* أحمد دلباني
«بقدر ما تضيقُ رقعة القول، تضيقُ رقعة الوجود.»أدونيس
* وطني هو اللغة العربية:
     توقفتُ مليا عند ما كتبه فرناندو بيسوا في (كتاب اللاطمأنينة) متحدثا عن لغته الأم: « لا أملك أيَّ نوع من المشاعر السياسيَّة أو الاجتماعية إلا أنني أملك، بمعنى من المعاني، شعورًا وطنيا عاليا جدا. أما وطني فهو اللغة البرتغالية «. أجل. أعتقدُ، أنا أيضا، أنَّ وطنَ المبدع الحقيقيّ هو اللغة. وربما كان من قبيل العبث أن يتعرَّف الكاتبُ أو الفنانُ على نفسه في ما يفرضه عليه الخارجُ من قضايا وإشكالات أو صُور من الالتزام التي تميِّزُ المثقفين والمناضلين عادة لا الكتاب أو الفنانين بالمعنى العميق للكلمة. لا يمكنُ، في اعتقادي، أن تكونَ علاقة الكاتب باللغة كعلاقته بأية أداةٍ أو وسيلةٍ ترتبط بالمنفعة المباشرة أو المردود والنتائج والنجاح العملي. نعم. اللغة بالنسبة للمبدع ليست وسيلة تواصل فحسب. إنها الكيان. الهوية. البيتُ الجماعيُّ الذي تضيئه الحكاياتُ التأسيسيَّة الأولى. إنها وطنٌ بحجم الذاكرة والوجود وقد أصبح يتكلمُ خالعا على الأشياء بردةَ الأسماء. اللغة، بهذا المعنى، ذاكرة وانتماءٌ ثقافيّ وحضاريّ أيضا. إنها بيتٌ يضج بأصداء الذات الجماعية ورموزها وحكاية إفاقتها على حادثة الكينونة في بيت التاريخ. من هنا، ربما، أفهمُ جيّدًا كيف أنَّ الكثيرَ من المبدعين – من بينهم صديقي الكبير أدونيس – لا يتصورون وجودَ كاتبٍ عظيم يُبدعُ بلغتين أو أكثر. كما لا يتصورون أيضا – وربما يكون هذا قابلا للنقاش – وجودَ شعب واحدٍ بلغتين. يقول مثلا: «اللغة كالحب تجمعُ وتوحِّد. في ضوء هذه الحقيقة، كثيرًا ما أتساءل كيف يُحبُّ ويبدعُ شعبٌ تتقاسمهُ عدَّةُ لغات؟» (فاتحة لنهايات القرن، دار التكوين، دمشق. ص 105).
     ربما تتفوقُ هنا أيضا، في اعتقادي، اللغة على الجغرافيا والمكان والأرض في تحديد الهوية بمفهومها العميق على اعتبار أنها ما تتميّز به الذات عن الآخر. إذ ترتبط اللغة بالمحمول الثقافي المتميز و التراث المُشترك وتجربة الوجود وتكوين الذات التاريخية للأمة كما تعكس رؤية خاصة للعالم. وفعلا لا وجودَ لأمةٍ بلغتين على الأقل كما يخبرنا التاريخ. اللغة الواحدة بيتُ الكينونة التاريخية الواحدة ومنبتُ التطلعات المشتركة. هذا ما يجعلنا نعتقدُ أنَّ الانشقاقَ اللغويَّ يجعل من الشعب جُزراً توصَدُ دون تواصلها ولقائها الأبواب. قد نختلفُ فكريا وإيديولوجيا وسياسيا ولكننا نتناقشُ ضمن البيت اللغويِّ الواحد دون أن نشعرَ أنَّ بيننا جدرانا ما دمنا ننهل من ذاكرةٍ مشتركة ونتموقعُ في سياق تاريخ واحد من المشكلات والرؤى والتطلعات وتباين وجهات النظر. أما مع الاختلافِ اللغويِّ فثمة جدرانٌ تنتصب وقد يستحيل معها أن نشعرَ بالانتماء إلى شعبٍ واحد. إذ «حيثُ لا تكونُ لغة واحدة بين الشخص والآخر، لا يكون بينهما غير الصمت. يكونُ بينهما انفصال» كما يضيف أدونيس أيضا. وربما لم يكن من قبيل المصادفة أن تتشكل الأممُ الحديثة في أوروبا على أساس من وحدة اللغة بوصفها ما يجمع ويوحِّد. بل إنَّ الفكرَ القوميَّ الحديث لا يمكنُ فهمه بمعزل عن التأكيد على عاملي اللغة والتاريخ المشترك وهو ما أعقبه، بعد ذلك، قيام الدول الوطنية على أنقاض آخر الأمبراطوريات التي كانت تنضوي تحتها شعوبٌ وقومياتٌ كثيرة في