يتفاعل الفنان التشكيلي عبد الحليم كبيش بتلقائية بسرعة وبإحساس مميز وفريد مع الأحداث التي تهز  هذا العالم من حين لآخر كما يتفاعل تماما مع الألوان..فهو له طريقته الخاصة في مداعبة الريشة و اللون.. يمارس نوعا من الضغط والسحر على الألوان كي تخرج لنا في الأخير لوحات مميزة .  مؤخرا وبعد الانفجار الذي هز مرفأ بيروت، قضى عبد الحليم أكثر من يوم وليلة دون توقف يمارس طقوسه على الريشة كي يخرج في الأخير لوحة، أو "مشهدا" متكاملا ورائعا يؤرخ لهذا الوجع تحت عنوان" شظايا بيروت"..هذه اللوحة أو المشهد.. كان العمل الفني الأول الذي أرخ للانفجار.. لقي تفاعلا واسعا من قبل عموم الناس هنا في الجزائر وفي الخارج، ولكن بصورة أقوى أيضا في لبنان.. حيث تبناه فنانون ومثقفون وإعلاميون في هذا البلد الشقيق بحب كبير و بشكل غير مسبوق.

أجرى الحوار: إلياس بوملطة
النصر: أثارت اللوحة التي رسمتها قبل أيام قليلة عن انفجار بيروت والتي عنونتها بـ» شظايا بيروت» تفاعلا واسعا على شبكات التواصل الاجتماعي وفي وسائل الإعلام، هنا داخل الوطن وفي الخارج، كيف تقرأ هذا التفاعل؟.
 الفنان عبد الحليم كبيش: هذا التفاعل أرجعه إلى توقيت خروج هذه اللوحة، و التوقيت هنا مهم جدا لأن اللوحة كانت من أولى الأعمال الفنية التي حكت عن ذلك الوجع» انفجار مرفأ بيروت» إضافة إلى أنّ الكثير من المتلقين شاهدوا الصورة، لكنها لم تكن في الحقيقة لوحة، بل كان مشهدا، أنا قمت بإنزال مشهد من مشاهد « الأداء الفني» كما نسميه في دائرة الفنون،  وميزة هذا النوع من التعبير أنه يوظف المكان و اللوحة، والزمن والفنان.
 وبهذا يصبح الفنان جزءا من المشهد، فأنا وظفت المكان الذي هو الورشة، و وظفت اللوحة في حد ذاتها، فمن الممكن لو أنزلت اللوحة لوحدها ما كانت لتلقى كل هذا التفاعل والرواج، لكن أنا هنا أنزلت  صورة لمشهد وهذا هو الفرق.
 وربما يرى الكثيرون أو يركزون هنا على اللوحة، لا  هذه صورة لمشهد، بمعنى قمت بما يمكن وصفه «فيلم قصير»  فيه دقائق مشهد كامل البداية أكون بصدد الرسم ثم لما انتهي من اللوحة اسمع ذلك الانفجار فأضفت أشياء أخرى مثل الدماء وغيرها، و قد لجأت إلى ما يسمى «الأداء الفني» لما له من قوة كبيرة على إيصال الفكرة،  لأن العالم الآن أصبح لا يتأثر بالمنجز الفني التشكيلي- يعني اللوحة فقط- فقد أصبح الفنان المعاصر جزءا من عمله لأن هذا النوع من الفن- ما يسمى «بالأداء الفني» تيار فني معاصر ظهر في خمسينيات القرن التاسع عشر والآن له مكانة كبيرة في الأحداث الفنية لدى الفنان التشكيلي، فيعمد إلى التعبير به باستعمال جسده واستعمال الورشة  واللوحة الفنية كي يوصل الفكرة للمتلقي.
 فهذا العمل كله الذي يجمع بين، المسرح والفن التشكيلي و الكوريغرافيا والجسد، جمعتها  مع بعض للتعبير عن هذا الفكرة لذلك جاءت بهذه القوة لأنه هذا النوع  من العمل غير موجود في الأوطان العربية بكثرة فهو معروف- أكيد - عند الغرب، لكن الفنان العربي لم يصل بعد إلى هذا المستوى، فهو لا يعرف هذا النوع من الفن.
