الفلسفة التي كثيراً ما اُتهمت بأنّها غائبة، وكثيرا ما يرمي أهلها التهمة بعيداً عن ملعبها وأرضها بطريقة عكسية. أي أنّها مُغيبة وليست غائبة. عادت بقوّة إلى واجهة الاِنشغالات الفكرية، والأطروحات الثقافية والعلمية والإشكالات والاِستشكالات المحورية. وهذا لأنّ السؤال عن دورها وأهميتها في زمن الوباء ومدى الحاجة إليها قد عاد وظهر وتجدّد خلال الظرف الوبائي الّذي اِكتسح كلّ العالم. فهل يعني هذا أنّ حاجة الإنسان والمجتمعات إلى الفلسفة تعد أكثر من ضرورة. وأنّها لا يمكن أن تكون/أو أن تظل بمعزلٍ عنه (الإنسان) وعن الواقع والمجتمع والحياة. حول هذا الشأن «الفلسفة والأوبئة»، كان ملف «كراس الثقافة» لهذا العدد مع مجموعة من الدكاترة والباحثين الأكاديميين المختصين والمشتغلين في حقل الفلسفة، من مختلف جامعات الوطن.

استطلاع/ نــوّارة لحــرش

- سمير بلكفيف/كاتب وباحث في الفلسفة -جامعة خنشلة: الفلسفة ورشة أخلاقية للمصير الإنساني


