- فـ.ياسمينة بريهوم

كان الناقد في ما قرأنا من كتب يوجّه الكاتب، ويحدّد له المعايير والطرق الملائمة للكتابة الفنيّة، ولعلّ أشهر هذه المناهج في العصور المتقدمة بالنسبة للثّقافة الغربيّة Lettres à un jeune poète لريلكه بعنوانها الألمانيّ Briefe an einen jungen Dichter وأمّا بالنسبة للثقافة العربيّة فهو ما كتبه ميخائيل نعيمة في غرباله. الغربال الذي سما بالكتابة الأدبيّة، وبمهمّة الناقد ورسالة المبدع على السّواء.
فهل فينا اليوم من سيكتب لهواة الكتابة أو من اِختاروا الكلمة للتّعبير عن تجربة الحياة وحاجتهم إلى نقلها لإنقاذ الأدب والذوق؟ أيملك الناقد اليوم القوّة والتأثير الذي كان الناقد يفرضه قبل أن تتعدّد وسائط الكتابة ومنصاتها؟ فيغرينا بقراءة الجديد، ويجلو الغبار عن كثير من القديم؟
وكيف له أن يتخلّى، هو نفسه اليوم، عن دوره كنجم يُعجب القرّاء بصورته، وهو في خفرٍ، يمطّ شفتيه، ويرخي عينيه، أكثر من إعجابهم برأيه، وبأيّ جملة يلعن فيها ويشتم ويقول كلاما بذيئا، حتى يظهر أنّه متمرّد لا يخاف من أية سلطة، أكثر من قناعاته باِحتكامه إلى الجمال، بعد أن اِكتفى من المناهج بجوانبها التي تعطي قدسية الكتاب لكلّ تدوين جمعته دفتان بصورة أحدهم واِسمه، وصار تابعا، وهو الذي كان يخلق الرأي فيُتبع، ولا يتّبع، بقول نعيمة، لأهواء حسناوات، وشروط التّرقيات بما تفرض عليه من المقالات، والمنشورات، عرضا وطولا وفي كلّ الاِتّجاهات. وكيف له أن ينجو من ضغط علاقات يخشى معها الإساءة لصديق، أو مسؤول. لقد مسخت كلّ هذه الاِرغامات الناقد الذي كان مصفاة تسهر على «فلترة» الأدب من أيّ شائبة، إلى موظّف، تدنّى الأدب والذوق أن يكونا همّا له.
إنّ تهميش النّاقد سمح، أيضا، لفصيلة أخرى من الكائنات، بدعوى اِسماع صوت الهامش، أن تحتلّ ساحة النّقد، فأوجدت لنفسها مكانا، بقوّة ملأ صفحات جرائد ومجلاّت، ونجحت في تكريس غربة النّقد والأدب بما تجمّعه من تهويمات غامضة، تستلهم من ثقافات أخرى، في إخراس، صوت اللّغة الجميلة الهادئة للنّقد، اللّغة الشفيفة التي تبني العقول والذوق.
الحقيقة إنّ الناقد الأصيل اليوم لم يعد يحظى بصفة التّوجيه، ولن يكون مرّة أخرى، ذاك الذي يقدّم الطائر المتفرّد الصوت، ولا الباحث الذي يسبر كهوف القراءة ليتنبّأ بالماسة النادرة. فلا أحد يحتاج إلى ملاحظاته، وقد حوّلته صرامته وأصالته إلى ذاك المعقّد الحاقد، الغيور، الذي يدقّق في كلّ تفصيل، ويجري وراء تفاهات لغوية وأسلوبيّة في النّص، لا تفسد إلاّ في رأيه، اللّغة والأدب.
فقد صار بإمكان من يقول: إنّي ذاهب لأنام والنّاس قيام، أن يجد منبرا يعتبرها شعرا. ويؤشرها معجبون بالآلاف بـ»لايكاتهم» و»أدوراتهم»، بخاصة عندما يكون لصاحبها صورة جميلة تحمل من الاِغراء ما اِختفى وما ظهر. إنّ هذه التوابل تجعل من الصعب على أيّ كان، حتى النّاقد «المجامل» أن يقنع صاحبها بأنّها مجرّد توافق حروف لا ترقى إلى الأسجاع الجميلة.
في غياب النقّاد، يعرف الجميعُ الجميعَ على وسائط التّواصل اليوم، وصار الكاتب «الكبير» والكاتب «الشاب»، صديقان يتبادلان الآراء، وهما أسعد ما يكونان من غيرهم من الكتّاب السابقين، بما أنّهما بعيدان عن صوت الناقد الصافي الذي يحتكم للجمال والمعنى والجدّة.
لولا أنّ الاثنين يقعان تحت طائلة طرف ثالث، كنّا نسميه القارئ. القارئ الذي كان يعيش هو الآخر في عالمه عفيفا متخفّيا، لا نعرف منه إلاّ علاقته بالكتاب وجريه وراءه في كلّ اتّجاهات البحث.
إنّه هو الآخر اليوم، طالب يتملّق، وطالبة تهمس باستثناء الموضوع، حتى إذا نالت شهادتها، كشّرت عن جديتها وبُغضِها للأدب ونفورها من الأدباء، ومواطن ولع يوما بالقراءة، فأحبّ أن يمرّن قلمه تحت مظلةِ الإعجاب، وثالث لا اِسم له ولا تصنيف، لا يصدّق أنّه يقتسم صفحة الكاتب فلان، ومنبهر لأنّه يتحدّث في الميسنجر مع الشاعرة علاّنة شخصيا، ويملأ فراغات حسابه بنقل ما يكتبون، فهو حرّ في «صفحته» ولا أحد يقدر أن يحرمه من أن «يكتب» ما يشاء، ما دام لا ينتقد السّياسة بشكل صريح.
