- اللّغة أداة رائعة لتسليط الضوء على ما يجعلنا مرضى      
- الكتب هي أطعمة معلّبة ضخمة
تعترف الكاتبة الألمانية بيترا أوربان أن سر الكتابة يكمن في اللغة تحديدا، ولذلك راحت بعد امتلاك ناصيتها تنسج نصوصها بأناقة وألمعية وحس إنساني مرهف، ولدت بيترا أوربان عام 1957 وقد تحصلت في مسيرتها الدراسية الحافلة بالنجاح، على دكتوراه في الفلسفة من جامعة هاينريش هاينه عن موضوع يتعلق بأعمال الموسيقار الشهير فاغنر، كما تعددت اهتمامات هذه الكاتبة غزيرة الإنتاج، حيث أصدرت العديد من الأعمال في القصة القصيرة والرواية وفلسفة التأمل  والتحليل النفسي، نالت عن بعضها جوائز مهمة، وهي تعكف منذ سنوات على الكتابة في الصحافة و تقديم محاضرات حول الكتابة الإبداعية، ومن بين أعمالها الأدبية والفلسفية المنشورة نذكر على سبيل المثال .» إرادة العيش يا لها من رغبة جامحة « «قلبي يرقص في السماء» و» الحياة مغامرة أو لا شيء» .. في هذا الحوار نحاول الاقتراب أكثر من عوالم  هذه الكاتبة الفذة.

حاورها: رشيد فيلالي
..............................
 - في كتابك «الحياة مغامرة أو لا شيء « ثمة تركيز كبير على الحاجة إلى معرفة الذات أكثـر، هل تعتقدين- دكتورة أوربان- أن كل الناس لديهم هذه القدرة على التحليل النفسي والغور في أعماق الذات؟
 *أجل، مثلا في كتابي «قلبي يرقص في السماء» أصف كيف، بعد حادثة وفاة أخي ، التي أربكت توازني العاطفي تمامًا، رحت أبحث عن طبيب نفساني للعلاج من صدمة هذا الفقد الجارح. بالنسبة لي ، كل شخص يشعر بالاستعداد للتساؤل، لتتبع مخاوفه،  فهو يمتلك القدرة على إعادة اكتشاف نفسه من خلال محادثة علاجية. لقد تحدث بصواب كبير سيغموند فرويد ، ذائع الصيت والعارف الجيد بالطبيعة البشرية، عن «علاج الكلام» أي عن الخطاب، ومن هنا يمكن أن تكون اللغة أداة رائعة لتسليط الضوء على ما يجعلنا مرضى. ولذلك فإن الحديث يساعد و غياب الكلام يشبه التصلب المؤذي. عبر هذا الفهم ندرك أن أي شخص يسعى ويجد الكلمات في مسعاه هو مستمر على قيد الحياة ، كونه في حالة تغير مستمر ويمكن أن يتبع آثار كيانه من خلال اللغة ذاتها ، والعثور من ثمة على كلمات تبعث فيه الروح مجددا.
 - كان والدك محامًيا ، وكما قلت ، كان له تأثير كبير في شحذ شخصيتك. متى عرفت أنك تريدين أن تصبحي كاتبة وليس محامية؟
 *لقد أثر والدي بعمق في حياتي. كان خطيبا ممتازا، ملهما بتجاوز القضايا الصعبة في اللغة. بالإضافة إلى ذلك كان في مقدوره أن يجادل بشكل جيد للغاية في النزاعات والمساجلات. هذه الهبة الرائعة فتنتني كطفلة. وهكذا بدأت مسيرتي المهنية بعد التخرج والحصول على شهادة في الحقوق. لكن كان من الواضح بصراحة مع بداية العمل أنني أردت فعلاً تحقيق شيء آخر ، ومن بين القضايا التي أثارت في نفسي هذا التوجه، تفاصيل قضية قدمت لنا في درس بشأن عامل في قطاع الصلب يدفع زميلا له أثناء نزاع داخل فرن الانصهار. كانت مهمتنا نحن الطلاب تتمحور حول وجوب فرز الفقرات والحقائق ذات الصلة وتصنيف كل واحدة على حدة. لكن الشيء الوحيد الذي أثار اهتمامي قبل كل شيء هو مضمون القصة وليس الحادثة في حد ذاتها، وهذا ما كتبته خلال هذا الدرس. إذ إنني حينذاك لمست في قرارة نفسي أنني لا أعير اهتماما للمشاكل القانونية، وإنما لمضمون القصص تحديدا. ومن هنا شرعت في دراسة الفلسفة والفلسفة الألمانية على وجه الخصوص.
 - طيب، وماذا تعني «الكتابة» بالنسبة لك؟
 *الكتابة تعني أن تكون مبدعًا. والإبداع هو على الأرجح الشيء الأكثر حيرة والقوة الأعظم في الوجود . إن التعبير عن الذات بالكتابة، أن تصف نفسك كلمة بكلمة ببطء وروية، مرارا وتكرارا هو عمل خارق وانغماس في الأعماق الخفية لذاتنا، يمكننا أن نختبر كيف تتغير الكلمات عبر السطور المتتالية، بالنسبة لي إن « اللغة» هي أكبر مغامرة في هذا العالم، وقد أدركت مبكرا بأنني لست سوى طالبة مغامرة في اللغة، وهناك ضمن هذا السياق جملة رائعة للكاتب جورج باتاي: «الكتابة ،هي البحث عن السعادة» وأعتقد أنني من جهتي بحثت عن السعادة في الكتابة ووجدتها فعلا..