في عبارة رشيقة للفيلسوف «كانط» حول ملازمة الميتافيزيقا للمصير البشري بصورة جذرية وأخلاقية، كتب: «إنّ اِستنشاق هواء فاسدا لا يمنعنا البتة من عدم مواصلة الاِستنشاق»، ورغم أنّه أنهى فلسفته بسؤال مستحيل الإجابة وفق الصيغة الاِستفهامية التالية: ما الإنسان؟ دون أمل في ضبطه بصورة مُتعالية، فقد ترك إمكانية رصد المفهوم في محاولة أخيرة في «الأنثربولوجيا من وجهة نظر براغماتية»، أي أنّه فتح أعيننا على إمكانية تلقّف معنى الإنسان من هامش التجربة العملية للبشر، قرنين بعد كانط، وفي سنة (2002(، صدر كتابان جديدان يهمّان مجال أخلاقيات البيولوجيا، الكِتاب الأوّل للمفكر الأمريكي: «فوكو ياما»، بعنوان: «نهاية الإنسان، عواقب الثورة البيوتكنولوجية»، أمّا الكِتاب الثاني للفيلسوف الألماني المعاصر: «هابرماس»، وعنوانه: «مستقبل الطبيعة البشرية»، يلتقي الكتابان في الخطوط العريضة في إثارة الاِنتباه إلى أخطار محتملة مقبلة وممكنة يمكن أن تجلبها معطيات التقدم العلمي الهائل الّذي تشهده حاليًا ميادين العلوم الطبية وعلوم الحياة، كما يحذّران من اِنبعاث نزعة تحديد النسل البشري في شكل يبدو هذه المرّة جديداً ومتميزاً، لأنّه أوّلاً يحمل سمات وتوجهات الليبرالية المُعاصرة أو فيما أسماه الفيلسوف الفرنسي «سياسة الحقيقة» أو فن اِبتكار الحقيقة سياسيًا، حيث يلتقي الطب بالسلطة مُشكلاً البيو-سياسي، وثانيًا فيما نبّهنا إليه «هيدغر» من «أنّ العِلم لا يفكر»، وأنّه الأفق الأخير للميتافيزيقا، ويتجلى ذلك في طموحات العُلماء التي تبدو وكأنّها لا حدّ لها، والتي تفضي إلى إحداث تغييرات فعلية في طبيعة الإنسان، لذلك لا يبدو أنّ مهمة الفلسفة عمومًا والأخلاق خصوصًا محصورة في اِبتكار نظرية أو في ضبط قواعد وآداب حياة سعيدة فقط، بل ستكون مهمة مُضاعفة مُقارنة بحجم المشكلات وأزمات العصر الراهن، وما تعلق منها بمشكلات العِلم والحرية والسلام العالمي، والحروب، واستشراف المستقبل المرغوب فيه، إنّ تلك الأسئلة تطرح نفسها اليوم كتعبير صادق لأوجه مُتعدّدة لخيبات أمل مُتكررة للمجتمع البشري.
لم تعد إذن المسألة الراهنة للأخلاق تتعلق فقط بفن الموافقة بين سلوك الفرد وسلوكات الآخرين فحسب بصورة نمطية، وإنّما كيف لسلوك الفرد ألّا يُسبب ضرراً للآخرين ولأجسادهم تحديداً، لقد أظهر «وباء كورونا» -مثلاً- ومعه الحجر الصحي أنّ العالم مجرّد مشفى موّحد، يمكن لأي مريض مقيم فيه أن ينقل العدوى من جناح إلى آخر، ومع الوباء لم يعد الجسد مجرّد موضوع، بل بالأساس كوجيطو، وموضوع تفكير في آن واحد، وأنّه ليس مستهدفاً ميتافيزيقيًا فقط كآخر موجود يمكن إثباته ديكارتيًا، لكنّه في المقابل هو الأوّل أنطولوجيًا في مراتب الوجود، وفي الخطوط الهجومية الأولى للعدوى والموت، بل أنّ الجسد هو أداة قياس حقيقية لعوالم أنطولوجية مجهولة لكنّها موجودة، عوالم فيروسية حقيقية، إذ تصبح أرقام حالات الشفاء والتعافي هي في الأصل أجساد تمنح الأمل في البقاء، وأنّ تغيير الجسد أو قتله أو تهديده يضعنا على صفيح ساخن مع مصير البشرية فينا نحن، ويُلقي علينا مسؤولية جماعية لا حدّ لها. إنّ جسد «غريغور» مثلاً -بطل رواية «المسخ»، -لكاتبها «كافكا»- منذ اِستيقاظه وجد نفسه فجأةً قد تحوّل إلى حشرة، إذ أصبح عليه أن يبدأ بتعلم عادات جديدة وأن يتخلص من عادات قديمة، كالنهوض والجلوس، والاِستدارة، وفتح الباب، واللحاق بالحافلة...إلخ. لأنّ جسمه لم يعد بشريًا كما كان، لكن ليست المشكلة في الاِنتقال من عادات قديمة إلى عادات جديدة، بل هناك ما هو أعمق أنطولوجيًا، لذلك كانت فجيعة «غريغور» الوجودية هي تصدّع الغلاف البشري عن طبيعته الحيوانية. إنّ جوّانية الحيوان فينا تغلفها برّانية الإنسان فينا أيضًا، والفلسفة وحدها هي من يزيد من سُمك الغلاف الإنساني والبشري فينا، لأنّ صراع الإنسان الأخلاقي هو في الحقيقة ليس مع الوجود والموجودات، بل مع جسده باِعتباره معطى طبيعي وقد تداخل مع تمثلات ثقافية مُكتسبة. ومن ثمّة فإنّ تاريخ الجسد هو تاريخ تدريب أخلاقي على تحمل الآلام، في ورشات فلسفية مُتعاقبة ومدونات دينية تاريخية مُتلاحقة، لكن مع الحجر الصحي أيضًا، يُصبح كلّ فرد فيلسوفًا لجسده، لأنّه يجد نفسه مُنخرطاً في كونية أخلاقية مُتناغمة مع غريزة البقاء التي تلتقي من كلّ جسد آخر، وفي المنازل، تُصبح فكرة العبور الميتافيزيقية هي مجرّد عبور زماني لِمَا بعد الألم (الوباء).
إنّ آلام البشرية قد ثبت أحقيتها في البقاء، ولو بكيفيات مُتباينة وبدرجات مُختلفة، حسب كلّ عصر: حروب، أوبئة، مجاعات...إلخ، لذلك يبقى دومًا الهاجس الأخلاقي أحد الاِهتمامات الأكثر اِستشكالاً بالنسبة للفلسفة، وهو مُبرر اِستمراريتها أيضًا، بل إنّ إشكالية العصر الراهن أخلاقية بالأساس، وأنّ سؤال العصر هو سؤال المشروعية الّذي يتغذى من التوتر الحاصل في أزمة القيم، وما تعلق منها بالرغبة في اِستعادة طعم الحياة، ومدى أساس الحياة الجيدة أو الحياة الجديرة بالسعادة، وإجراء مراجعة شاملة لمعايير الأخلاق بالمعنى الحديث، والرغبة في إعطاء مشروعية للأفعال، وتبادل للقواعد الأخلاقية بآلية توافقية، إذ أصبحت الأخلاق تخرج من دائرة الفرد ومن مسؤولية الضمير والواجب الأخلاقي، نحو أفقها الاِجتماعي والقانوني والسياسي والبيئي والكوني والمستقبلي، كلّ هذا يُثب أنّ الفلسفة عبارة عن ورشة أخلاقية تاريخية مهمة للمصير البشري، وأنّها أداة إنسانية نبيلة للنوع البشري، وليست مجرّد عقيدة أو نسق أو نظرية أو أيديولوجيا مغلقة على ذاتها.

