هَوسُ الشكل و رُهابُ المَعنى
أحمد دلباني
     «باش فاتونا؟ فاتونا بالعلم ...» كانت هذه، كما يعلمُ كل الجزائريين، آخر الكلمات التي تلفظ بها الرئيس الراحل المجاهد محمد بوضياف أمام الحاضرين في قاعة غاصة بمدينة عنابة قبيل حادثة اغتياله المشهدية أواخر حزيران / جوان 1992. ربما أراد الرئيسُ أن يُنبِّه إلى أنَّ المخرجَ من الأزمة – التي أعقبت توقيفَ المسار الانتخابي نهاية 1991 – يتمثل في ضرورة التحوّل من الأصولية الدينية والتدين السياسي إلى نوع من الفهم الجديد للدين المتصالح مع العصر ومع الذات بعيداً عن أي انغلاق أمام العالم قد يجعل من بلادنا أفغانستان أخرى في ظل تصاعد التطرف لدى تلك الطبعة الجزائرية من «مجانين الله». فلم تكن الحربُ التي بدأ يقرعُ طبولها سدنة الماضي يومها - انتقاما من الحاضر المُتعثر - حلا وجيها بإمكانه أن يمثل طريقا يقود إلى الخلاص من آثار فشل الدولة الوطنية وإخفاقاتها. لقد كان كلامُ الرئيس، على ما يبدو، نوعا من التذكير الهادئ بأنَّ التقدمَ المرتبط بالعلم لا يحتمل كل ذلك الهياج الديني على اعتبار أنَّ الإسلامَ لا يعادي العقل والتطور الحضاري.
ورغم اتفاقنا مع التوجهات العامة لسياسة الرئيس الراحل – بمعزل عن ملابسات تلك المرحلة الحساسة – إلا أنَّ هذا الفهمَ للعلم ودوره هو ما نحاول، هنا، أن نكشفَ عن هشاشته وعن ميزة المُهادنة التي تتبطنه في صورة مصالحةٍ مع الرؤية التلفيقية ذاتها التي تبناها الإسلاميون وهم يُفرغون العلمَ من محتواه الثقافي والفكري ويعزلونه عن الأسس الفلسفية والعقلية التي كانت في أساس ظهوره منذ بداية العصور الحديثة - في الضفة الأخرى من المتوسط – ليجعلوا منه تقنية ووسيلة لا علاقة لها بتغيير نظرتنا إلى الكون والإنسان أو رجِّ أسس ثقافتنا التقليدية السائدة. لقد ظل المناضلون الإسلاميون، طيلة عقودٍ، يفصلون العلمَ عن خلفيته التاريخية - الحضارية وشروطه العقلية والمنطقية والذهنية التي جعلت منه سلسلة من القطائع المعرفية مع المرجعيات والمؤسَّسات المختلفة. ونحن نعلمُ أنَّ ظهورَ العلم كان عسيراً و صداميا - في غالب الأحيان - باعتباره معرفة انقلابية شككت في هيبة السلطة القائمة وسيادتها التي تمحورت حول شرعية تمثيل الدين و «رؤية العالم» الموروثة عن ذلك الزواج المقدَّس بين النصوص المقدَّسة والفلسفة الأرسطية.
