بيتنا
حاول الكثير من سماسرة العقارات والمستثمرين شراء بيتنا  لتحويله إلى مطعم حوت أو فندق أو سوبر ماركت  ، لكن أبي رفض أن يبيع . بعد وفاته أعادوا الكرّة معنا فرفضنا التفريط في إرث الأب والجد . قالوا لنا أنتم شباب والمستقبل أمامكم  وبيتكم هذا متهالك ، نخرته رطوبة البحر ومضى زمان طويل على بنائه  ، سنمنحكم بدلا منه دارا أنيقة في حي الدولار  ، أو مزرعة نموذجية في منطقة القوارشة  أو سيدي فرج ، مع مبلغ مالي محترم تفتتحون به مشروعا تجاريا  يدر عليكم أرباحا بالهبل . لكننا رفضنا بحزم . حاولوا بعدها إرهابنا بطرق جدا قذرة كي نرضخ لهم ونبيع ، فصمدنا  أمامها أيضا ولم نتزحزح عن موقفنا .
يقع بيتنا على شاطئ البحر ،  يمينه منارة سيدي خريبيش ،  يساره ميناء بني غازي البحري ، و أمامه شاطئ الكورنيش العتيق ، حيث الكراسي الصخرية والأحواض المرمرية المليئة بالزهور .
 الأرض المشيد عليها البيت هبة من الولي الصالح سيدي خريبيش ، ضريحه ومنارته قربنا   ، يقول أبي  لا ينبغي التفريط   في بيت عتبته مباركة.
تناقشت مع أبي كثيرا في موضوع الانتقال من البيت  دون جدوى ، ذات مرّة  قلت له:
كل جيراننا تركوا وسط البلاد  ، وانتقلوا للعيش في بيوت حديثة في أحياء الفويهات وطابلينو والقوارشة وبوعطني ، و بيوتهم التي على يميننا ويسارنا تحولت  كلها إلى متاجر ومطاعم وبنوك ومقاهٍ وفنادق ووكالات سفر ، فكيف يمكنا أن نبقى هنا  دون جيران ندخل إلى بيوتهم ويدخلون إلى بيتنا مثل زمان ؟ . يبتسم أبي ابتسامة خفيفة مع هزات رأس لا أدري هل تهتز مؤيدة لكلامي أم معترضة عليه وأنتظره أن يفصح عن رأيه فلا يتكلم  فأوكّد  :  نعم  كل جيراننا رحلوا عن المكان ، لم يتبق  منهم  سوى بيت  سي عثمان و زوجته الحاجة خديجة وابنتهما  فطوم الملاصق لنا من الخلف .  تتسع ابتسامة أبي عند ذكر شريكه وأسرته ويقول:
عائلة سي عثمان هم الخير والبركة ، الله الله لا تتركوهم يحتاجون أي شيء ، بيننا عيش وملح ،  يكفي أنه رفيقي وأخي وشريكي في المركب ، نعيش معا ونموت معا ونحن نسعى لرزقنا في عرض البحر . ويستغرق أبي في حكاياته عن مآثر شريكه سي عثمان منتقلا من حكاية  إلى أخرى  بحماس . يقول :
ذات مرة غرق وأنقذته بأن تنفست في فمه ، وذات مرّة غرقتُ وأنقذني بأن تنفس في فمي . يضحك أبي ثم يواصل كلامه :   يعني هواؤنا واحد . وعندما قال الطبيب : جميل أنقذته بعملية تنفس صناعي . قلت له : يا رجل قل تنفس طبيعي ، فالهواء واحد ورئاتنا واحدة ، وحتى قلبنا لعلمك واحد  .
