أيّ دور للنّخب يمكن القيام به في أزمات الأوبئة (الدور البحثي والعلمي والمجتمعي)، دور النّخب الأكاديمية والبحثية على وجه الخصوص في ظل جائحة كورونا. وما مدى قدرة أو اِستعداد أو جاهزية هذه النُّخب للمساهمة في تفكيك وفهم وتشريح الظاهرة الوبائية علميًا ومنهجيًا. وهل بإمكان النُّخبة في الجزائر أن تُقدّم تصوراتها عن آليات تجاوز التأثيرات التي خلّفها ويخلفها الوباء؟ وهل الوباء فرصة لأن تتبوأ النُّخبة مكانتها في المجتمع؟ حول هذا الشأن "النُّخب والوباء"، كان ملف "كراس الثقافة" لهذا العدد مع مجموعة من الدكاترة والباحثين الأكاديميين.

استطلاع/ نــوّارة لحــرش

- محمّد بن ساعو/أستاذ وباحث -جامعة سطيف2 : الموجة الوبائية لفيروس كورونا شكلت تحديًّا كبيراً للنُّخب ووضعتها على المحك


لطالما اُتّهمت النّخب في بلادنا -أيًا كان اِنتسابها ومجال اِشتغالها- بسلبيتها تجاه الشأن العام واِستقالتها من التفكير في اِهتمامات المجتمع، وكذلك الشأن بالنسبة للبحوث والدراسات التي تُنتجها الجامعات ومراكز البحث، والتي عادةً ما تُصنّف من طرف البعض بأنّها لا تُلامس الإشكاليات والظواهر الاِجتماعية الحقيقية ولا تُعالج واقعنا الاِقتصادي والثقافي والسياسي، بقدر ما تَسبح في عالم النظرية والمثالية دون التنزّل إلى الواقع والاِنخراط في جملة التحدّيات التي يفرضها. والحقيقة أنّه لا يمكن بأي حال أن ننكر تلك القطيعة بين المؤسسات التي تشتغل ضمنها النُّخب العلمية وبين المؤسسات الاِجتماعية والاِقتصادية من جهة أخرى؛ غير أنّ الحُكم بهذا الإطلاق فيه الكثير من التعسّف والقليل من الموضوعية.
لقد شكّلت الموجة الوبائية لفيروس كورونا كوفيد19 تحديًّا كبيراً للنُّخب ووضعتها على المحك، تمامًا مثلما فعلت مع المنظومة الصحية والاِقتصادية حين أوقعتها فجأةً ودون سابق إنذار في حرجٍ شديد، فإمّا الاِستجابة لهذا التحدّي من خلال تفعيل دورها وإبراز قدراتها في خدمة المجتمع –وهو هدفها الأساس ومبتغى نشاطها وسعيها- الّذي كثيرا ما عبّر عن فقدانه للثقة تُجاهها، أو الحجر على نفسها وبالتالي تعمّق تلك الصورة النمطية السلبية التي طالما اِرتبطت بها أو أُريد لها كذلك.
في ظل هذا الوباء، اِنخرطت النُّخب في عديد المبادرات المُهمة وعلى عِدة مستويات، بل وكانت صانعة لها، سواء في مجال تخصصها العلمي والبحثي أو من خلال اِنخراطها في العمل الاِجتماعي الّذي حاول أن يقوم بدوره في مرافقة مؤسسات الدولة بل وأحيانًا تعدّى دوره ليأخذ منها زمام المُبادرة.
