مضى وقت منذ أن بدأت أزمة فيروس كورونا وأنا أتابع ما يكتبه الآخرون من كتاب وصحفيين ومختصين ومدونين، وأكثر ما طغى فيها من بعضهم خطاب المؤامرة الذي غزى سوق التداول المعرفي، الفكري والتحليلي للظاهرة وتداعياتها بصورة أراها في كثير من الأحيان مبالغا فيها، لحد الاعتقاد أن ما تسطره أقلامهم من أفكار و حكايا هي نسيج مخيلاتهم لا أكثر!

د. سكينة العابد./جامعة قسنطينة 3

وفي أي حال لا مجال للعودة إلى الوراء لسرد أحداث كورونا المتسارعة وآثارها على الصحة العامة وعلى الاقتصاد والسياسة والإعلام وكل ماله علاقة باهتمامات البشر وأدواتهم الحياتية، لأن الأزمة تولدت عنها بروتوكولات وحلول وابتكارات وتدابير سارت من خلالها الدول لمواجهة هذا الانقلاب الكوني المفاجئ، لذلك لن يجدي تفكيك تلك الطقوس التي أضحت في عرف العامة والخاصة هي الخيار الوحيد والأوحد لبلوغ آفاق النجاة من هذا الوباء أو على الأقل التقليل من آثاره.
وعليه؛ فإن ما سيحملنا للكتابة في هذا الموضوع هو استقراء التجليات الكبرى لمن كتبوا بحثا عن الحقيقة، فجاءت بعض الكتابات مسوًقة لحتمية نظرية المؤامرة واعتبارها هي التفسير الأخير والنهائي بما لا يستدعي ردا أو تشكيكا.
والحقيقة، أنه لا تعارض قطعي مع نظرية المؤامرة وثبوتها في منظمات السياسة والاقتصاد والتاريخ والإعلام وغيرهم. لكن فيما يتعلق بأزمة فيروس كورونا لم يثبت لحد الآن ما يريد بعض الكتاب إثباته كلاما وتطويعا لمعطيات تبقى في نطاق التوقعات والتخمينات.
كورونا ونظرية المؤامرة؟
 نظرية المؤامرة ليست كما قد يعتقد البعض نظرية كاملة الأركان والأسس يفكك بها ما استعصى فهمه من أسرار بعض القضايا كمفهوم النظريات السياسية الأخرى، وإنما ورد هذا المصطلح لأول مرة وبشكل صريح عام 1909 في أحد مقالات صحيفة American History Review وتم اعتماد المصطلح مع الزمن في عدة معاجم وقواميس.
وتتجه بعض الآراء إلى أن وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) اخترعت هذا المصطلح سنة 1967 بهدف إقصاء أولئك الذين شككوا في الرواية الرسمية لاغتيال الرئيس الأمريكي الأسبق «جون كينيدي» والقائلة بأن قاتله تصرف بمفرده.
وعليه؛ فكل ذلك يعني أن ولادة هذا المصطلح كانت إعلامية محضة، لكن نحن إزاء ظاهرة على مسرح الكتابات الفكرية، إذ لم يلق مصطلح من الرواج والانتشار ما لقيه مصطلح المؤامرة، والسبب حسب تصوري ليس لكونه جديدا ومغريا بالخوض والاتباع، ولكن أيضا لسهولة توظيفه ومقاربته إزاء الكثير من القضايا و الاشكالات وبعض العلاقات الدولية المبهمة، أو التي يكتنف أدوارها وخبايا سياساتها و ردة فعلها الكثير من الغموض.
إن إعلام الغرب ومفكريه يستخدمون هذا المصطلح تجاه قضايا ما، وبالنسبة لأزمة كورونا هناك تبادل للتهم خصوصا بين الولايات المتحدة والصين بخصوص نشأة الفيروس وانتشاره، لكن مما لاحظته على بعض الكتاب هو استخدام الفكرة أو التهمة بإفراط مقصود أو غير مقصود لحد جعله فزاعة تقرع بها الطبول إزاء أي قضية هنا وهناك، وهذا ما وقع فيه الكثير تجاه أزمة كورونا بترجمتها لمؤامرة، والتأكيد على ذلك دون الاهتمام بتقديم أدلة وبراهين تؤكد هذه الفرضية التي تبقى كذلك في حالة عدم توفر الأدلة والبراهين القطعية، فالتركيز على فرضية أن فيروس كوفيد 19 هو فيروس معدل جينيا ومصنع في مختبر اشتغل عليه باحثون، وبأنه فيروس هجين مركب من فيروس الأيدز والسارس ومجموعة فيروسات من سلسلة كورونا كما ورد في بعض الكتابات ..يستفز لدينا  سؤالا كبيرا ليطرح أولا : هل هذه حقائق أم تخمينات؟ فإذا كان القول بالأولى أي أنها حقائق، فلا دلائل لحد الآن بصحة ما ذكر، وإذا كان الثانية بكونها مجرد تخمينات، فالأفضل الاعتراف وعدم ممارسة سلطة الوصاية والهيمنة الفكرية بتوجيه الرأي العام نحو اتجاه واحد ورأي أحادي، فالمعرفة في تغير مستمر.
