وداعا عاشقَ (بحر المتقارب)!...
*  بقلم / يوسف وغليسي
«أرصّع بالكلمات المضيئة نبضي
وأبني من الورد قصرا
وأفتح في مدن الفجر كل الدروب
وأشرع باب الصباح
أرش نخيل الكلام بضوء الشذا...» (دموع وأغان، ص 62)
وأشهد أنه كان كذلك مذ عرفته!...
.. وبغتةً، يرحل الشاعر أحسن خراط (1953 - 2020) عن عمر بلغَ سبعةً وستين عامًا، وأكثر من عشر مجموعات شعرية منشورة، وأخرى تنتظر! بعد مشي طويل مضنٍ في مناكب الشعر والتعليم، آن للنبض أن يستريح!
في بلدية (السبت) عاشَ نصفَ عمره بجوار المصنَع القاتِل الذي أكره أهلَ بلدتِه على تنفّس الهواء الملوّث المسموم، ثلاثين عاما ممّا تعدّون، مقابل أن تصبح البلادُ خامسَ منتجٍ للزئبق في العالم!..
وفي يوم السَّبت مات واستراح!
أليْسَ من عجيب المصادفات الزمانية والمكانية واللغوية أنْ يتوحّد ذلك كله في مفهوم معجمي واحد؛ فالسّبتُ –في (لسان العرب)- يعني الراحة والانقطاع؛ ولا أدّل على ذلك من أبناء عمومتنا (جنسا وسوءَ فعلٍ!) بني إسرائيل الذين لا يزالون يَسْبِتون، فيستريحون وينقطعون عن أعمالهم في يوم الراحة المقدّس هذا!...
آن لـ (نبض الفجيعة) أن يَسْبتَ بعد هذا العمر الشعري الطويل...
فقد ظلّ أزيدَ من أربعين عاما يُدحرج تفعيلتَه الأثيرة (فعولن) على مرأى (بصر التراب)،، يدقّ (أجراس الحقول)، ويشعل (حرائق الماء)، تيمّنًا بصنيع شقيقه في الماء الشعري عبد الحميد شكيل!
يُنشد (أهازيج البراري) ويُمارس (شطح الدراويش)، ويسكبُ (الدموع والأغاني) على جسد (أنثى الظل)!، متأبّطا (بوح المرايا)، وكلّه أمل في بلوغ (شواطئ الغفران) و (شرفات اليقين) !...
وخلال المسار الطويل، ظلّ الشاعر (إنسانيا وشعريا) وفيّا لأصدقائه،، ووفيّا للتربة الطيبة التي استشهد والده وفاءً لها،، وفيّا للتراب الموضوعاتي الذي أقام حقوله الشعرية عليه،، وفيّا للموسيقى الشعرية التي استهوتْه منذ الصرخة الشعرية الأولى؛ وإنْ تَعْجَبْ فاعجبْ لهذا الشاعر الذي لم يغيّر لونه الإيقاعي طوال حياته الشعرية كلها، ولم يرْتضِ بدلا لوزن المتقارب في قصائده جميعا، على مدار أكثر من أربعة عقودٍ زمنية كاملة!، حتى إنّني –لفرط اندهاشي من فعله الشعري العجيب الذي لم يصادفني في تاريخ الشعر العربي برمّته!- رحتُ أُطلق عليه في إحدى دراساتي تسميةَ (وحيد القَرْن العروضي) !!!.
ومع هذا العطاء الشعري الغزير، ينبغي أن نعترف بأنّ الشاعر الراحل قد عاش مظلوما نقديا وثقافيا، ولولا اتّحاد الكتّاب الجزائريين (الذي كان عضوا في أمانته الوطنية ونائبا لرئيسه) ما كان له أن ينشر –أصلا- جلّ ما نُشر له، ومن أَماراتِ ما حاق به من ظلمٍ أن تخلو المعاجم الموسوعية والأنطولوجيات الأدبية من ذكْر اسمِه؛ فلا (معجم الشعراء الجزائريين في القرن العشرين) أومأ إليه! ولا (موسوعة الشعر الجزائري) بجزءيها الاثنين ذكرتْه! ولا (موسوعة العلماء والأدباء الجزائريين) أشارتْ إليه؛ وقد أشارتْ –في طبعتها الثانية (2014) المزيدة- إلى خلقٍ كثير من صغار الأدباء (وهي تضمّ 784 اسمًا على مدار أكثر من 1500 صفحة)، لم يكن من بينهم اسم المرحوم أحسن خراط!...
ولا عاشور شرفي في قاموسه البيوغرافي الموسّع (Ecrivains Algériens) ذكره، برغم أنه ذكر مئاتٍ من عباد الله الجزائريين الذين يكتبون بكلّ اللغات!...
لذلك فلا عجب أن يغيب اسمُه عن جلّ الأنطولوجيات الصادرة خارج البلاد، ومنها (الموسوعة الكبرى للشعراء العرب) بجزءيها الاثنين، ومنها أيضا (معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين)؛ واللوم كلّ اللوم على مندوبي هذا المعجم في بلادنا، الذين لم يجدوا موقعا فيه للشاعر الراحل؛ برغم ثلاث طبعات، أضيف 29 شاعرا جزائريا إلى طبعته الأخيرة (2014)، ليس من بينهم الشاعر (الشهيد) أحسن خراط!، وليس ذلك كله إلا لأنّ هؤلاء (المندوبين) إنّما هم نُدوبٌ وأَندابٌ يُحمّلهم تاريخُ الشعر الجزائري ما حمّلُوه من جرح الإقصاء والتغييب لأسماء كان ينبغي ألا تغيب عن أعظم أنطولوجية شعرية عربية معاصرة، ضمّت 2514 شاعرا عربيا (لم يتجاوز نصيب الشعر الجزائري منها أكثر من 04 % !).
وقد نستثني من هذا الهرج والمرج كله أنطولوجية مجلة "آمال" (عليها السلام!) في الزمن الثقافي الجزائري الجميل؛ فهي وحدها –في جزئها الثالث من (نماذج من الشعر الجزائري المعاصر- شعر ما بعد الاستقلال) 1984- التي حملتْ قصيدتيْه «معزوفة الجرح» و»انفجار في الصميم» (ص 169-176)؛ وما أنسب العنوانين لسياق الحال!...
ومن جريدة (النصر) التي أدبّج فيها كلمات وداعك هذه، أعود إلى جريدة (النصر) التي كنتَ مقيما فيها بنصوصك الأولى منذ عمر بعيد، لأقتطف هذه الكلمات (التي أجد الآن فقط تفسيرها المناسب!) من نسخة أرشيفية قديمة (العدد 2790، 18 جانفي 1981) تضمّنت حوارا معك (لعلّه أوّل حوار صحفي لك في حياتك كلّها!)، حاورك فيه صاحبُك (المرحوم لاحقا!) حسان الجيلاني، والله يسمع تحاورَكُما، وأنتَ ملاقيه في الفردوس الأعلى بإذن الله، وقد سألك : من أنتَ؟ فأجبتَ هذا الجواب الجريح الجميل :
«...أنا الهيكل الذي تسكّعت التعاسة في أرجائه، وباضت وفرّخت، أنا الهيكل الذي غزت عوالمه الآلام والأحزان، واستأنستْ فيه الجراح، ما تكاد تهدأ حتى تبتدئ (...) أنا المغضوب عليه، أنا المدحور من دنيا الجمال والهناء...» !
نمْ هنيئا في (مقام الياسمين)، أيها الشاعر الصديق الغاضب الحزين؛ بل نحن الحَزانَى المغضوب عليهم، وقد ظلمناكَ حيّا، عسى أن نستطيع التكفير عن جَريرتنا وأنتَ في جَدَثِك/روضتك الفردوسية، في جنان النعيم إن شاء الله!.