لا نُبالغ إذا اِعتبرنا أنّ هذا الظرف العصيب الّذي تمر به الجزائر كما بقية العالم سمح باِستعادة الكثير من الثقة المهزوزة بين النُّخب والفعّاليّات الاِجتماعية. لقد أصبح المواطن يتحدّث بكثير من الفخر والاِعتزاز عن تلك الاِختراعات التي يطلّ بها شباب في مُقتبل العمر وجدوا في هذا الظرف فرصة لكسر الحاجز المفروض عليهم، كما عادت الرّوح مؤقتًا لبعض المخابر الجامعية التي سارعت للاِنخراط في تعزيز السّياسة الوقائية بإنتاج المعقمات مثلاً والمُسارعة لإعلان اِستعدادها للقيام بالتحاليل الكاشفة عن الفيروس، وعلى مستويات أخرى لاحظنا مبادرات على غاية من الأهمية لأخصائيين نفسانيين اِنتظموا في مبادرات تسمح للمواطنين بالتواصل معهم بغية مرافقتهم للحد من الآثار النفسيّة للوباء.
هذا لم يمنع أنّه وفي أُطرٍ أخرى وجدت بعض النُّخب صعوبة كبيرة في التأقلم مع الوضع الّذي فرضه الوباء، ومن ذلك على سبيل المثال النقائص والإخفاقات الناجمة عن التوجه نحو ما يُسمى بالتعليم عن بعد لتعويض الدروس الحضورية، ففي ظل غياب تكوين حقيقي للأساتذة والطلبة على التعامل مع أرضيات التعليم الرقمي فضلاً عن غياب الإنترنت واِنقطاعها فُوّتت فرصة مهمة لولوج هذا المجال من التعليم الّذي حقّقَ أشواطًا كبيرةً في الغرب توازيًا والتعليم الحضوري، وهو ما أخلَّ بواحد من الحقوق التي تضمنها كلّ دساتير العالم وأخفق في تحقيق تكافؤ الفُرص التي تقوم عليها كلّ المنظومات التعليمية.
حاولت بعض الجامعات والهيئات العلمية التأقلم مع الوضع المفروض، فاتجهت نحو تنظيم الملتقيات الإلكترونية، ومع أهمية الخطوة في إعادة بعث التواصل بين النُّخب واِنفتاحها على إشكاليّات الراهن، إلاّ أنّ الكثير من الظواهر السلبيّة التي كانت علامة مسجلة لبعض الملتقيات والندوات الواقعية اِنتقلت إلى تلك الملتقيات الإلكترونية، ثمّ إنّ الكثير منها لا يُقارب المشكلة الوبائية بقدر ما هو نشاط شكلي لا يسمح حتّى بتفعيل النقاش حول القضايا والإشكاليات التي تدرسها هذه الأوراق البحثية.
لقد كانت اِستجابة (النّخبة) العلمية –في رأينا- متفاوتة ومتذبذبة في ظل اِنتشار وباء كوفيد19، ولكنّنا نعتقد أنّها كغيرها من الفواعل الثقافيّة والسياسيّة مُطالبة بأن تستعد لعالم ما بعد كورونا اِستعداداً يسمح لها بتبوء مكانتها الحقيقيّة التي تجعل منها العقل المُفكّر للمجتمع والسند العَالِم لكلّ مُراجعة تستهدف وضع القطار على السكة.

- شرقي عبد الباسط/ أستاذ وباحث أكاديمي في التاريخ والتراث –جامعة الجزائر : حاولت مُسايرة ظروف الجائحة


المُثقف الحقيقي هو ذلك العنصر الفاعل في المجتمع الّذي يُستَشعَر وجوده في كلّ المراحل والمحطات المفصلية التي تمر بها الأمم والشعوب، ولعلّ اللحظات الوبائية أكثر المحطات حرجًا التي تجعلنا نستشعر مدى حضور النُّخب وقربها من مجتمعاتها، إذ ما فائدة الحديث عن نخب ومثقفين ومؤسسات جامعية إذا لم نلمس لها حضورا ثقيلا ومؤثرا في فترات مفصلية كما هو عليه الحال اليوم مع ظهور وباء كورونا المستجد.