لذلك هو غائب في الساحات الفنية ومحتشم جدا، وأنا وظفت هذا النوع من الفن وأخذت صورة من كل هذا الشريط الصغير الذي صنعته و أنزلتها لذلك كان هذا الصدى.
+ - هذا يقودنا إلى طرح سؤال حول دور الفن التشكيلي في الحياة عموما وفي أوقات الأزمات خاصة،  ودوره في نشر الوعي الإنساني؟
*- نعم.. الإنسان البدائي كان يرسم والإنسان المعاصر ما زال يرسم، الرسم هو أقدم نشاط  عند الإنسان.. عرفنا الحضارات من خلال الرسم، عرفنا ما حدث خلال قرون، و عرفنا المحطات الإنسانية من خلال الرسم، لأن الإنسان البدائي لم يخبرنا ماذا كان يأكل، وكيف كان يزرع؟ لكن عرفنا ذلك من خلال الفنون والآثار التي تركها، صحيح أن الفن في ذلك الوقت كان له مذهب أو بعد روحي لكن بالنسبة لنا هو رسم.
 فمن خلال ذلك الرسم عرفنا كيف كان يفكر وكيف كانت الحضارة موجودة؟ فمثلا الحضارة المصرية عرفناها بالرسم، و الحضارة السومرية وكل الحضارات عبر التاريخ حتى في الطاسيلي، فقد اكتشفوا مؤخرا أن في صحراء الجزائر توجد أقدم الآثار  في « سيفار» تلك المدينة الأثرية التي اكتشفت في تمنراست.
 و حسب بعض الدراسات فهي كانت موجودة قبل آدم، لأن علماء الآثار يعتمدون اليوم على تكنولوجيا متطورة، لذلك وجدوا أن تلك الرسومات كانت موجودة منذ ظهور الإنسان.
 واليوم أكيد أن الإنسان تطور ولم يبق غرضه من الفن التشكيلي مثلما كان عند الإنسان البدائي سحري، فأصبح الفن لغة و نوع من التحدث إلى الآخر.. الشاعر يقول لا بالكلمات وأنا أقول لا كذلك، لكن باللون، والصحفي ينقل الخبر عبر الصورة وهكذا.
بالنسبة إلي الفن يعري ويكشف المفضوح، يعري المجتمع وينتقده من أجل التطور والانتقال إلى مستوى أعلى، لذلك اعتقد أن الفن له دور حضاري كبير، و هو قاعدة فعالة من أجل اتصال فكرة معينة من عند الفنان إلى الخارج..إلى المجتمع.
+- لكن هل مجتمعاتنا تنظر للفن التشكيلي بهذه النظرة وتعطيه مكانته اللائقة والحقيقية أم أنه لا يزال يصنف في خانة الترف والترفيه؟
*- لو كان سيصنف في خانة الترفيه لكان هذا أحسن هو لا يصنف أصلا وغير موجود أصلا، وأنا هنا لما أتكلم عن الفن التشكيلي اقصد بذلك الفن الحامل» ولا أحكي عن الخط العربي الذي هو قديم جدا في الحضارة العربية الإسلامية، ولا فن المنمنمات والزخرفة الذي هو قديم جدا ، لكن الفن التشكيلي أو «فن الحامل» هو جديد في الأوطان العربية، وقد جاء مع المستشرقين في نهاية القرن الثامن عشر فعمره حوالي قرن، لذلك يعتبر دخيلا على المجتمعات العربية.
لو نرجع مثلا إلى تاريخ الفن في الأوطان العربية، في سنة 1920 لا يوجد أي فنان جزائري، كانوا كلهم مستشرقين وكلهم جاءوا من أوروبا، في زمن نصر الدين ديني لم يكن عندنا فنانون تشكيليون،  وفي الوطن العربي كان الفن التشكيلي شيئا غربيا، وليس من تقاليد هذه المجتمعات، فلم تكن  هذه المجتمعات  تفقه معنى هذا الشيء، وكانوا يسمونه «الشيء» وليس رسما أو فنا،  لأنه مجهول بالنسبة لهم، ولا يعرفون ولا يستطيعون ترجمة هذا العمل، بغض النظر عن التيارات الفنية أيضا، هناك تيارات لا يلتفتون إليها أبدا، مثل التجريدية أو الدادائية، أو بعض المذاهب والتيارات الجديدة التي ظهرت في الستينيات مثل فن حركة كبرا» ،فهم لا يهتمون بها إطلاقا لأنها بالنسبة لهم شيء مبهم جدا.