أوروبا. كما أنَّ الأمم التي لم يكن بإمكانها تكوين الدولة – الأمة على أساس من اللغة الواحدة لم تجد أمامها إلا اعتماد الحل الفيدرالي اتقاءً للتصدعات التي يمكنُ أن تشكل بواعثَ للانفجار في أية لحظةٍ. ولكنَّ الجديرَ بالذكر هنا، فضلا عن دور اللغة المُشار إليه، ما للحاضر أيضا من أهمية في تشكيل الأمة واستمرارها وهو ما أشار إليه، ذات تأمل وجيهٍ، إرنست رينان تحت مُسمَّى «الرغبة في العيش المشترك» في إشارة إلى سويسرا أو المملكة البلجيكية على سبيل التمثيل. ولكن على العموم يُبيِّنُ التاريخ أنَّ محاولات تشكيل الأمم استنادًا إلى الإيديولوجيات الثورية أو بعض صور فلسفة العقد الاجتماعي الحديثة لم تتمكن من الصمود أمام انفجار قارة المكبوتِ الهوياتيِّ لحظة فشل الدولة تنمويا أو سياسيا في تحقيق العدالة والمساواة وضمان شروط المواطنة التي بإمكانها رأب التصدعات أو تأجيل يقظة مارد المكبوت المُشار إليه. بلدان البلقان، بداية التسعينيات من القرن الماضي، نموذجٌ صارخ ومأساويٌّ بخصوص ما أتينا على ذكره. ولعل في هذا الأمر، أيضا، ما قد يُضيءُ تجاربنا في العالم العربيِّ في هذه اللحظة العولمية ونحن نشهد تراجعَ دور الدولة المركزية ويقظة المطالب الثقافية العالقة والمُغيَّبة منذ الاستقلال.
     إنَّ هذه الاعتبارات بخصوص اللغة تتعلقُ، بطبيعة الحال، بالأمة أو الشعب وليس بالدولة. وبالتالي فلا معنى للخلط بينهما. الشعب الواحدُ هوية ثقافية وتاريخٌ مشترك ولغة جامعة. أما الدولة فهي مؤسَّسة تجسِّدُ رغبة الشعب أو الأمة في العيش المشترك وفي السيادة ورعاية الصالح العام وفرض النظام. قد تولدُ الدولة بقرار وتشهدُ آخرَ أيامها بقرار كذلك كما يعلمنا التاريخ. أما الأمة فهي حصيلة تاريخ وتجارب وذكريات وحكاياتٍ تأسيسية وتراث مُشترك تحفظه اللغة. كما قد نجدُ دولا تنضوي تحتها شعوبٌ وإثنيات كثيرة كالاتحاد السوفياتي في الماضي القريب؛ وفي المقابل أيضا نجدُ شعوبا متميزة بثقافتها ولغاتها وذاكرتها المشتركة ولا تزال تتطلع إلى دولةٍ تجسِّدُ استقلالها وسيادتها كالشعبين الكرديِّ والفلسطينيِّ تمثيلا لا حصرا. لذا نعتقدُ أنَّ الجزائر بعد الاستقلال – بعيدًا عن كل خطاب ديماغوجيّ – احتاجت إلى حكايةٍ تأسيسيَّة وسرديةٍ وطنية ملحمية تجعل من الشعب الجزائريِّ وحدة تجدُ روحَها العميقة، منذ القديم، في التشبث بالأرض ومقاومة الفاتحين والتوق الذي لا يفترُ إلى الحرية والكرامة وهو ما جسَّدته آخر الأمر – وبصورةٍ مشهدية – ثورة تشرين الثاني / نوفمبر سنة 1954. هذا الأمرُ على قدر كبير من الأهمية بالطبع ولكنه يقفُ عاجزاً أمام بعض مشكلات الحاضر الناشئة والمتعلقة بالتعدد اللغويِّ وما يتبطنه من صراعاتٍ هوياتية وشيكةٍ ومقبلة إن لم يتوفر لدينا عقل سياسيٌّ جديدٌ يقطعُ مع الأحادية والديماغوجية التي لم تعد شجرتها العتيقة قادرة على إخفاء غابةٍ مظلمة يسكنها وحشُ التفكك الذي يتهددنا. أقول هذا لأنني على وعي بأنَّ ما صنع سردية الأمة الجزائرية الحديثة هو دولة الاستقلال التي راكمت المكبوتَ الثقافيَّ مرتكزة على فلسفةٍ قوميةٍ وحدوية وإيديولوجية تنموية كشف لنا التاريخ مدى شعبويتها وفشلها نهاية الثمانينات كما يعلمُ الجميع. يلزمنا عقل سياسيٌّ جديدٌ لإصلاح أعطاب سياسة الدولة الوطنية في هذا المجال اليوم.