صحيح أنّنا في فورة الجائحة ويبدو من الصعب بل من التسرّع فهم ما يحدث من خلفيات وارتدادات لاِنتشار هذا الفيروس سواء وطنيًا أو عالميًا، لكن ووفقًا لنظرية مُؤرخ الحضارات أرنولد توينبي لا مناص من جعل هذا الظرف العصيب فرصة لشحذ الهمم ورفع سقف التحدي، لأنّ التحديات هي اِستجابة قوية لبناء الحضارات.
تاريخيًا، لطالما شكّلت الأوبئة التي عرفتها المعمورة ومسّت البشرية نقاط تحوّل بارزة في مسار العلاقات الدولية ومؤثرا قويًا في العلاقات الاِجتماعية والأوضاع الديمغرافية وحتّى على مستوى ذهنيات وعقليات الساكنة التي تتأثر وتتغير بفعل هكذا اِرتجاجات قوية تدعو إلى إعادة النظر في الكثير من المسلمات.
واِنطلاقًا من مفصلية ومحورية تأثير الوباء يبحث الجميع عن النُّخب والمثقفين الذين يُنظر إليهم على أنّهم المخلصون لِمَا يحوزونه من قوّة اِقتراح ومبادرة وتجربة ورؤية علميّة تسمح بالتخفيف من مخاطر وآثار الوباء، وهنا نتساءل سويًا: هل اِستطاعت النُّخبة في الجزائر أن تقدّم تصورها عن آليات تجاوز التأثيرات التي خلّفها ويخلفها الوباء؟ وقبل ذلك، هل يمكن الحديث حقيقةً عن وجود نخبة موجوعة ومكلومة بِمَا يُصيب المجتمع وبِمَا يُصيبها أيضًا باِعتبار هذا الفيروس لا يُفرق بين هذا وذاك، إذ لا فرق عنده بين غني أو فقير، صغير أو كبير؟
إنّ الإجابة على هذه الأسئلة فيها الكثير من المجازفة، لكنّنا سنستند إلى واقع النُّخبة العلمية في الجزائر التي ظلت مُهمشة وبعيدة عن سلطة صناعة القرار ومُبعدة عن مراكز التفكير الإستراتيجي الّذي يسمح بصياغة الخُطط الإنمائية وإعداد مخططات مواجهة الكوارث ليس البيئية والصحيّة فحسب، بل حتّى الاِجتماعية التي تنفجر من حينٍ لآخر.
وبصيغةٍ أخرى نريد أن نقول أنّه قبل الحديث عن أي مساهمة مُحتملة للنُّخب في تسيير الحالة الوبائية والتقليل من مخاطرها وآثارها، يكون من الأجدر البحث في كيفية كسر الحواجز التي عرقلت أدوار النُّخبة في المجتمع والتي كانت سببًا رئيسًا في ضُعف مردودها وعدم بروزها إلى الواجهة. ومع ذلك حاولت النُّخب مُسايرة الظروف التي تمر بها البلاد من خلال بعض المبادرات التي لاقت الاِستحسان من طرف الكثير من الناس، خاصةً وأنّ عدداً مُهمًا مِمَن هم محسوبون على النُّخبة نزلوا إلى الميدان في اِحتكاك مباشر مع الفئات الاِجتماعية التي شاركوها مبادراتها الوقائية والخيرية.
بقدر ما ينتظر المُجتمع والسلطة من النُّخبة والمُثقف، بقدر ما يحتاجون أيضا إلى بعض الرعاية والاِهتمام، لأنّ النُّخبة حاملة لمشاريع ورؤى تراكمت عبر مسار طويل من البحث والخبرة ومن الإجحاف أن تُترك دون اِهتمام أو تبقى حبيسة الأدراج.