     ما أردنا أن نقول هو أنَّ الكثيرَ من النخب السياسية والعلمية - في بلادنا وفي عموم العالم العربي - ركنت إلى اعتقادها الساذج بإمكان تحقيق النهضة المنشودة أو التقدم من خلال استعارة العلم أو استهلاكه مع الإبقاء على العقل متوقفا عن البحث والسؤال والنقد والتجاوز. كان الجميعُ يتوهمون أنه بإمكاننا تحقيق الطفرة الحضارية من خلال الاستهلاك ومُراكمة الأشياء دون عتق العقل من أغلال الماضي والمرجعيات المُستنفَدة. لم نكن على صواب عندما حاولنا النظر إلى العلم باعتباره تقنية لا تربض وراءها قيمٌ جديدة غيرت من نظرة الإنسان كليا لنفسه وللطبيعة والعالم ولشروط المعرفة الصحيحة. أتذكر جيِّداً كيف كان بعض الدعاة من الإسلاميين يُروِّجون، مثلا، لمقولة «العلم لا وطن له» من أجل الدفاع عن إيديولوجية نضالية ساذجة وسطحية تُشيحُ بوجهها عن الإشكاليات المرتبطة بميلاد العلم ودلالات القطائع والثورات التي مثلها تاريخُه المنتصرُ على كل منظومةٍ فكرية مغلقة و دوغماتية. كأنَّ العلمَ لقيط حضاريا. لقد ظل التقليل من أهمية الأبعاد الإبستيمولوجية الانقلابية للمعرفة العلمية ديدنَ تلك الثنائية البائسة التي تجعل «الأصالة» في مقابل «المعاصرة». هكذا تمَّ اختزال المشكلات التي يطرحها العلمُ في مواكبة المُنجَز التكنولوجي وتأثيث حياتنا به بعيداً عن محمولاته الثقافية وأسسه الفلسفية والقيم العقلانية التي رسَّخها باعتباره وجها من أوجه الحداثة التي دشنت قدراً جديداً للبشرية زحزح، شيئا فشيئا، الماضي ومرجعياتِه ومؤسَّساته عن المركز أمام زحف العقل النقدي الذي لا يُقاوَم. لقد أخرجت الحداثة العلمية البشريةَ من التصورات التقليدية وهرمينوطيقا النصوص الأولى المأذونة إلى عالم البحث والاكتشاف والبناء العقلي – التجريبي – الرياضي للحقيقة. كان العلمُ، منذ بواكيره، انتصاراً لرؤية جديدة تمثلت – كما يقال عادة – في «الخروج من العالم المغلق إلى الكون اللامحدود». هذا كله يذكرنا، دون أدنى شك، بتلك الإشارة الشهيرة لماكس فيبر وهو يتحدَّثُ عن روح الحداثة رابطا إياها بالعلم الذي «نزع هالة السحر عن العالم»، مدشنا بذلك بداية انهيار العوالم القديمة وحساسيتها لصالح انبثاق الروح العلمية – التقنية وسيادتها في كل مناحي الحياة.
     هكذا يتضح أنَّ العلمَ لم يكن يوما على تلك الصورة الاستهلاكية التي تمَّ استقباله بها عندنا ونحن نتحاشى الخوض في مجمل المشكلات المتولدة عنه باعتباره ثورة زعزعت الشرعيات التقليدية كلها معرفيا واجتماعيا وسياسيا أيضا. فمن المعروف أنَّ العلمَ في عمقه، كما بيَّن ذلك هيدغر في دراسة شهيرة، يكشفُ عن أساسه الميتافيزيائي المتمثل في الذات المركزية التي دشنها الكوجيتو الديكارتي وهو يُنصِّبُ الذاتَ مرجعا للحقيقة والفعل في مواجهة العالم وقد تحول إلى موضوع للمعرفة والسيطرة والانتفاع. هذا هو، تحديداً، جوهرُ الأزمنة الحديثة. فأين ذلك من وعينا الإيديولوجيِّ الشقيِّ البائس الذي ظل أسيراً لمنطق الاستهلاك والتبعية والارتهان المزدوج للماضي والحاضر معا؟ لعلنا لم نخرج، بعدُ، من توصيف أدونيس الجميل الفاجع في بيان حزيران / جوان 1967 عندما تساءل على لسان الإنسان العربيِّ المهزوم حضاريا: «هل أستخدمُ السيارة حقا أم أنني أستخدمُ فرسا من حديد؟». إنَّ بيننا وبين فهم العلم مسافة ذهنية - تاريخية وإبستيمولوجية لم نقطعها بصورةٍ تامة إلى اليوم فكيف لنا أن نُسهمَ فيه أو في مغامرة البشرية بإبداعنا؟ إلى متى نظل ضيوفا خرسا على العصر لا نحسنُ قراءة أبجدياته ولا نستوعبُ مشكلاته العميقة ولا التحديات التي تواجهه ومن بينها، بالطبع، تلك المتعلقة بالتقنية وبالعلم وقد تحول إلى مؤسَّسةٍ ترتبط برغبة السيطرة والهيمنة؟