 أنا لا ألوم هنا المجتمعات العربية، كون الفن التشكيلي عبارة عن لغة لم نتقنها بعد، لذلك ليست له مكانة عندنا مثل الموسيقى، فلو نأخذ مثلا أي مطرب عربي نجد أن له سمعة ويغني بآلاف الدولارات، ويعيش كل يوم  وله أهمية ومكانة كبيرة، لذلك لما نذكر كلمة فنان معناه مباشرة في المخيال العربي  «مطرب» أو «موسيقار» وليس فنانا تشكيليا، لأن الفن التشكيلي غير موجود بعد في المخيال الاجتماعي، ولو نعود حوالي 80 سنة للوراء لم يكن موجودا إطلاقا، فلذلك المجتمع العربي مازال في البداية بالنسبة للفن التشكيلي مقارنة بالغرب الذي يمارس فيه هذا النوع من الفن منذ قرون.


+- كيف تقيّم واقع الفن التشكيلي في الجزائر من جميع الجوانب ، التدريس، الدعم.. التفاعل، سوق الفن إن وجد، المعارض وغيرها؟
*-  بصراحة مثلما قلت سلفا هو فن جديد سواء بالنسبة للمغرب العربي أو للمشرق، بالنسبة للجزائر هناك بداية، لكنه لم يجد بعد  مكانته الحقيقية والقوية في المجتمع الجزائري فهو يمارس بطريقة محتشمة حتى من طرف  الفنان ذاته، الرسام أو الفنان التشكيلي لما يذهب إلى قرية أو حتى في المدينة عندما يسأل عن مهنته لا يقول أنا فنان تشكيلي، تراه يقول انه يعمل في شركة أو شيء آخر ، ولا يقول أنه فنان تشكيلي مخافة أن يكون محل سخرية أو التقليل من شأنه كإنسان فعال في المجتمع، كأن يقال له أنت ترسم إذن أنت غير موجود وليست لك أهمية.
فالفنان التشكيلي عندنا له وجود محتشم وهو بذرة لم تنبت بعد،  الفنان التشكيلي دخل إلى الجزائر في بداية القرن الماضي، أكيد هناك بعض الفنانين نعتبرهم مرجعية للفن التشكيلي عندنا- فنانو الاستقلال- الموجودين منذ 1962 الذين درسوا في المدرسة العليا للفنون الجميلة والذين نعتبرهم أعمدة هذا الفن عندنا هم في الواقع نتاج المدرسة الغربية  حتى في توجهاتهم الأيديولوجية  أو الفكرية، فلما تدخل المدرسة العليا لفنون الجميلة تحس وكأنك في فرنسا وليس في الجزائر، هم يكونون فنانا أوربيا وليس فنانا جزائري الهوية والخصوصية.
 +- وكيف يمكن برأيك تجاوز هذا الواقع؟
*- هي مسألة وقت لأنه كما يقال الطبيعة تأبى الفراغ، فلما تزرع بدرة في أرض معينة يجب أن تنتظر حتى تنبت، أكيد هناك  جهد من طرف الدولة لأنه فيه مدارس فنية، والجزائر للعلم من أغنى الدول العربية من حيث المدارس التي تدرس الفنون الجميلة، لما نذهب للمشرق لا نجد هذا الكم الهائل  من المدارس، وهناك دعم واهتمام من طرف الدولة بهذا الفن، لكن ما تقوم به الدولة لا يكفي وحده من أجل خلق فن تشكيلي جزائري، يجب آن يحتضن المجتمع هذا «الشيء» الذي يسمى فنا تشكيليا حتى تكون له مكانة.