- رشيد دحدوح/رئيس قسم الفلسفة -جامعة قسنطينة2 : التفكيرُ الفلسفي في الوباء لن يكون إلاّ بعد زواله


تاريخيًا، ليست الأوبئة وحدها من أفزعت البشرية وأقضت مضاجعها، حيث كان الثالوث المُرعب: (الوباء والجوع والحروب)، مسؤولاً عن اِنهيار حضارات وزوالها بالكامل، سواء اِلتقت هذه المصائب مجتمعةً أو جاءت منفردةً واجتاحت جماعةً بشرية ما. حقيقةً، لا يمكن أن نعرف على مستوى التصورات والمفاهيم ما يحدث للأفراد والجماعات البشرية بالضبط خلال هذه الحوادث المُؤلمة والمُفزعة، لأنّ التصورات والتصويرات والنماذج المُجرّدة مهما كانت دقتها الوصفية والتعبيرية أو السردية حتّى لن ترقَ أبداً إلى مستوى تصوير المعاش اليوميّ النفسيّ والاِجتماعي لمريض موبوء أو مجموعة أفراد جيّاع أو جنود ومدنيين في مواجهة وابل الموت يأتيهم من كلّ جانب في حربٍ ما. فالمعاش Vécu تعجز جميع الأدوات المعرفية التي اِبتكرها الإنسان، العلمية منها وغير العلمية عن تصويره كما هو. ولهذا، لا يمكن للتفكير الفلسفي والأنثربولوجي والإنساني أن يفكر في هذه الأزمات الحادة مثل الوباء الّذي نحياه اليومCovid-19 إلاّ بعد اِنقضاء الحادث وابتعاده عنا كي يصبح بالإمكان موضعته وبالتالي تأمّله ودراسته. فالفيلسوف أو غيره من العلماء لحظة حدوث الوباء هو فرد من أفراد المجتمع مجندٌ مثل غيره من أجل تجاوز المحنة. ثمّ، من النواحي الأنثربولوجية والفلسفية يمكن التفكير في الوباء بغرض فهم منطقه الداخلي والخارجي من خلال أزمنة أو دوائر ثلاث: الدائرة الفردية، والدائرة الاِجتماعية، ثمّ الدائرة التاريخية. فمن الناحية الفردية، تبقى السياقات السيكولوجية التي تتحكم في الاِستجابات المتنوعة لدى الأفراد خلال حدوث الوباء غير معروفة. فالسلوك المُكتسب يفقد معناه ويتلاشى مُفسحًا المجال أمام سلوكات طبيعية بدائية تفتقر للمعقولية وميزتها: الفزع والهلع والقنوط والقلق والاِرتباك، وغيرها من مظاهر اللاتكيف. وتُعبر هذه الحالات الطبيعية عن خوف الفرد من المجهول، وتحديداً من الموت الّذي هو قاب قوسين، ومن ثمّة نكون أمام قلق وجودي يمثل في حقيقته العُمق الحميمي لكلّ تفلسف، إن لم يكن هو مصدر كلّ إرادة معرفية بالكامل. فليس بالغريب إذاً، أـن تكون الأنطولوجيا لدى اليونان هي «الفلسفة الأولى» لأنّ ساكنة أثينا خلال القرن5و4/ق،م. كانوا تحت وطأة الأوبئة والحروب والمجاعات، لا يعرفون إن كانوا سيعيشون للأسبوع المُقبل أم سيقضون قبل ذلك.
كما يمكن من خلال الدائرة الاِجتماعية للتفكير في الجائحة، دراسة اِستجابة المجتمع ككلّ للوباء: من الناحية التنظيمية والإجرائية وفعّاليّات الاِستراتيجيات الوقائية والعلاجية التي تمّ اِعتمادها، والتي في مجملها مبنية على مبدأ أساسي سياسي وأخلاقي هو مبدأ الحيطة أو الحذرP- incipe p- ecaution. ولذلك، ولأنّنا أمام وباء مجهول لا نعرف مساراته ولا نتوقع المنطق الّذي يُحرك دورات حياته الدقيقة، اِتخذت جميع أُمم العالم إجراءات وقائية وتبنت اِستراتيجيات ليست بالضرورة فعّالة ولا في نفس المستوى، وقد تكون في بعض الأحيان غير مجدية بالكامل، لكنّها تبقى مستجيبة لمبدأ الحيطة أو الحذر الّذي لا ينصُ على عدم المجازفة في ضوء النقص الفادح في المعطيات والمعلومات الدقيقة عن الفيروس. كما تبقى هذه التجارب الحياتية للمجتمعات راسخة في وجدانها الشعبي والتراثي ومن ثمّة تُضاف إلى التراكم المعرفي، والخبرات التي يستدعيها المجتمع وقت الحاجة لمواجهة ما هو قادم.
وأخيراً، تبقى الدائرة التاريخية، وهي لوحدها تمثل معضلةً عويصة خصوصًا لدينا نحن المجتمعات الناشئة، لأنّ لا أحد إلى غاية اليوم يعرف لماذا الوباء اِختار هذا التوقيت دون غيره كي يحل علينا غير مرحب به؟ ثمّ الأمر الأشد إحباطًا وزعزعةً للثقة في قيم الإنسان الحداثي المُعاصر: كيف لم تتمكن هذه المجتمعات الحداثية المُسلحة بخلاصة المعارف البشرية الأكثر دقةً وبحوزتها وسائل ذات فعّاليّة غير قابلة للنقاش مثل: الرقمنة والنمذجة والذكاء الاِصطناعي وغير ذلك من التكنولوجيات الميكانيكية والحيوية وغيرها، كيف لم تتمكن من اِستشراف ما هو قادم أي الوباء؟ ولذلك، سوف يكون لِعِلم الاِستشراف P- ospection مُستقبلاً المكانة الطلائعية في تراتبية العلوم والمعارف والخبرات البشرية.