* التنوير: هل يسكنُ عقل فولتير أم لغته؟
     يبدو لي أنَّ المسألة اللغوية في الجزائر وما يرافقها من صراع علني أحيانا ومُضمَر أحيانا أخرى لا تمثل، في حقيقة الأمر، إلا الجزءَ الظاهر من الجبل الجليدي. فهذا الصراع – فضلا عن أبعاده الهوياتية الظاهرة المتعلقة باللغة – إيديولوجي بالأساس؛ وهو يرتبط بخيارات سياسيةٍ وثقافية ومواقف فكرية ترجع إلى بدايات بناء الدولة الوطنية عشية الاستقلال. فانقسامُ النخب، يومها، لم يكن انقساما لغويا فحسب وإنما انشقاقا في التصور والمرجعيات الإيديولوجية المرتبطة بالبناء السياسيِّ والاجتماعي. ولكنَّ ما يُلفت الانتباهَ وما يُثير الاستغراب هو دوامُ التشنج الإيديولوجي التقليدي بين موقفين متصادمين ورؤيتين للعالم لا تكادان تلتقيان. ففي حين يرى أنصارُ العربية في حضور اللغة الفرنسية إرثا كولونياليا ومدخلا ثقافيا أو «حصان طروادة» يضمنُ أبديا تأمين مصالح فرنسا الاقتصادية والسياسية، يرى الفرنكوفونيون الجزائريون، بالمقابل، في اللغة العربية وتراثها معينا للأصولية الدينية ومعاداة الحداثة الحقوقية والسياسية والفكرية والتحنط في مناخ القرون الوسطى. هذا الصدامُ على ما أرى لم يستطع، إلى اليوم، تجاوز المُسبَّقات الثقافية والعرقية التي تأسَّس عليها التنابذ بين مكونات النخب الجزائرية منذ عقود. إذ يشهدُ الواقع الجزائري اليوم – ثقافيا وإيديولوجيا – بروز نُخَبٍ جزائرية مُعرَّبة تناضل من أجل سيادة رؤية مختلفة وغير أصولية للأشياء. وهي نخبٌ – أحسبني أنتمي إليها – منفتحة على منجزات العقل الحديث ومشكلات العصر وقضايا التحديث ولا تعوّل على ارتباط العربية بالمقدَّس الدينيّ من أجل إنقاذها. بينما لا يزال الكثيرُ من الكتاب الفرانكوفونيين عندنا يُعيدون علينا بصورةٍ مملة جدًّا تلك الغنائية المبتذلة – المتحدرة من محمد ديب أو كاتب ياسين وصولا إلى لحظة كمال داود – والتي تعتبرُ اللغة العربية «لاتينية» أخرى نطيل أمدَ حضورها بيننا.
     ما أردت أن أشيرَ إليه هو أن نبرتي التخوين من جهةٍ أولى والاستعلاء من جهةٍ أخرى لا تزالان تحكمان العلاقة بين المُعسكرين اللذين يبدو أنَّ بينهما - كما يُعبر البروفيسور محمد أركون – «جدار برلين» إيديولوجيا لم يجد من يهدمه كي يتمَّ تجاوز هذه الثنائية اللغوية التي تمزق الوعي الجزائري وتشطره بصورةٍ دائمة إلى شطرين. ويبدو لي أنَّ أسبابَ الصراع اللغوي – التي أصبحت في حكم الماضي عمليا – لم تقنع الكثير من الفرانكوفونيين الجزائريين بضرورة تغيير الخطاب العدائي التقليدي للغة العربية والذي لا يرى فيها إلا لغة ميتة لا يُمكنها أن تتنفسَ خارج مناخ المُقدَّس الدينيِّ أو السلطة السياسية الرجعية الباحثة عن شرعية لها في العودة إلى الماضي التدشيني بعد أن خسرت رهان المستقبل بفشلها على جميع المستويات. كأنَّ العربية منذورة – منذ البداية – لعناق الأبدية ومشلولة أمام مدِّ اليد إلى تفاحة السقوط في منافي المغامرات الإبداعية. ولكنني أعتقد أنَّ راهنَ العربية منذ أكثر من قرن من الزمان – عبر امتداد العالم العربي – يُبيِّنُ بجلاء قدرتها الإبداعية العالية واحتضانها المُدهش لإيقاع التحول إبداعيا وفكريا. إذ إنَّ تراجعَها وانكماشها أمام صيرورات التاريخ والمعرفة وتحنطها في حضن المُطلق والماضي يرجع إلى انسحاب العقل العربيِّ – الإسلامي لأسباب عديدة من مغامراته المُدهشة في اكتناه العالم والوجود قبل قرون خلت ولا يعودُ إليها باعتبارها لغة. أعتقد أنَّ هذا من تحصيل الحاصل. ولكن الموقفَ الإيديولوجيَّ لخصوم العربيّة لا يرى ملامحَ الحداثة في عقل فولتير وإنّما في لغته. كأنّ التقدمَ الحضاري يرتبط باللّغة لا بالعقل المُبدع.