يجب على الكاتب أن يراهن على حقيقة مفادها الصدق مع القارئ من خلال الغوص في القضايا وتحليلها بما يتوفر من أحداث وحقائق تخرج من دوائرها الحقيقية وليس من خلال الملفات المشبوهة والعابرة التي تغلق على ذهن القارئ والكاتب على حد سواء، قد تكون المؤامرة أحد تفسيرات أزمة كورونا وتداعياتها، لكن من الواجب وإذا ما قدم الكاتب هذا الرأي ألا يجعل منه النهاية التي لا تحتمل أي تغيير لأن جل الحقائق لا تبدو تماشيا مع سرعة الحدث وإنما في معظمها تتراءى بعد زمن قد يكون طويلا.
بعض الخطابات .. بعض السيناريوهات؟
على الرغم من خطورة الوباء وانتشاره السريع والفتاك، وتهديده للبشرية جمعاء إذا لم يعثر على اللقاح، إلا أن الحديث عن خفايا اللقاح جاء موغلا في المخاوف حد التنبؤ بمعطيات لا تلتقي وعوالم الرقمنة، وكأن هؤلاء يتصورون بعض النماذج والقراءات الرقمية على نحو يفوق التصور.
فقد قرأت لكاتبة تقول: بأن هناك عصابة عالمية تتألف من دول همجية تدعي التحضر والهمجية وعائلات شهيرة تمتلك المال بالمليارات وتتحكم بمصير العالم كله!! مثل عائلات روتشليد وروكفيلر وغيرها، ولا يهمها البشر ولا الأخلاق ولا الأديان ولا الإنسانية سوى امتلاء خزائنها بالذهب والدولارات وصارت تعتقد أنها رب الأرض، وتتحكم بمصير مليارات البشر لخدمة مشروعها الذي يصب في مصلحة الأعور الدجال وتحقيق حلمه بإقامة مملكة الشيطان على الأرض!! والتمهيد للنظام العالمي الجديد القائم على حكومة واحدة إرهابية متطرفة وجيش واحد لا إنساني، ودين واحد شيطاني !
وأنا في ردي على هذا الطرح لا أعلن نفسي عالمة بالمجال أو الغيب، لكن الربط الجازم بين هذا السيناريو وفيروس كورونا، ينم عن اللجوء المفرط للخطاب المؤامراتي والاستسلام التام له، دون التطرق بطرق موضوعية لمختلف وجهات النظر حول الموضوع، والدفع بالمجتمع نحو تكوين وجهة نظر موضوعية تقوم قبل كل شيء على فهم الواقع ومحاولة مجابهة هذه المرحلة الاستثنائية بكل وعي، بل ومحاولة الدفع بمجتمعاتنا لتكون عضوا فاعلا في حركة الأبحاث العالمية حول الفيروس ولقاحه بدل خطاب الترهيب التام الموحد، الذي يدفع به للانكسار وانتظار مصيره المحتوم بين أيدي قوى الشر العالمية التي تمت الإشارة اليها في عدة كتابات على أنها التفسير الوحيد والمصير الوحيد للإنسانية ولا مجال لتغييره.
إن الاعتقاد بتحقيق هذا النموذج راهنا والحديث بلغة الإحباط ونشر الرهاب الإعلامي عن الفيروس وبهذه الصورة، أراه إقرارا بعجز فاضح في التفكير وإلهاء عن التفكير في إيجاد حلول ليس على مستوى هذا الفيروس فقط بل على مستوى كل أزمات البشرية في العالم.
لقاح طبي أم لقاح إلكتروني؟
وانتقل من ذلك لما يخص اللقاح، لنرى أن أساليب الشك لم تبرح العديد من الطروحات، ونحن هنا لسنا ضد الشك كمنهج فكري قاد الفكر البشري نحو العديد من الحلول والحقائق، لكن فحوى الشك هو المقصود، فالقول بأن الفيروس هو مركب أصلا لإضعاف مناعة الناس وتعريضهم للموت المؤكد، لكونه يحوي رقائق إلكترونية سيتم من خلالها التحكم بالإنسان! وتوجيهه كيفما يشاؤون وربما قتله إذا رفض الانصياع لهم! وربما سيدخل هذا اللقاح أيضا في خلايا الجسم ويخلق أمراضا فتاكة ستؤدي بحياة ملايين البشر!!