يسحق أبي عقب السيجارة في المنفضة  ويزيحها بهدوء إلى أقصى طرف من الطاولة ثم يهمس :  والآن دعنا من الجيران الذين غادروا إلى الأحياء الأخرى ، يكفي أنّ جيراننا  الآن سيدي خريبيش ، والمنارة ، والميناء ، وشاطئ الكورنيش الطازج  الذي نشاهد فيه كل عشية وجوه أهالي بني غازي الطيبين ، بمن فيهم جيراننا المنتقلين إلى مساكن في أحياء راقية  ، لكن عجزوا أن يستقروا ويهمدوا هناك ، فنراهم يوميا صباحا وعشية ومساء يحومون ذاهلين حول الكورنيش و ميدان سوق الحشيش وميدان البلدية وميدان سوق الحوت وشوارع بني غازي العتيقة الأخرى التي ولدوا وترعرعوا فيها كشوارع العقيب ، فيا تورينو ، قصر حمد ، مصراتة ، الشويخات ، عمر المختار ، المهدوي ،  توريللي  ، سوق حداش ، دكاكين حميد ، السكابلي وغيرها .
كنت أنصت لأبي بتركيز احتراما لذكرياته التي أحاول برأيي أن اقتلعه منها وأغرسه في مكان غريب عنه ، يحمر وجه أبي وينز من جبهته عرق وهو يتحدث بحزم :
دعنا يا رجل نواصل عيشنا  في وطننا هنا  ، ولا نتحوّل إلى حوّامة حول المكان  نعيش حنينا يخلف لنا ألما لا يطاق ، وربما سنسمع من المكان أو البيت الذي بعناه أو استبدلناه عتابا غير محتمل ، مثل  كنت أحبكم وعشنا معا سنوات طويلة فلماذا تركتمونني للغير ليهدمني ويغيّر ملامحي ويصيّرني مسخا لا يروق لي ؟ ، وقد يكون الطقس حارا والشمس في كبد السماء ، ونضطر آنذاك أن نلجأ إلى ظل بيتنا القديم الذي بعناه مثلا وتحول إلى شركة أو فندق أو حتى ملهى ليلي أو مذبحة دواجن  ، وما نكاد نهنأ بالظل وننتعش و نلتقط أنفاسنا قليلا ، حتى يأتي من يقول لنا : عفوا الوقوف هنا أو الجلوس هنا ممنوع ، وقد يكون وغدا وجلفا جدا فيطردنا  بعبارة استفزازية وقحة مثل : “ ترى ورّونا عرض أكتافكم “  “ هيا تفضلوا من غير مطرود “ .
 يضرب الطاولة بقبضته غاضبا وكأن العبارتين الاستفزازيتين قد قيلتا له فعلا ثم  يهدأ و يبتسم ، وبعد أن يرشف من كوب الماء عدة رشفات يرفع سبابته إلى أعلى متحدثا بصوت واطي لا يكاد يسمع  :
 بإذن الله الواحد الأحد لن نترك هذا الجرم يحدث ، لن نفرط في بيت البركة هذا  ، لكن  يا ابني لن نكون متزمتين أو غير مواكبين لتطورات العصر وعمليات التحديث والتنوير التي تقترحها الحياة في سعيها الدؤوب  نحو ضوء أنقى و أعمق ،  فمثلا لو أتى من يطلب تحويل الدور الأرضي من البيت إلى مكتبة ، فربما بعد دراسة الموضوع واستشارتكم سأوافق . لكن للأسف ، لم يأت أحد  ليطلب مني ذلك  وربما لن يأتي بالطبع ،  فعصر المعنى قد ولّى ، وكل الذين يطاردونني الآن كي أبيع أو استثمر معهم ، يريدون البيت برمّته لمشاريع تجارية ، تبدأ بهدم العقار وطمس تاريخه وذكرياته  ، وتنتهي بسكب الخرسانة المسلحة في جوفه ، والارتقاء به في غباء عدة طوابق   ، فبالله عليك كيف أتواطأ معهم ، لتنفيذ جريمتهم  في حق حضن احتوانا وسترنا العمر كله  . قلت له :
 وقد أقنعني كلامه إلى حد ما : صدقت يا أبي ، مشاريع هدفها كسب المال وليس إثراء المعنى . قال أبي  :
نعم هذا ما قصدته بالضبط ونطقت به أنت الآن . وبعد لحظات صمت وهو مغمض العينين وكأنه يتخيّل مشهدا ما  ، فتح عينيه ببطء وأضاف :  أمنيتي أن يتحول جزء من المبنى ذات يوم إلى مكتبة ، أنت تعرف ولعي بالكتب والورق ، وحتى الأوراق والقراطيس  وصفحات الجرائد أو المجلات التي تصادفني في الطريق أجمعها وأقرأها ثم احتفظ بالذي يعجبني منها ، حتى صار الأمر مع الوقت  هواية ، بل قلْ إدمانا لذيذا فرض علي أن أهتم بالأمر أكثر ، فخصصت للقراطيس والأوراق والقصاصات ملفا تطوّر فيما بعد إلى إضبارة منظمة مبوّبة ذات فهرست مؤبجد .
