بقلم: سفيان رجب – روائي تونسي
منذ سنوات، كنت أسمع بالروائي محمد الأصفر، لكنني لم أقرأ له سوى بعض المقتطفات من رواياته، وبعض الحوارات، إلى أن قرأت له رواية علبة السعادة.
يبدو محمد الأصفر سينمائيّا يشتغل داخل اللغة، على الأقل في روايته التي قرأتها، علبة السعادة، في هذه الرواية، يعود الأصفر إلى فترة مفصلية في العالم، وهي الفترة التي سبقت تفكّك الاتحاد السوفييتي، تبدأ الرواية من أوروبا، في منتصف الثمانينات من القرن العشرين، من جزيرة مالطا تحديدا، وتنتهي في أوروبا، تحديدا في فرنسا، في غرفة الفتاة التشادية قمرة. تبدأ الرواية بمشهد عشق بين شابة مالطية والشاب الليبي مبروك، عازف القيثار، الذي حوّلته الأحداث التي عرفها في ليبيا والتشاد، إلى عازف كورا، وهي آلة وتريّة افريقية، تُصنع من نصف يقطينة، وتُغلّف بجلد البقر، ولها أوتار مصنوعة من جلد غزال. وتنتهي بمشهد تلفزي، كانت تبثّه قناة ألمانية، وهو مشهد مهاجمة مجموعة من المتطرّفين الألمان لعازفين مشاركين في كرنفال بمدينة كولن.
ترصد الرواية المعاناة التي عاشها الإنسان الليبي، المبدع خاصة، في ظلّ نظام دكتاتوري شمولي، يصادر حتى الآلات الموسيقية الغربية، بتعلّة أنها تشيع الأفكار المتغرّبة، وتمسّ من أصالة الموسيقى الليبية، ويحوّل الناس حرّاسا على بعضهم البعض، فمن كان يراقب شخصا يركل علبة بيبسي، سيكون مراقبا هو الآخر، ومن يراقبه سيكون كذلك مراقبا، وهكذا تُهدر طاقة الإنسان في أعمال مجانية، لا تخدم سوى سلطة دكتاتورية مريضة.
تبدو الرواية، بسيطة في بنيتها، تشبه آلة الكورا التقليدية وعازفيها، تلك البساطة الساحرة التي لا يتقنها سوى أبناء الأيام والمحن، زاهدة في كلّ لمسات التجميل السرديّ، وهذه الرواية تمثّل رحلة البحث عن الذات، فالبطل مبروك، أستاذ الموسيقى وعازف القيثار، سيكتشف بعد المعاناة التي مرّ بها في الجيش الليبي الذي كان يحارب على الحدود التشادية، وأثناء أسره في التشاد، أنه ينتمي لهذه الثقافة البسيطة والعميقة، الثقافة الإفريقية، التي تجيد الإصغاء إلى أشجارها وحيواناتها وطيورها وأنهارها وصحرائها وقمرها.. وهذه العوالم، هي التي رضعت منها حواسّ الإنسان الإفريقي، وتحوّلت في روحه إلى أحاسيس ومشاعر. فحين يرفع عازف إفريقي آلته الموسيقية في وجه العالم، فهو يتحدّث عن أرضه وقبائله وعاداته وحكاياته، دون أن يتكلّم، ودون أن ترافقه جوقة مترجمين.
يبدو محمد الأصفر، قلقا ومتشنجا، في بعض فصول روايته، يقفز بين أحداث مهمّة، كان يمكن أن يدقّق في تفاصيلها أكثر، لكن كاتبنا يبدو ضاجا بأفكار روايات وقصص أخرى، وهذه صفة الكتّاب المبدعين، الذين يحاولون جمع أفكار كثيرة في وقت قليل. إنهم في صراع أبديّ مع الزمن، شأنهم شأن الطيور المهاجرة، التي لا يحدّها فضاء.
في أدب محمد الأصفر، ثمة صوت أحمر غاضب ومحتجّ، ضدّ القوى التي تدجّن الإنسان، وتتاجر بأحلامه وأفكاره. فكاتبنا ليس من الذين يميلون إلى التفسير والتحليل، وإنما هو مقاتل شرس، وصعلوك مخرّب لمدينة الأوهام الإنسانية الجديدة.
في رواية علبة السعادة، ثمة دعوة لحبّ الحياة، وللثورة ضدّ أعدائها. رواية تخلق صورها وموسيقاها وشعرها، من تفاصيل بسيطة وهشّة في الإنسان. أكاد وأنا أقرؤها، أسمع أنغام الكورا، بين يديْ السيدة التشادية زمزم، التي تجلس في ليلة مقمرة، على الرمل، وتحتضن آلتها البسيطة، كأنها تحتضن رضيعها، وتعزف أنغاما تشبه انسياب الماء في الصحراء.
يمثل محمد الأصفر، مع قلّة من الروائيين والقصاصين والشعراء العرب الآن، الملاذ الأخير للمخيّلة العربيّة، التي تحاول خنقها بعض المؤسسات الأكاديمية المسطّحة، بصناعة نماذج مزيّفة من المبدعين، أغلبهم في الأصل أساتذة متقاعدين، أو ظلالهم من الطلبة، كلهم « الأساتذة وظلالهم» يكتبون نصوصا إنشائيّة مملّة، ويسيطرون على منافذ المشهد الأدبي العربيّ، من دور نشر وجوائز..، وغيرها من مؤسسات التأثير على المقروئية الأدبية العربية.

الرجوع إلى الأعلى