وأمام اِكتشافه أنّ الكتابة تجعل منه هو الآخر، شخصا مهما، ذا تأثير، بعد أنّ أثنى الشاعر أو الكاتبة على ما قال! وتراشق بالشتم والسباب مع من كانوا ضدّه، ولم يطله عقاب، يتحوّل عند كثير من الكاتبين إلى «الناقد فلان».
لم يكن ريلكه حين بعث برسائله إلى Franz Kappus كاتبا كبيرا على الأقل عمرا، لكن شعور الشاعر الذي يصغره قليلا، بأنّه بحاجة إلى توجيهه وإرشاده، جعل من الأمر محسوما مسبقا. إذ اِعترف المُرسِل، ضمنيا، بأسبقيّة المرسل إليه، الأسبقيّة التي كانت تصنع التّفرّد، وتميز الابداع صانع الجديد. وكان الناقد حارسها وموثّقها.
أمّا في منصاتنا اليوم بإمكان أي كان، أن يأخذ كتاب أيّ كان وينشره، بمجرّد تغيير الاِسم واللّقب، دون أن يعرف بذلك أحد، ولم يعد الكتّاب يعيشون أزمة إلهام، فبإمكانهم أن يستلهموا أفكار رواياتهم وصوّر قصائدهم من صفحات أصدقائهم، بل وبإمكانهم أن يتمثّلوا حتى أساليبهم في الكتابة. وفي صفحاتنا اليوم نتفاجأ أنّ الأسلوب، لم يعد لا هو الرجل ولا هو المرأة، وكم أخطأ بارت وهو يؤكّد ذلك، ومثله الاِتّجاهات المختلفة التي راحت عبثا تسعى، إلى حفر ما يميز أسلوب أحدهم من روابط، واِتّساق واِنسجام... فالكتب مرصوصة على الرفوف لا يكاد أن يفرّقها غير ألوانها، فنحن أمام جيل يستعمل فأرة حاسوبه أو يمسح عبارات بسبابته على هاتفه؛ لينقل أجمل العبارات، وأقوى الجمل المدهشة، كما يسميها، دون أن يعتبر ذلك سرقة من كتب ومقالات سهر عليها أصحابها، ليدعّم بها ما يكتب، دون أن يطاله النّقد، أو يرجّ ضميره تأنيب، بما أنّه يعرف حتى من يقرأ بلغات أجنبيّة، ويكتب عنها روايات عظيمة، ودواوين اِنطلت كذبتها، حتى على أكبر الشعراء، بعد أن مرّت مُبهرةً، ولا ناقد اِنتبه إليها، أو اِمتلك جرأة قول حقيقتها المنسوخة.
فمن يقنع اليوم الكبار والشّباب من الهواة أو الموهوبين أو المغرمين بالكلمة بأن ينصتوا لأصوات غيرهم، بعد أن تحدّوا ظروفهم، غير اليسيرة دوما (فمنهم من اِبتزّ أولياءه، بأنّه سيصير كاتبا عظيما) وحصلوا على مئة ألف دينار، جعلت الواحد منهم كاتبا. ومن سيستطيع، بعد أن «طبع» كتابه أن ينفي عنه هذه الصفة!
كيف نعيد للمصطلحات وقعها وخصوصيتها لجيل لا يعرف حتى ما يقوم به، ولأدعم حجتي، في هذا الموقع، أذكر ما وقع لي مرّة مع إحداهن، وقد سألتني، والحقّ في خجل، أمام ركام من الكتب وحشد من الشباب، يبدو أنّها هي الأخرى، أحبّت أن تجرّب تقليعة نشر كتاب: «حبيت نكتب حكايات ولا ما عرف كيفاش يسميوهم. كيفاش ندير؟».
من يقنع شابا يحصد ألفين إعجاب في صفحته أنّ الكتب لا تقاس بالأمتار؟ وبشراء اللايكات.
من يقول لهؤلاء أنّ قصصا جميلة كتبها إحسان عبد القدوس، خاضت في الكثير من حكايات الحب المستحيلة، ومآسي الاِغتصاب، ومواقف جميلة عن الاِختيارات التي دفعت النساء ثمنها من عنف الرجال، ومثله عبد الحليم عبد الله، ومحمّد السباعي... وأنّهم يفتقدون إلى مثل هذه القراءات ليجنّبوا أنفسهم التّكرار، وهو ليس عيبا، إلاّ إذا نحا إلى الركاكة.
من يقول، لهؤلاء اليوم، إنّ مالك حداد، سبر مناجم لغوية جعلت التّعامل مع اللّغة، بعده، كالحفر لتشكيل تماثيل لا تبليها لا أمطار الزمن ولا رياحه. ومن يخبرهم أنّ محمّد ديب ومولود معمري... وغيرهم كتبوا الواقع ووشّحوه بالخيال حتى صارت كتاباتهم نماذج لا يمكن لكاتب، يحب مهنته، أن يتجاوزها، بعد أن تحوّلت، هي عينها، إلى واقع آخر.
من سينصفُ الأدب غير الناقد الذي يتحمّل مسؤوليّة التّفريق بين التّناص والسرقة، ويميز الاِبداع عن التّقليد، ويكشف الأصيل عن المنحول.
ويقول إنّ من حق النّاس أن يكتبوا، ومن حقّ الناقد أن يميز الأدب.
09-05-2020

الرجوع إلى الأعلى