- خليل شايب/ باحث في الفكر الإسلامي المعاصر-جامعة الأمير عبد القادر– قسنطينة: الجائحة أظهرت مدى حاجة الشعوب للنُّخب


في زمن الفتن والكوارث، يظهر الدّجّالون ويكثر الموقّعون عن رب العالمين؛ تذكر المصادر التاريخية أنّه بدل البحث عن علاج للطاعون الّذي اِجتاح أوربا بين1347و1352 للميلاد، ألقى رجال الكنيسة باللائمة على تفسّخ النساء، واِنحلال المجتمع الأخلاقي، وعلى اليهود... ولم يختلف الحال كثيرا عند ظهور جائحة كورونا في مجتمعاتنا الدينية.
قمّة الخطأ أن نعتقد جازمين أنّ كلّ كارثةٍ هي دليلٌ على الخواء الديني، وأنّ كلّ فشل دليلٌ على الغضب الإلهي، وأنّ كلّ مشكلة دليل على الإفلاس... ذلك أنّ تأويل أيّ كارثة عاملٌ رئيس في تحديد مآلات ما بعد الكارثة.
هنا نُذكّر -والحال هذه- أنّه لم يحصل في تاريخ الإنسانية أن اِرْتَمى البشر في زمن الفِتن والقلاقل والأوبئة في حُضنٍ غير حضن الكاهن.. لكن بعد إغلاق المساجد والمعابد وتحوّل التدين من كونه ظاهرة اِجتماعية إلى تجربة شخصية خالصة، توجّهت الأفئدة إلى العلماء والأطباء، وشخصت الأبصار نحو المختبرات ومصانع اللقاحات ومصنّعي وسائل الوقاية من الفيروسات؛ فما هو دور المثقف أو النُّخب في ظلّ هذه الأزمة؟
يمكن أن نُحدّد دورين مهمّين للنُّخب المُثقفة في هذه المرحلة: فعلى المستوى النظري: كما أسلفنا الذّكر، فإنّ تأويل الكارثة هو المُتحكّم في تحديد مآلات ما بعد الكارثة، والمُتفحّص لإنتاج النُّخب وتحليلاتها يجده يُرجع الأزمة إلى أحد الأسباب الآتية: صراع العمالقة وتداعياته على الدول الضعيفة والفقيرة. الآثار السلبية للعولمة. سباق الدول الكُبرى نحو التسلّح، بِمَا فيه التسلح البيولوجي. فيروس طبيعي يُظهر ضُعف الإنسان وعجزه أمام المخلوقات الطبيعية وقبلها القدرة الإلهية.
ومهما اِختلفت زوايا النظر وتشعّبت، فإنّ هذه التوجيهات في حد ذاتها تُمثّل تصورات مُختلفة لمواطن الضعف التي تُعاني منها مجتمعاتنا، والحلول تكمن في: إعادة بناء مناهج معرفية قائمة على أُسس علمية متينة، ومنظومات صحية محترمة، ومراكز بحثية بصلاحيات واسعة، والعمل على الاِنتقال من حيّز المفعول به إلى حيّز المُؤثّر والفاعل في السياسات الدولية، بالإضافة إلى تخصيص ميزانيات أكبر للتعليم والصحة والبحث العلمي، زيادة على العمل على إعادة قراءة الخِطاب الديني قراءة تتجاوز البكائيات التقليدية إلى خِطاب يبحث عن النواميس الإلهية المبثوثة في ثنايا هذا العالم الفسيح.
أمّا على مستوى الجانب العملي: من خلال الجدلية التي يطرحها ويسحبها على المجال التاريخي، يرى هيجل أنّ الحروب هي التي تصنع التاريخ؛ وفيروس كورونا أثبت أنّ البشرية اليوم في حرب حقيقية، جنودها الأطباء والممرضون والمثقفون باِختلاف مشاربهم وآرائهم، وذخيرتها العِلم والمعرفة، أمّا العدوّ فهو فيروس يُهدد وجودنا.. عادةً تُكيل كلّ مدرسة التُهم لخصومها من أجل تبرئة ساحتها واِتهام الآخر بالتّسبب في الكارثة، المؤمن يقذف الملحد، والاِشتراكي يقذف الرأسمالي، والضعيف يتّهم القوي.. أمّا الفرد السّويّ فهو الّذي يبحث عن حلول بعيدا عن توجيه التُهم.