     هذا من جهةٍ أولى. ومن جهةٍ ثانية أرى أنّنا أصبحنا، مؤخرًا، نتأرجحُ بين الخيارات التي نعتقدُ أنّها قد تُوفر لنا مفتاحًا يمكننا من ولوج مغارة «التقدم» السحرية. وها هي الحرب تندلع بين الفرانكوفونيين والأصوليين الذين يرمون إيديولوجيًا إلى شيئين: «تطهير» تاريخنا وواقعنا من رواسب الكولونيالية، وتجاوز شللنا العلمي والتكنولوجي من خلال اعتماد اللّغة الإنجليزية في الجامعات بديلا عن الفرنسية. وهل يمثل القرارُ الإيديولوجيّ المُتسرّعُ، اليوم، بضرورة اعتماد لغة شكسبير في الجامعة الجزائرية إلاّ استمرارًا لهذا التشنج الّذي أشرنا إليه وهروبًا إلى الأمام في مواجهة وضعنا اللغوي المُتعدد بفعل الواقع وملابسات التاريخ؟ هل يمكن، فعلا، ولوجُ الحداثة التقنية والعلمية والتكنولوجية من الباب اللغويِّ قبل إصلاح أعطاب المنظومة التربوية المُتهالكة والماضوية والفاشلة وقبل ترسيخ قيم العقلانية وحرية التفكير والانفتاح على العالم والتأسيس لشروط البحث العلمي الصحيح؟ هل ضَمن اعتمادُ اللّغة الإنجليزية التقدمَ المأمول لمعظم بلدان إفريقيا والعالم العربي التي كانت خاضعة للحماية البريطانية؟ المشكلة، على ما أرى، تتجاوز ما يصبو إليه من يريدُ الاستثمارَ السياسيَّ المُباشر في محاربة «لغة المُستعمِر» التقليديّ. وها هو شكسبير يحل محل فولتير بسهولةٍ لدى من يجهل أنَّ التقدم عقلٌ جديدٌ وشروطٌ تتجاوز البحث عن «لغة العِلم والتقدم».
     إنّني أجدني، هنا أيضا، مُلزمًا بالإشارة إلى أنّ قضية اللّغة في العُمق ليست قضية بحثٍ عن وسيلة أو آلة لــ»التقدم»، وإنّما هي قضية هُوية وإفصاح عن الحضور المُتميز في العالم. لذا أرى أنه من السُخف أن نتناول إشكالياتِ اللّغة في الجزائر من منظور التقدم والتخلف كما يتناولها المُعسكران المتناحران عندنا. اللغة تستطيعُ احتضانَ اللانهائيِّ كلما كان الفكرُ مغامراً والعقل مسكونا بالسؤال والبحث وقادراً على إضرام النار في قشِّ اليقين. ستتَّسعُ رقعة القول مانحة الكينونة بيتا بلا تخوم. فاللغة – كما يُعبِّرُ الشاعرُ العظيم هولدرلين – هي «أخطرُ النعم» فعلا ما دامت قادرة على انتشال الوجود من العدم وخلع جُبَّةِ الضوء على غبار التاريخ.  
***
     أقول، أخيراً ، مُستعيدًا بنوع من التصرف الضروريّ، ما قاله المبدعُ الكبير فرناندو بيسوا: «أملك أنا أيضا، بمعنى من المعاني، شعورًا وطنيا عاليا جداً. أما وطني فهو اللغة العربية».

الرجوع إلى الأعلى