مع ذكر أبي للمكتبة والأوراق والإضبارة والمنارة والكورنيش والبحر  اقتنعت تماما برأيه و تخليت نهائيا عن طرح فكرة الانتقال إلى حي آخر ، بل ازداد تشبثي بالمكان الذي ولدنا وعشنا فيه .
مات أبي غريقا صحبة شريكه جارنا سي عثمان ، انقلب بهم مركب الصيد  فجأة حسب ما سجله رادار خفر السواحل ، كان الطقس عاديا ساعة الإبحار ، وحتى النشرة الجوية لم تخبر عن عاصفة أو إعصار أو تقلبات خطيرة قادمة  ، لكن للبحر جنونه وأسراره ، خرجا بالمركب عشية  لكن لم يعودا للميناء كالعادة فجرا محملين برزقهما من خيرات الماء  ، في المساء عرفنا من ريّاس الميناء أن المركب غرق ، وفي اليوم الثاني قذف البحر جثتيهما إلى الشاطئ .
كان يوما حزينا ، كل بني غازي بكت الشهيدين ، أما نحن فلم نعد نشعر بوجودنا ، لكن أمي كانت صابرة محتسبة ، عملها في المستشفى ورؤيتها لحالات الموت بين حين وآخر  جعلها قوية صامدة .
 بعد دفن أبي وشريكه سي عثمان في مقبرة الهواري ارتدت أمي بياض العدّة وجمعتنا معا وصبّرتنا  بكلمات دمعها أكثر من حروفها ، وعندما عانقتها مع إخوتي و أختي شعرنا أن أبي لم يمت ، شممنا رائحته فيها ، ملح بشري سرى في عروقنا ، بكاء بحر حنون بللنا وواسانا  . قالت لنا أمي : لا تنسوا مواساة جارتنا الحاجة خديجة ، فسي عثمان  الله يرحمه مثل أبيكم بالضبط . وفعلا قدمنا لجارتنا التي اتشحت هي الأخرى بالبياض واجب العزاء وشعرنا أن سي عثمان فعلا مثل أبينا وزوجته مثل أمّنا وابنته فطوم مثل أختنا فعلا .
يقع بيت عائلة سي عثمان  خلف بيتنا بالضبط ، بابنا يفتح على البحر والكورنيش و بابهم يفتح على شوارع وسط المدينة ، ابنهم قبض عليه في تظاهرة سياسية قام بها الطلبة  وقضى نحبه في السجن تحت التعذيب  ، وابنتهم فطوم فتدرس مع أختي نورية في المعهد ، لكن معظم وقتها تقضيه في بيتنا  وكأنها تسكن معنا ، وقد حرص أبي وسي عثمان على فتح باب صغير يربط البيتين ببعضهما البعض ،  أي يمكننا نحن العبور إلى وسط المدينة من خلال بيتهم و يمكنهم هم العبور إلى الكورنيش والبحر من خلال بيتنا.
• رواية قيد الطبع

الرجوع إلى الأعلى