والسؤال الكبير الثاني؟ من هؤلاء كلهم الذين يمكنهم التحكم في كل البشر وبهذه السهولة؟ وهل ما يقوله ويكتبه البعض هي حقائق ثابتة أم من وحي خيالهم، وكأنهم وقفوا عقارب ساعة المستقبل عند أفكار البعض وطموحاتهم؟
والسؤال الأكبر؟ هل يمكن علميا صناعة واستخدام رقائق إلكترونية تتحكم في عقول البشر الذين يتجاوز عددهم السبع مليارات؟
إن الأطرف من كل هذا أن يتحدث بعضهم عن تبعات المؤامرة الأولى وذلك بالكشف عن خاتمة المؤامرات كلها وهدفها وهو سعي أصحابها للتقليل من عدد سكان الأرض إلى نحو 500 مليون فقط وبالتدريج حتى الوصول إلى هذا الهدف الأسمى ما بين عامي 2030و2050 !!
وأعتقد هنا أن من كتب هذا يبدو أنه متحصن خلف بعض النظريات التي ظهرت هنا وهناك محاولة تفسير وضع العالم على هشاشتها، منها مثلا نظرية «مالتوس» التي تقارب بين عدد السكان الذي حسبه بمتتالية حسابية بينما حسب المحاصيل الزراعية بمتتالية هندسية، وعليه فيجب تقليل عدد السكان ليستطيع المحصول الزراعي تلبية إشباعاته.
إن مثل هذه النظريات والأقاويل الهشة تنذر بعبثية بعض النخب الفكرية وهشاشتها وتخندقها خلف بعض (الهذيانات) دون التأكد من موضوعيتها أو حتى حقيقتها، وإن مهمتها تتمثل في طرح الجديد والمثير وسياسة السبق نحوه وفقط .. وهذه أعدها طامة كبرى إزاء أصحاب بعض الأقلام التي لا تتواني عن ركب موجة النرجسية الفكرية على الرغم من عجزها وقصورها.
 كورونا ولوحة جورجيا: الخطر القادم من الغرب!
أصِل بعد كل هذا إلى الطرح الأخطر ويتجسد في الإشارة إلى ما يسمى بلوحة جورجيا التي تبنته إحدى الكاتبات في تحليلها لخفايا أزمة كورونا والتي -حسبها – أن هذا اللوح يشير إلى خطة تحدد علاقة البشر ببعضهم البعض، ثم علاقتهم بالأرض.
وبالرجوع إلى النص المسجل على هذا اللوحة في مدينة جورجيا الأمريكية نجد أنه يحوي العديد من الوصايا مكتوبة بثماني لغات منها العربية، يبدو أنها عبارة عن وصايا تتحدث عن تحولات هائلة لا يعلم كاتبها على الرغم من ذكر اسمه روبرت كريستيان؟ ولا يعلم سبب وضعها في ذلك المكان.
وأول وصية تثير الانتباه قوله: ابقوا على أفراد الجنس البشري لأقل من 500 مليون نسمة في توازن دائم مع الطبيعة. ويبدو أن إحدى الكاتبات قد وجدت ضالتها في هذه المقولة بالذات لتفسير أزمة الوباء وتداعياته على البشرية، وبأن تحقق إحدى هذه الوصايا قد بدأ في الظهور!
لكن ومن خلال الاطلاع على باقي الوصايا لا نجدها تخرج من دوائر الدعوات الإنسانية الداعية للعناصر الإنسانية التالية: السلام والمحافظة على الأرض والبيئة والطبيعة، وهذا ما يدفعنا للتوقف عن مسايرة هذا الطرح المولد لمخاوف تزيد من أربكة المشهد الوبائي.
ونصل بعد هذا كله للقول: إن القراءة السطحية أو الافتراضية أو التأويلية هي قراءة اصطفائية قد تتمركز عند نقطة واحدة هي نقطة المنتصف دون الانتباه أو فهم أو تفسير ما يحيط بها من نقاط قد لا تبدو ظاهرة لكنها تفتح آفاق معلومات علمية أو معرفية جديدة.
إن فهم مستقبل الانسان أو حتى ما بعد الانسان عبر احتمالية أن تتغير الطبيعة البشرية مع تطور التقنية الحيوية، لا يمكن توظيفه لأجل تعليب أزمة كورونا واعتبارها المأزق الأخير، أو الصراع الأخير حتى لا نغرق في الوهم أكثر.
 وختام القول: من الواجب على أي كاتب أن يتحلى بروح الموضوعية، وأن يتعامل مع الأحداث بروح المتدبر قراءة وتشخيصا وتحليلا عبر طرح عدة أطروحات وليس اعتماد طرح واحد يحاول من خلاله توجيه الرأي العام، وترك المجال مفتوحا أمام رؤى أخرى، فالمجتمع من طبيعته أنه منقاد إعلاميا، والكاتب هنا لا يجب أن يتصرف أو يكتب بصفة الوكالة المطلقة، لأنه يبقى صاحب رؤية مفتوحة على كل التحولات والاحتمالات.

الرجوع إلى الأعلى