حسن خراط.. الغياب الأخير..!!
*  عبد الحميد شكيل/ عنابة
1
أخي حسن:
لقد غادرتنا سريعا، لم تمنحنا مزية اللقاء، وفضل الحديث، لنقول للريح: لماذا عطلت الحوار..؟ ولماذا أطفأت القناديل..؟
ولماذا غيرت المواعيد، وخربت مشاتل الزعتر.. ؟ ولماذا أطلقت رصاصك الحاقد على عصافير الزبد،وهي تنشد مزاميرها لفراغات الحياة..؟
2
أخي حسن:
كيف سنلملم  شتات النص..؟ وكيف نشرح للغة معنى الغياب..؟وكيف نتوسل القصيدة، وهي تبتعد في سواد الفيض..؟ وكيف نتواصل لنرمم أرواحنا التي خربها الرعاع الجديد..؟  وكيف نطل على سهل أفراحنا المترعة بالقهر، والوجع، والخوف، وقسوة الذين كنا نحبهم، لكنهم صوبوا حرابهم القاتلة، إلى حواصلنا الطرية، فاندلق الدم، على حواف الزرقة، وصاحت طيور المنِّ على شجر الروح..؟
3
أخي حسن:
الخبر كان قاسيا، ومزلزلا، وفاجعا.. كيف تسفح زهرة التوليب دمها على شاطىء الخضرة..؟ وكيف يصدح طائر الرعد القاسي، في برج الكتابة، وملاذات النص الشاخب باحمرار دمك الصاهل ، في بساتين الروح المتعبة..؟ وكيف نزاوج بين الدم، وبين الماء، متدفقا ، أجاجا في سموات اليقين، وبهجة الفرح المشظى..؟
4
أخي حسن:
مرت الريح، ومالت أشجار السنديان، وغنى طائر العقعق أحزانه الموجعة.. وانفرط العِقد، وهجّت طيور السمان في مشاتي المعنى.. كيف للقصيدة أن تنهض من سباتها العميق..؟
وكيف لها أن تعلو في سموات البهاء ،المعبق بعويل الأنحاء، التي كنا نلوذ بها كلما اكفهرت اللغة، وأقبل البرابرة الجدد.. مرتدين أقنعة البؤس، وسترات المواربة، ومعاطف الموت الأكيد..؟
5
أخي حسن:
لقد انحسر الماء، الذي كنا نغسل به رماد القصيدة، وهي تتأبىّ،وتحرن في ساعات العسرة، وعز الطلب.. وتتركنا حيارىفي لظى الهذيان، و عماء الظن، وشواظ الاحتباس اللعين..
كيف نروادها في الهبوب الأخير..؟وكيف نتوسلها- الكريهة- وهي تقتنص أزهار الروح، و بتلات الوجدان، وأيائل الفزع الذي في انقداح الفجيعة..؟  لقد أوجعتنا المراحل، وأزرت بنا
جهات البلاد، ولم نعد نقوى على مفاجآت الزائر المر..وهو يرتب مواعيده، ويوجه سهامه للفراخ الزغب، وهي تفلي ريش صغارها في هذه الأزمنة الموحشة..

