباة، ليست أقل ضررا من هذه، فهي كثيرا ما ترفع «كتبة» إلى درجة الكُتّاب وتصنع منهم رموزا تُضلل القارئ والرأي العام. لا يعمل هؤلاء وحدهم، فهم يمثلون طبقتهم أو مجموعتهم أو «مركزيتهم الصغيرة» أو مؤسسة غير أدبية، وللأسف فإنّ عددا من الأسماء والنصوص هي من صُنع «مؤسسات» غير أدبية، تقف في الظل وتستغل كُتّابًا من هذا النوع أو ذاك بشكلٍ ذكي، وتدفعهم للنطق بلسانها. وعليه، يحتاج الناقد أن يكون مؤسسة بذاته، متحررا من أي إكراه، مستقلا بعقله، عن أية غايات أو مصالح غير علمية. هذا مع الإشارة إلى وجود نقاد علميين موضوعيين حريصين على ماهية النقد الأدبي ومنهجه وأهدافه، يستحقون التقدير، ولا ينبغي أن يكونوا، في ظل أوضاع ثقافية ضالة ومُضللة، ضحية ممارسات لن تسجل لها موقعًا في التاريخ. لنقل في النهاية إنّ هذه الظاهرة طبيعية، وإن لم تكن صحية، وليست أمراً طارئًا في ثقافتنا القديمة والحديثة، وبقدر تطور النقد الموضوعي سوف تنكمش هذه الممارسات السلبية سواء في الكتابة أم القراءة.


من سلطة النقد والناقد وبعض ممارساتهما، إلى سلطة التكنولوجيا. برأيك هل الحرية التي منحتها وسائط التكنولوجيا الجديدة، قد قوّضت مؤسسة الرقابة، وفتحت مجالات عِدة لتحرّر المبدع والكتابة؟
- عبد الله العشي: لا يبدو أنّ سُلطة الرقيب قد ولت؛ فما منحته الوسائط الجديدة للكاتب من إمكانات للتعبير، وما هيّأته من فضاءات للحضور، وما أشاعته من مناخات للتفكير والإبداع، لم يُقوض مُؤسسة الرقابة ولم يَحُد من سُلطة الرقيب، لأنّ الرقابة تطورت وأصبحت تُغير جلدها لتواكب ما يطرأ من تحولات، قد تفقد بعض آلياتها غير المُناسبة للعصر ولكنّها في المُقابل تكسب آليات جديدة قادرة على التكيف، تمامًا مثلما تفعل الأنظمة الديكتاتورية التي تُحافظ على اِستمراريتها بتغيير شعاراتها وبرامجها وآلياتها حتى تتماشى مع التحوّل الجديد، فالرقيب والديكتاتور شقيقان، يعيشان معًا ويُفكران بنفس الطريقة.
كان الرقيب الكلاسيكي، بطريقة غبية، يقطع الطريق أمام الكاتب حتّى لا يصل مقاله أو كِتابه إلى القارئ، يُصادر المجلة أو الكِتاب، ولكنّه كان أحيانا يقبع، بشيء من الذكاء، بتعليماته وقوانينه، داخل الكاتب فيحجب رأيه قبل الصدور. واليوم ، ورغم وهم الحرية الّذي صاحب الوسائط الحديثة التي يبدو من ظاهرها أنّها تفتح باب الحرية للمبدع على مصراعيه، إلاّ أنّ مستوى الرقابة فيها ربّما يكون أعلى، بحيث تجاوز الرقابة إلى الجوسسة التي لا تكتفي بمراقبة محتوى فكري معين كما كان يفعل الرقيب القديم بل تتجاوز إلى مراقبة كلّ شيء، فالشركات الكُبرى التي تملك فضاءات الانترنت يمكنها أن تُراقب كلّ نص يُكتب، أو صورة تُنشر، أو تَحاور يتم بين اثنين، فكلّ المُدونات والمواقع والحسابات البريدية وحسابات التواصل الاِجتماعي تحت سلطتها وبإمكانها أن تحجبها أو تلغي ما يُدون فيها، كما أنّها تستطيع أن تُجيش من تشاء ليُمارس الرقابة ويقوم بعملية التبليغ عن نص أو شخص أو شريط أو صورة أو غيرها. ومُعظم الشركات المُهيمنة على الشبكات العالمية ذات توجه إيديولوجي مُعين يخدم مصالح أنظمة وحكومات، ولذلك فمن الصعب أن تسمح بمرور ما له علاقة مثلا بقضايا العرب والمسلمين وخاصة في صراعهم مع إسرائيل.
عطفًا على كلامك هذا. هل يمكن الحديث عن بروز سياسة رقابية أخرى لا تقل تأثيرا وخطورة عن سابقاتها؟
- عبد الله العشي: كانت الرقابة بمعناها الكلاسيكي ذات طابع محلي، فالنظام يُراقب ما يراه معارضًا له، أمّا اليوم، وبفعل العولمة، فقد أصبحت الرقابة ذات طابع عالمي، ليس من الضروري أن يكون الكاتب من دولة المراقبة حتّى تراقبه بل يمكن لجهاز مُراقبة ما أن يُراقب من يشاء ويحكم عليه، ولعل أوضح نموذج ما حدث للعلماء العراقيين الذين تمت مراقبتهم واغتيال عدد منهم.ربّما كان الرقيب الكلاسيكي يبذل جهدا للوصول إلى النص أو الشخص، وربّما كان ينفق مالاً ووقتًا لإتمام عملية الرقابة، أمّا اليوم، ونظرا لأنّ الكاتب لا يسمح له بأن يطأ الأرض الجديدة، أرض الانترنت، إلاّ إذا قدم كلّ معلوماته، فإنّ الأمر لا يتطلب جهدا ولا وقتا ولا مالا كثيرا.
تكذب الوسائط الجديدة حين تُوهم بالحرية وتدعي أنّها تُوفر فضاءً غير مسبوق لحرية التعبير، وتمنح مساحة لا محدودة للكتابة، إنّها تمنح الحرية لمن تشاء وتمنعها عمن تشاء، لأنّ تلك الوسائط ليست حيادية وليس من غاياتها أن ترقى بالحرية الإنسانية، إنّها مؤسسات ذات برامج تُديرها أنظمة تسعى إلى الهيمنة سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا.
الحرية التي تُوهمنا بها تلك الوسائط هي حرية من يُسير تلك الوسائط، حريته في أن يَصِل إلى كلّ بيت آخر، وإلى كلّ عقل آخر، وإلى كلّ ضمير آخر.

الرجوع إلى الأعلى