ظهرت حقيقةً حاجة الشعوب لمثقفيها في هذه الأزمة، كما ظهر عدم تراخي النّخب في تلبية النداء اِنطلاقًا من طوابير الكوادر الطبية المُستعدة لمواجهة الفيروس رغم قِلة الإمكانيات، مرورا بالمنجزات والوسائل التقنية التي قدّمها الباحثون وطلبة الجامعات، إضافة إلى العمل التّـوْعوي الّذي يبذله المثقفون من أبسط شيء كطريقة غسل اليدين بطريقة سليمة إلى الفيديوهات التثقيفية والمقالات وروابط الكُتب.. فقط من أجل تعليم الناس فن العيش في زمن الكورونا.
نخلص في الأخير إلى أنّ الوباء سينتهي عاجلاً أم آجلاً، لكنّه سيفتح الباب مُشرعًا أمام الكفاءات العلمية لاِستعادة مكانتها، وأمام الدول والحكومات لمراجعة سياساتها، ويضع البشرية بصفة عامة أمام فرصة ثمينة لتحقيق طفرات في الحياة والتاريخ.

- سفيان بن صفية/أستاذ وباحث في الجغرافيا-جامعة سطيف2 : الوباء اِستنفر كلّ النُّخب وهذا ما يُعزز حاجة المجتمع لها


شهد العالم عقب اِنتشار جائحة فيروس كورنا كوفيد19 على مدار ستة أشهر الأخيرة اِستنفاراً كبيراً على مختلف الأصعدة والمستويات والنُّخب كلٌّ في ميدانه وتخصصه (الطب، البيولوجيا، الهندسة الميكانيكية والروبوتيك، عِلم النفس، عِلم الاِجتماع.....) ومُنحت أهمية كبيرة للعِلم والعلماء بغية الخروج بأخف الأضرار جراء الاِنتشار السريع لهذا الفيروس. وهذا ما يُعزز مدى حاجة المجتمع والعالم للنُّخب بكلّ تخصصاتها، وأصبح الجميع يستنفرُ النُّخب لتدلي بدلوها أو لتضيء على بعض ما يحدث. لكن كانت النُّخب العلمية هي الأولى في مواجهة ومقاربة هذا الوباء علميًا ومنهجيًا وبحثيًا.
بل وأصبح هناك تنافس كبير بين مختلف التخصصات العلميّة في أنحاء العالم على من يقدم الإضافة للبشرية في ظل هذه المحنة، فبدأ الاِلتفات بجدية أكبر لبعض الفروع العلمية ذات العلاقة الوطيدة بالوضعيات الوبائية وتأثيراتها الاِجتماعية والاِقتصادية والسياسيّة، ربّما كان إغفال دورها وأهميتها على مستويات محدّدة وفي فترات معينة قاسمًا مشتركًا بينها، غير أنّ الظرف الراهن أعادها إلى الواجهة وفرض حضورها.
ونجد من بين هذه التخصصات التي لاقت رواجًا كبيراً في العالم الجغرافي الوبائية nosogeog- aphy، والتي تعد أحد أهم فروع الجغرافيا الطبية التي تهتم بدراسة الأوبئة من حيث توزيعها المجالي وعلاقتها بمختلف مركبات الوسط الطبيعي والبشري، وكذا مسارات اِنتشارها في مختلف المجالات.