 ما تقوم به الدولة وحده لا يكفي، فهي قد وضعت برنامجا لتدريس الفنون التشكيلية حتى الدكتوراه  وهناك  مناصب عمل مخصصة للمتخرجين من هذه المدارس، لا يجب  أن ننكر هذا ، لكن المشكل اليوم في المجتمع، هل تعلم في بعض المناطق يعتبر الرسم حرام وعبث،  حتى في المدن الكبيرة التي هي رمز للتحضر غير مقبول بالقدر المطلوب.
فأنا لما أتحدث مع البعض -بحكم تجربتي- يقولون لي أنهم عندما كانوا صغارا كانوا يرغبون في الرسم لكن عائلاتهم منعتهم فضاعت موهبتهم هباء ، فالفن ينظر له على أنه لغة غير مفهومة وبالتالي لا يهتم به.
 ماذا يجب أن نعمل؟ يجب أن ننتظر ، مؤخرا رأينا على مواقع التواصل الاجتماعي في الكثير من المدن جمعيات شبانية تخرج وتبادر بتزيين المدن والجدران  والأحياء ، هذا يؤشر على أن هناك جيلا صاعدا يعطي الأمل لخلق مدرسة جزائرية للفن التشكيلي، ويعطي مفهوما راقيا للفن التشكيلي عكس الآباء والأجيال التي سبقتهم، إذن هي بدرة لا بد أن نعطيها الوقت الكافي كي تنبت حسب دينامية المجتمع وتفاعله، ولا يجب أن نقارن أنفسنا بالغرب، لأنه في الغرب أيضا أخذ الفن التشكيلي وقتا حتى يفرض  وجوده، وما وصل إليه الفن اليوم هناك هو نتيجة عمل لقرون.
+- على مر التاريخ خلد فنانون تشكيليون لحظات ومحطات هامة في تاريخ الشعوب كيف يمكن للفن التشكيلي أن يؤدي رسالة سلام في هذا العالم غير الآمن؟
*- لو نتحدث في هذا الجانب السيكولوجي.. التأثير و جماليات الفن على الذات البشرية، فالفن يهذب الإنسان كما تهذبه الديانات  وتهذبه الفلسفات و يهذبه أفلاطون في مدينته الفاضلة، والفارابي ، الفن  مثل الفلسفات والعلوم  الأخرى مثل الطب، فالفن يهذب الإنسان ويجعله يرتقي وينظر بنظرة أخرى للحياة ومفهومها ، هو يقضي على التعصب، و سبب لتقارب الكثير من الشعوب، لما نشارك في معرض فني عالمي نجد الفنانين من كل بلد ومن كل أنحاء العالم  وعندما نجلس لنحكي نعرف كيف تفكر كل الشعوب، هو يساعد على تقارب الشعوب.
 هنا يجب أن نتعمق كثيرا في هذا الموضوع، لذلك أنا أدعو دائما الفنان إلى أن يتعمق ويدرس الجانب النظري مثل علم الجمال وفلسفة الفن وسوسيولوجية الفن، حتى نكتشف دوره ونمارسه بدراية كافية، فالفن كما قلت يهذب الإنسان ويأخذه إلى مراتب أعلى مثل ما تخليه الكثير من الفلاسفة، مثل الفارابي وأفلاطون وحتى الفلاسفة، وعلماء الجمال المعاصرين أكدوا جميعهم أن الفن التشكيلي له دور كبير جدا، في أمريكا مثلا بعض المستشفيات تعالج المرضى بالألوان، في بعض المصحات العقلية وبما أن المجنون لا يتكلم يتركوه يرسم، ومن خلال الرسومات يعرفون مشاكله النفسية فهو مثل باقي العلوم يجب الاهتمام به.
+-  على ماذا يشتغل الفنان عبد الحليم كبيش الآن.. هل هناك معارض أو نشاطات خاصة ومشاركات في الأفق؟
*-  نحن الآن في زمن كورونا، فهو زمن، الوضع حجزنا وتبخرت  معه الكثير من المشاريع الفنية الشخصية التي كنت قد برمجتها السنة الماضية، فاستغلينا وقت الحجر هذا وأبدعنا لوحات وأعمال أخرى، وإن شاء الله بعد كورونا برمجت عدة معارض فنية شخصية هنا في الجزائر  وفي خارج الجزائر، وهذا دائما بعد نهاية الجائحة طبعا.

الرجوع إلى الأعلى