محمّد الأصفر يُصفي إرث مصطفى سعيد !
يحشد محمّد الأصفر  النبات والحيوان  ليصوغ ملحمة «الجنوبيّ» الذي يقيم واحته في الشمال بتلقائيّة الرجل الذي يأكل التمر ويلقي النوى غير مكترثٍ بالنظام الدقيق الذي تقترحه الحضارة المستضيفة، ولا بالنظرات المستهجنة لفعله.لا يحدث ذلك إلا مع النوى، لأنّ حلاوة التمر في لسانه تأمره بذلك ولأنه يحبّ رمي النوى على التراب.
قراءة: سليم بوفنداسة
بهذا الطقس يفتتح الأصفر روايته «تمر وقعمول»، لكنّ بطله لن يسرف في إملاء شروطه ولا في استدعاء عاداته، لأنّه لا يشبه أسلافه المسكونين بالغزو أو الانتقام ولا يحمل على الإطلاق جينات مصطفى سعيد، بل يبدو على النقيض تماماً من هذا «الصّنم» الذي يُستدعى عند كلّ حديث عن الروايات التي تتناول العلاقات الملتبسة بين والجنوب والشمال.
في ألمانيا يستقرّ البطل القادم من ليبيا مع عائلته، وهناك يبدأ حياته الجديدة  التي تبدو من الإشارات الأولى أنها بلا كدر، من الشرطيّة الجميلة التي تحمل له بطاقته الضائعة إلى البيت، وتقول له إنّ الشرطة في خدمة «إخوتنا اللاجئين الذين نتطلّع أن يندمجوا مع المجتمع ويصبحوا من الشعب»، حين يعلّق على سلوكها بالقول: «فعلاً الشرطة عندكم في خدمة الشعب»، إلى مأوى المسنّين الذي تزوره عائلته  ويتخذ أفرادها من النزلاء أقارب لهم، إلى السناجب التي تحبّ رامي النوى وتحدّثه ويحدثها. السناجب التي لا تخشى الإنسان على عكس «الجرابيع» الليبيّة التعيسة التي لا تستريح من مطاردات الصّيادين المحترفين والهواة على السواء.
لن تنال «وشاية» من سلوك رامي النوى، حين ينجح في الحصول على  تسريح بمواصلة عادته الأثيرة من باب توفير السلطات الألمانيّة للرّاحة النفسيّة للاجئ، وما دامت السناجب تتغذى عليها ولا تتركها تتكدّس، سيقول له المحقّق: «دافع الضرائب الألماني سينبسط جداً إذا ذهبت نقوده لإسعاد نفس كئيبة معذّبة بسبب ابتعادها عن وطنها، وما دام النوى يلتهمه السنجاب  ولا يتكدّس مسبّباً تلوّث البيئة فسنسمح  لك برميه، سنكتب لك تصريح رمي النوى، ارم كما بدا لك يا ضيفنا العزيز، خذ حريّتك في الرمي، لكن إن تكدّس النوى فسوف نمنعك من ذلك برفق وإن قاومت فبقوة القانون،ها ما رأيك؟ ضربت قبضتي على قبضته وقلت له: موافق يا دين أمي ! «
بعد فترة، ستظهر أشجار نخيل في جوار العمارة التي يقيم بها اللاجئ، دون أن يدري إن كانت من بنات النوى التي لم تلتهمها السناجب، أم أنّ السناجب ذاتها قامت بغرسها. وما لبثت الأشجار أن تعالت بثقة وحماس، غير آبهة بالتعاليق العنصرية التي لا يتقبّل أصحابها ظهور شجر جنوبي على أرضهم .
ستصير النبتات نخلات مكتملة مدفوعةً بقوّة روحيّة، لكنّه سيضطر إلى النّضال من أجل إبقائها حيْثُ نبتت، بعد أن يُخيّر بين اقتلاعها أو نقلها إلى حديقة النباتات و الأشجار التابعة لكليّة الزراعة في المدينة، حيث تنضم إلى أشجار العالم  ليشاهدها السيّاح ويدرسها الطلاب. وسوف يسانده السكان الذين استلطفوا هذا النوع من الأشجار والشركة المالكة للعقار، ما دامت هذه الأشجار شرعيّة وغير مشبوهة. وابعد من ذلك فإنّ السكان سيتبنون النخلات و يتعهدونها بالعناية، وحتى السناجب التي اكتشفت أنّ النوى التي أخفتها أصبحت أشجاراً ساهمت في مجهود الرعاية.
وحتى حين تمتدّ الجذور وتُحدث تشقّقات في الطريق فإنّ غارسها سينال الثناء لأنّ الصّدوع كشفت عن قنبلة نائمة في بطن الأرض منذ عشرات السنين، أي أنّ جذور النخلات دلت على مصدر كامن للأذى.
بعد أن استنبت الراوي واحته سيعمد إلى اختراع عائلة ولا بأس أن يكون أفرادها من بيت المسنّين القريب من مسكنه، حيث ستختار ابنته جدة تزورها يوميا وتخرج معها في نزهة، وسيختار الابن جدّاً يحكي له الحكايات ويلاعبه الشطرنج أما الزوجة فستختار عمّة وخالة وجدّة.