إنّ الاِهتمام العالمي المُتزايد باِستخدام أساليب الجغرافية الوبائية في تحليل هذا الوباء ناجم عن دورها الكبير في فهم وضبط اِنتشاره في المجال الجغرافي، كما أنّ النظرة الشمولية للجغرافيا من خلال كشف العلاقات سواء بالمجال الفيزيائي (المناخ، التضاريس، المياه....) أو البشري (الجنس، السن، الخصوصيات البشرية المختلفة...) تُساعد كثيرا –النُّخب- العلماء وصُناع القرار على فهم هذا الوباء جيّداً ومن ثمّة تطويقه والقضاء عليه، ونستحضر هنا دراسة جون سنو John Snow 1854 ودورها في الكشف والحد من وباء الكوليرا في مدينة لندن، كذلك دراسات تفشي وباء الحُمّى الصفراء في نهاية القرن 18.
ولعلّ أبرز وسائل المعالجة في الجغرافية الوبائية هي الخريطة الوبائية، فمن خلالها يمكن أن نضبط المفهوم الوبائي وتصنيفه ضمن دائرة الوباء( (Epidemicأو الجائحة (pandemic)، فالأوّل له اِنتشار محدود في العالم أي ضمن مجالات مُحدّدة في بلد أو قارة أو بالأحرى إقليم جغرافي مُعين، في حين أنّ الجائحة أكثر اِنتشاراً وتواجداً عبر الأقاليم العالمية.إنّ التوزيع الجغرافي للوباء -والّذي تقترحه وتعمل به النُّخب العلمية- على مُختلف المستويات من خلال الخريطة الوبائية (العالمية، الإقليمية والمحلية) زمنيًا (التطور) ومجاليًا، له دورٌ كبير في تحديد البُؤر الوبائية (الأقاليم الأكثر تضرراً)، مِمَا يمكننا من تحييد هذه المناطق وتطويق الوباء بها من جهة، ومن جهة ثانية ربط هذه البُؤر بخرائط موضوعاتية كالأقاليم المناخية مثلا، الأودية، التضاريس، الأقاليم البشرية،.... وغيرها من المواضيع التي تمكننا من فهم هذا الوباء من حيث النشأة والاِنتشار، وهذا طبعا ما تقوم به النُّخب العلمية من موقعها العلمي والبحثي وبكثير من الجهود الجدية والمُضنية.
ومن خلال تتبعنا لهذه الجائحة في الجزائر نجد أنّ اِستخدام هذه الوسيلة لا يزال مُحتشمًا خاصةً على المستويات المحلية (الولايات والبلديات)، لذا فإنّ تتبع الوباء مجاليًا والتحليل الفضائي لإحصائيات الوباء على مستوى البلديات ضروري جداً لتطويقه ومُكافحته؛ ولا يتأتى ذلك إلاّ بمشاركة هذه المعلومات مع المواطنين خاصة في ظل الاِنتشار الكبير للرقمنة والتكنولوجيات الحديثة.
لذلك فالدعوة إلى تطوير تطبيقات لخرائط وبائية تفاعلية (Applications) شغّالة على الأندرويد (And- oïde) ضروري جدا في الوقت الراهن أين تتصاعد الدعوات إلى ضرورة التكيف مع هذه الجائحة، تُزوَد آليًا بإحصائيات دقيقة من مسؤولي قطاع الصحة محليًا عن أماكن اِنتشار هذا الفيروس لتوعية المواطنين وتجنب هذه الأماكن، وكذا أخذ الحيطة والحذر، وهذا ما يمكن أن تقدمه أو تقوم به النُّخب العلمية في هذا الظرف الوبائي على وجه التحديد.
وعليه فتضافر ومساهمة كلّ هذه التخصصات العلمية وتعاون كلّ النُّخب فيما بينها مهمٌ جداً في التقليل من حِدة اِنتشار هذا الفيروس على مختلف المستويات والتخفيف من آثاره على الفرد من الناحية النفسية، بشرط توفر إرادة سياسية من طرف المسؤولين المحلين يُقابلها الكثير أو حتّى –القليل- من الوعي الشعبي بتحمل مسؤولية مجابهة هذه الجائحة.

الرجوع إلى الأعلى