     لاحظ البروفيسور الراحل محمد أركون أنَّ هناك وجها سائداً من أوجه استقبال العلم الدقيق عندنا في العالم الإسلامي منذ القرن التاسع عشر. يتمثل هذا في استخدام نتائج علوم الطبيعة المختلفة في تأكيد صلاحية الخطاب الديني من قِبل بعض المشتغلين بالفكر من الذين تخصصوا في الهندسة أو الطب أو الميكانيكا في بلدان الغرب. لم يكن العلمُ عند هذه الطائفة، بكل تأكيد، معرفة تنهض على رؤيةٍ جديدة للعالم الطبيعي تجدِّدُ العقل والنظر والمقاربة وتقطع مع مجمل التصورات الكلاسيكية والعوالم القديمة كما بيَّنا سالفا، وإنما أداة نضال من أجل إثبات مشروعية الإسلام في وجه الغرب الظافر تاريخيا بفعل ثوراته المختلفة والحداثة العلمية ذاتها. وكما هو معروفٌ فقد تطور هذا التوجه واكتسح الساحة العربية تحت مُسمَّى «الإعجاز العلمي في الإسلام» مدعوما بالبترو دولار و «الصحوة الإسلامية» التي لم تكن إلا ذراعا أمبريالية من أجل الحد من المدِّ الإيديولوجي الاشتراكي في منطقتنا العربية أثناء الحرب الباردة. وبغض النظر عن الأهداف الإيديولوجية المضمرة والتلفيق المعرفي لهذا الخطاب فهو لم يكن في حقيقته البسيطة إلا «سطوا على منجزات الغير» كما يقول علي حرب. ربما هذا ما جعلني أصفه، يوما ما، بأنه يمثل «نشيد البجعة» وكنتُ أعني بذلك النشيد الذي يرتفع لحظة شعور الذات بتهديد الموت والغياب كما هو الشأن مع هذا الطائر البحري. فشعورنا المرير بالخروج من الأبواب الضيقة للتاريخ وعدم مشاركتنا في صنع أقدار العالم وافتقادنا لزمام المبادرة منذ قرون، جعلنا نعوِّضُ عن قصورنا الفادح بنوع من الفانتازيا التي تجعل الذات الإسلامية رحما لكل ما عرفه العالمُ من إنجازات وانقلابات معرفية. هذه، باختصار، عملية تعويض استشفائية من عقدة التأخر التاريخي وليست إنجازا معرفيا.
     لعل هذا يطرح مشكلة تتعلقُ ببُعدين اثنين لهما دلالة خاصة هنا: أولهما هو الأدلجة المتنامية التي اكتسحت حياتنا ومنظوماتنا التربوية وجامعاتنا مع تراجع ملحوظ للبحث العلمي والحقيقة العلمية – الاختبارية تحت ضغط «الحقائق السوسيولوجية» المنتعشة بفعل صعود الخطاب الإسلامي كما يشير إلى ذلك أركون. والثاني هو الحرجُ من العلوم الإنسانية والفلسفة والفكر النقدي بعامة. إذ ظل المسلمون يبحثون عن الجاهز عند الآخر اعتقاداً منهم أنَّ المعرفة العلمية في مجال الطبيعيات تستطيع أن تمنحَ أيَّ خطاب آخر صلاحية معرفية مطلقة، في الوقت الذي يدرك فيه كل من يملك الحدَّ الأدنى من الثقافة في هذا المجال أنَّ المعرفة العلمية ليست مطلقة وإنما هي بناءٌ يخضع للاختبار والمراجعة والتصحيح وينهض، إبستيمولوجيا، على القطائع و «مبدإ التكذيب» كما بيَّن كارل بوبر. ولكنَّ هذا الأمر لا يشغل أبداً بال المناضل الإسلامي الذي تحركه «شهوة الهيمنة» على الفضاء السوسيو- سياسي لا «شهوة المعرفة».   