6
أخي حسن:
لا نعتب على شح الماء، و لا نغضب من انقطاع المزن، ولا نبكي في صباحات الأسى، وعنف الورم.. و لا نشيح عن سوادالليل، ولا نقذف طيور الماء بوابل بصاقنا..ولا نطعن الزرقة وهي تتمادى في انحرافاتها الساحقة..لكن جراحات الروح، وعنادل المعنى..ستنشد مراثيها الكثار، وستعزف أحزانها على أرغول الهول، وهو يترغب قطعان دمنا الساخن، ويلهث خلف أرانب نصنا المغوس بريق الروح، و شفيف اللغة..
7
أخي حسن:
مرت الريح..
وهاجت طيور العشب..
وانسكب الدم على اسفلت المجرى..
وهجرتني نساء النص،
وملت خواطري نسائم الطرفاء..
وانحازت لمائي .. معاني الغلط..
فكيف لي- يا صديقي-
أن ازرع  البنفسج في أرض الغياب الشططْ..؟
8
أخي حسن:
لا وقت للزرع..
ولا معنى للحصاد..
لقد أصاب السهم الكبد..
وتناثرت طيور الله ..
على فلوات الصهد..
فخذ معناك الأخير..
وقل: سلامًا أخيرًا.. نصوص الكمدْ..
9
أخي حسن:
كلما أوجعتني القصيدة،
واستبد بي قلقي..
قلت في كمد:
رحماك يا خالق الفلق..
و يا منزل الماء..
من مزن الروح، والعبق.. !!

10
أخي حسن:
لا عليك..
سنلتقي في ماء الكتابة،
او في مطلع النهر الكبير..
ليس ثمة – يا صديقي-
ما يحبط الروح..
وهي تجتاز صراط اليقين..!!

عنابة: 19 جويلية2020

الرجوع إلى الأعلى