- وفي تصورك هل الأدب قادر على «علاج» المأساة الإنسانية؟
*لا يمكن للكتب تغيير العالم ، ولكن يمكنها تغيير الأشخاص من خلال خلق مساحات جديدة من الشعور والتفكير. الكتب هي أطعمة معلبة ضخمة. كل ما عاناه البشر في الأزمنة كافة ، وشعروا وفكروا فيه هو خالد في ذواتهم ، و تم تدوينه وتسجيله. أحيانًا نقرأ كتبًا معينة عدة مرات لأننا نحتاج إلى الأمل أو القوة التي تنبعث منها. ثم بعد ذلك نتابع حياتنا بعد ما شحنتنا هذه القوة الجديدة. وحتى إذا لم نغير وجه أرضنا البائس على الفور، فإننا نتخذ خطوات على مستوى بيئتنا الصغيرة الخاصة، لخلق تواؤم يكون أكثر تسامحا وأكثر إنسانية.
 - جميل، الآن أريد أن أعرف رأيك في الأدب العربي المعاصر؟ وهل تعتقدين مثلا أن قصص «ألف ليلة وليلة» ساهمت بقوة في إثراء فنيات الحكي المعاصر؟
 * مع شديد الأسف ، لا يمكنني التعليق على الأدب العربي المعاصر، لأن لدي معرفة محدودة بشأنه. لكن القصص الخيالية العربية كانت معي منذ نعومة أظفاري. شهرزاد ، وسحر ألف ليلة وليلة ، التي لا تفلت من الموت إلا بخيالها الواسع المجنح ، لم تتركني وحدي وسكنتني. هذه الراوية الحسناء، الواثقة من نفسها ، التي تتوالد قصصها الخيالية الجديدة باستمرار ، لم تشد وتخلب لب الملك فحسب، ولكن أنا أيضا استمددت من روحها أنفاسي ونسجت على منوالها قصصي وإبداعي .
 - لكن هناك مفارقة يجب تفسيرها وهي أن الفلسفة الألمانية التي نشأت على دروسها تعتبر ذات نزعة مثالية، بينما فلسفتك أنت واقعية جدا  كيف تفسرين ذلك؟
 * بالنسبة لي ، الفلسفة ككل هي عقيدة الحياة الصحيحة. وهذا هو السبب في أن كتب حياتي الفلسفية - التي أفكر ضمنها في الحياة اليومية بعبارات ملموسة - هي نوع من أنواع الفسيفساء المشكلة من القصص والأفكار واللقطات الروحية والنصائح الملموسة. لا أطروحات علمية جافة ، إذن ، الفلسفة بالأحرى هي مجموعة قطع ملونة تعطي مساحة للخيال وتلهم العقل. أحب المقارنة بين كتبي وبين ركوب القطار، حيث يمكنك تجسيد قصصي بسهولة، تماما مثل مشهد يتجلى من نافذة قطار متحرك. وبعد الانتهاء من القراءة ، من الأفضل أن تغلق عينيك لتكون منسجما كلية مع ذاتك.

الرجوع إلى الأعلى