***
     هذا من جهةٍ أولى. ومن جهةٍ أخرى أرى أنَّ الأممَ المتقدمة لم تتجاوزنا بالعلم فقط. لقد تجاوزنا العالمُ المتحضر – وهذا هو الأهم في اعتقادي – بالأنسنة والتقدم الاجتماعي والسياسي، أعني بذلك الخروجَ المشهديَّ من دائرة قيم قديمةٍ متمحورة حول المطلق والتعالي إلى دائرة قيم جديدةٍ متمحورة حول الإنسان. وقد تجلى هذا في اتساع دائرة الحريات الفردية والجماعية وفي الديمقراطية باعتبارها نظاما يقوم على الإرادة العامة ومرجعية البشر التشريعية واحترام حقوق الإنسان. فإذا كان البعدُ العلمي - التكنولوجي قد مثل الجانب الكمي من التقدم فإنَّ الحقوقَ والحرياتِ واحترام كرامة الإنسان والانسلاخ من منظومات الإخضاع الاجتماعية والسياسية قد مثلت، كلها، الجانب الكيفي منه. ومن الواضح أننا - في العالمين العربي والإسلامي معا - لم نلتفت إلى هذا كثيراً وظل همُّ أنظمتنا ومجتمعاتنا تحقيق التراكم الكمي دون أدنى اهتمام بتحرير القدر الإنساني من امتدادات نظام الوصاية على الروح والعقل والجسد. أتذكر، هنا، كيف هلل الكثيرُ من العرب، نهاية الثمانينات، لامتلاك صدام حسين قوة عسكرية وأسلحة دمار أصبح يهدِّدُ بها إسرائيل قبيل حادثة غزوه المؤسفة للكويت. لقد اعتبر الكثيرون ذلك فخراً للعرب، كما اعتبروه نموذجا للقيادة التي تولي أهمية خاصة للعلم والتكنولوجيا على درب منافسة الغرب واسترجاع مكانة العرب بين الأمم. ولكن ماذا كان يخفي الجانب السياسي والحقوقي والإنساني للعراق آنذاك؟ هذا ما لم يهتمَّ به من كانوا يرون في عسكرة النظام وتغول الدولة الأمنية والدَّوس على حقوق الإنسان شيئا ذا أهمية أمام التحديات المطروحة. كانت أنظمتنا تجتهدُ في جعل الإنسان صغيراً كجرم خامد يدور في فلك الطاعة وفقدان روح المبادرة والإبداع. ولكن «من أين للوطن أن يكونَ كبيراً بإنسان صغير؟» كما تساءل أدونيس بمرارة. ما أردنا أن نُنبِّه إليه، من خلال هذا المثال، أنَّ العلمَ يسهل تحويله إلى تقنية تطمسُ نموَّ المجتمع المدني وتحول الحياة العامة إلى «غولاغ» بما يتيحه من قدراتٍ رهيبة للدولة الأمنية ومن تقنيات عالية الكفاءة على مراقبة البشر ومعاقبتهم. لم يكن بإمكان التكنولوجيا التي هللنا لها وسعينا إلى امتلاكها أن تلجمَ نيرون العربيَّ وتحُدَّ من مغامراته. ومن نافل القول هنا، على ما أعتقدُ، أن نستعيدَ أعمال بعض مفكري الغرب الكبار الذين تناولوا بالبحث الحفري علاقة المعرفة بالسلطة بعيداً عن أوهام من ظلوا يعتقدون بوجود المعرفة الخالصة المستقلة عن تكنولوجيا إنتاج الذوات الخاضعة. أعتقد أنَّ أعمال ميشال فوكو أساسية في هذا المجال.

الرجوع إلى الأعلى