وهكذا سينال كلّ طرفٍ ما ينقصه: « وهكذا سيكون لنا عائلة ولن نشعر بالغربة في الوطن الجديد، هم مسنّون بسبب الزّمن، ونحن مسنّون لغياب الأقارب والأحباب، سنبدع شيئاً يسعدنا معاً. سنمنحهم زمناً جديداً بأبنائه وأحفاده، وسيمنحوننا عائلة وعشيرة وقبيلة تشعرنا أنّنا نستند إلى ركن متين، مقايضة نبيلة مفيدة للطرفين».
مديرة دار المسنّين استلطفت الفكرة و دعت إلى التريّث لأنّ الأمر يحتاج إلى إجراءات في بلد الأوراق، لكنّ الموافقة ستأتي بسرعة بشرط القبول والاستلطاف بين الطرفين. وسيختار أفراد الأسرة أقاربهم، أما الرّاوي فقرّر التريّث فربّما كان هناك  مسنّون غائبون عن الدار في يوم الاختيار فيقع عليهم الظلم، فوجب التمهل لكي يكون الاختيار مُنصفاً.
 وسيظهر هذا القريب مع الربيع حين تقيم الدار حفلا تشارك فيه العائلة، ولا بأس أن يستعين الراوي بمفاجأة مذهلة حين يكون آخر المشاركين في الحفلة مقيم  بوجه قمحي يؤدي أغنية شعبية ليبية من نوع «مرسكاوي». ويتعلّق الأمر بالعم “موشي” الذي سيصبح شريك الراوي في السرد وليس قريبه في المأوى فحسب.
و موشي يهودي من بني غازي دفعته الظروف سنة 1967 للهجرة إلى فلسطين المحتلة، ولأنّه لم يكن صهيونيا لم يستطع التكيف، فسافر إلى ألمانيا حيث ينتظر الموت الآن: “ واجهت في فلسطين مشاكل كثيرة ساعدتني أمي على احتوائها وتجاوزها، فذات عام طلبوني للتجنيد كي أحارب العرب أصحاب الأرض والوطن، فتخلفت عن الذهاب لإجراء الكشف الطبي، فلا أحبّ أن أخوض حرباً ضدّ قوم ولدت على أرضهم وأكلت من خيرهم وأرضعوني من لبنهم...” وتضطر أمه لبيع حليها لدفع ثمن إعفائه كي “ لا يقتل ابنها أحداً”.
ولأنّ حكايته طويلة فإن الرّاوي سيمنحه الوقت والمساحة ليرويها، في تقاطع للمصائر سيعيد العمّ موشي منتظر الموت إلى الحياة.
حيث سيتسامران  فيما بعد ويستعيدان تاريخهما الخاص الذي هو تاريخ ليبيا أيضا. حيث استعاد كلّ منهما حياته وليبياه التي تبدو كحلم  لم ينطفئ بعد.
لكن الكاتب الذي استأنس النبات والحيوان سيواصل لعبته ويخرج للقاريء «القعمول» من جراب موشي، وهو خرشوف بري لا ينمو إلا في برقة شرق ليبيا أخذه في هجرته الأولى وجفّفه واحتفظ به وحمله معه في وفاء لتربته الأولى.
 ولكي تستوي الأمور لا بدّ من هجرة معاكسة، أي لا بدّ أنّ تعود «القعمولات» إلى أرضها حيث ستمنح الخصب لهذا النبّات الذي انتكس على أرضه، مثلما سيعود «موشي» إلى بيته القديم لا ليموت بل ليساهم في بناء الديمقراطيّة وليساعد زوجته في إقامة محميّة للجرابيع الليبيّة كي تنعم بالأمان الذي تنعم به السناجب الألمانيّة ويؤسّس مهرجانا للقعمول الذي تحوّل إلى رمز و منتوج وطني يدر الخيرات، والذي لا يتخلّف موشي عن إرساله إلى صديقه الليبي في ألمانيا، أي الراوي الذي لا يعود إلا ليحضر جنازة العمّ موشى الذي رقد أخيراً حيث يحبّ أن يفعل ذلك.
في سرد رشيق ومذهل يرسم محمّد الأصفر عالمين يتحرّك فيهما بطله «المتوازن» الذي يقترح على الآخر أجمل ما فيه، كندٍّ لا يتنكّر لذاته ولا يحمل ضغينة للآخرين، وهو بطل نادر في الرواية العربيّة التي تتناول العلاقة مع الشمال، منذ أن أطلق الطيّب صالح مصطفى سعيد لينتقم من الغرب بطريقته المعروفة. فبطل الأصفر غير مأزوم وسيكتفي بإعجاب بريء بالشرطيّة التي تعامل معها ناسفاً كلّ الصوّر النمطيّة عن الجنوبي الجائع جنسياً، أو الذي يريد فرض ثقافته وطباعه على الآخرين، لأنّ البطل يحبّب الآخرين في نخيله وتمره من غير سوء.
و بالطبع فإن الرواية تحمل ملامح سيرة مطعّمة بفانتازيا  وسخريّة هي ترجمة لألم غير معلنٍ، فالروائي محمّد الأصفر يقيم منذ سنوات في ألمانيا مع أسرته ولم يُثمر منفاه نخلات بل روايات تعيد الاعتبار للوطن المفقود باستعادته برعاية كريمة من خيالٍ كريم.

الرجوع إلى الأعلى