قاسمي الحسني عبد المجيد(*)
 يمر العقل البشري عبر العصور بفترات من التخمر، ثمّ ما يلبث أن ينطلق بقوّة رافضًا المسلمات والعادات التي من شأنها شل التفكير وإعاقة الإبداع، ومن ثمّ تبدأ محاولاته الحثيثة لإيجاد الحلول بسرعة وإيجابية، فقد تخلص أهل الإبداع من المفكرين من هيمنة وضغط المسلمات السابقة على العقل الإنساني وأتاحوا لنا العمل بشكل مستقل وحر حتّى توصّلوا إلى تفسيرات أكثر واقعية ومنطقية وشمولية .
يقول هيراقليطس: «إنّك لا تنزل إلى النهر الواحد مرتين!!... لأنّ مياهًا جديدة تجري من حولك». تثيرني هذه المقولة كلّ يوم منذ بدأ تهديد كورونا يحيق بالإنسانية ولحد هذه اللحظة التي أعطيت فيها لقلمي الإذن ببداية الإبحار في لجج هذه الجائحة العجيبة.
لنتساءل في البداية تساؤلات منطقية ستكون الأساس في رحلتنا هذه، التساؤل الأوّل هل ستتغير خارطة الأرض التي اعتدنا عليها لتتشكل خارطة جديدة لسطح الأرض؟ كما حدث التغيير على يد الجغرافيين الخالدين ومنهم «ماجلان» الّذي طبع بالرغم من تخلف أدواته البحثية حقيقة كروية الأرض في عقول البشر بِمَا لا يقبل النقاش، أمّا التساؤل الثاني؛ هل سيتشكل أمامنا كونٌ جديد تتغير بموجبه خارطة السّماء كما حصل على يد «كوبرنيكس» عندما أحدث ذلك الاِنقلاب الكوني الّذي نسف حقيقة كون الأرض مركزا للكون وليس الشمس؟
أمّا التساؤل الثالث؛ هل سيتغير مفهومنا عن جسم الإنسان كما حصل مع «ابن النفيس» و»فيزاليوس» بعد أن باح لنا بسر من أسراره كان قد أخفيَّ عنا تحت بهرجة التطور الكاذب لأدوات العِلم والاِدعاء الهش بأنّنا اِمتلكنا ناصية العِلم حتّى ادعينا بإمكانية اِستنساخ البشر؟
إن الإجابة الساذجة عن هذه التساؤلات تجعلنا نجيب أنّ صورة العالم قد تغيرت بشكلٍ واضح، فلم تعد سماؤنا تلك السّماء التي نطيلُ النظر إليها، وكذلك الأرض لم تعد تلك التضاريس التي نعرفها، وبلا شك لم تعد أجسامنا تلك الأشكال البسيطة التي نظن .والآن لنفكر بمنطقية أكثر، فقد اِختار «ماجلان» الإبحار غربًا للوصول إلى الشرق بإرادته ولنقل اِتبع هدى تفكيره السليم فوصل إلى ما وصل إليه، واختار «فيزاليوس» وبإرادته أيضاً طريق المغامرة من النوع الأخطر فأخضع الجسم البشري لأبشع عملية تشريح ليكشف سراً خطيراً من أسرار دورة الدم من القلب وإليه بعد أن أتعبه النظر إلى عدم وجود اتصال بين الأوردة والشرايين !
بينما اِرتقى «كوبرنيكس» وهو بكامل قواه العقلية مرتقىً صعبًا بمخالفة خلفاء الله في أرضه «رجال الكنيسة» وتعاليمها الاِنغلاقية الرهيبة فيقلب بذلك سيرورة الكون رأساً على عقب وليصرخ في وجوههم بأنّ الشمس هي مركز الكون وليس الأرض كما تدعون !
لحد هذه اللحظة والأمور تحت السيطرة، ذلك أنّنا نستطيع تبرير كلّ أفعال هؤلاء بهدوء، ولكن كيف؟ انظروا ...إنّ الّذي دفع «ماجلان» للقيام بمغامرته تلك هو لإنقاذ الناس من أوهام مضحكة لم يعد العقل البشري  المتطور قادرا على اِحتمالها وتصديقها، ومنها «أي الأوهام» الوهم البطليموسي القائل بأنّ الأرض لو تحركت، ولم تكن ثابتة لطارت الأشياء من على ظهرها !! أو إذا قمت بقذف شيء إلى الأعلى لن يرجع إلى مكانه الّذي قذفته منه !!
ألا يكفي إنقاذ الناس من هذه الأوهام ليكون ذريعة ودافعًا «لماجلان» ليرتحل تلك الرحلة القاتلة المستحيلة ليثبت للناس زيف ما يطوق أعناقهم من قيود وعقولهم من أوهام؟ وركب «كوبرنيكس» مركباً خطيرا لا يقل خطورة عن مركب ماجلان في تسفيهه لفكرة أنّ الأرض ثابتة والشمس هي التي تدور حولها، ولا يخفى ما لهذا الأمر من خطورة تتمثل بالمساس بعقيدة البشر أجمعين، بينما كان على «فيزاليوس» أن ينسف مسلمات أشبه بالعقائد كان قد زرعها الإيمان بأرسطو وابقراتس وجالينيوس، فعمد إلى ما لم يجرؤ عليه أسلافه بتشريح الجسم البشري لسبر أغواره ومعرفة أسراره.
إنّ حدوث هذه الهزات العقلية وهيجان البراكين الاِجتماعية والاِنقلابات النوعية كان من شأنه أن يُغير نمط حياة سكان الكوكب وينقلهم من حال الثبات المطرد إلى حالة الحركة، ومن الغباء إلى التفكير السليم ومن الجهل إلى العِلم ومن الاِنقياد الأعمى للمسلمات إلى التمرد على الأوهام والقيود ويُعيد الحياة للتفكير العلمي بعيداً عن شمولية وسيطرة الفكر المُقدس .
(*) باحث في عِلم الاِجتماع والأنثروبولوجيا –جامعة البليدة02

الرجوع إلى الأعلى