- جميلة حنيفي/أستاذة وباحثة ومترجمة -قسم الفلسفة، جامعة الجزائر2 : الفلسفة لم تبتعد يومًا عن الإنسان


قد يتساءل البعض، عن جدوى الفلسفة إزاء وباء بحجم كورونا؟ قد ييأس البعض من دور معين تُسهم به الفلسفة في خضم هذا التيه والكرب الصحي الّذي عمّ الكرة الأرضية بأسرها. لهذا وذاك نقول إنّ الفلسفة لم تنأ يومًا عن الإنسان، بل هي حاضرة في صُلب حياته وهمّه ويومه بمعضلاته وشجونه. إنّ الفلسفة ليست سوى إعمال ملكة النقد ورجّ الذهن والغور بالسؤال إلى أبعد مداه، ولهذا فإنّ إسهامها أمرٌ مُثبت، بل مطلوبٌ وملحٌ. بالفعل إنّ تطويع كورونا للتناول الفلسفي ليس بالأمر السهل، ولكن في الفلسفة يتجسد السهل الممتنع. فبوصفها تمثل فعلَ التحدّي الفكري؛ عوّدتنا الفلسفة على إثارة السؤال المُربك، والأقلمة الفكرية بتنوع دلالاتها ومدلولاتها مع ما هو مُستجد وطارئ.
بمجرّد أن بدأ الوباء يتفاقم ومداه يتسع في أوروبا سارع فلاسفتها، إلى تدوين ملحوظاتهم وتخصيبها بالتأمّل والشكّ والنقد والتحليل، وذلك بربط الظاهر المكشوف بِمَا هو مخفي ومُستبطن وباستنطاق المسكوت عنه وإبرازه للعلن. فكورونا من زاوية فلسفية ليست مجرّد مرض يحتاج إلى وقاية ولقاح، بل هي ظاهرة ذات أبعاد بيولوجية-سياسية، وأبعاد بيولوجية-أخلاقية، وأبعاد بيولوجية-اِقتصادية، وحتّى أبعاد وجودية أيضًا.
اِعتبر الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين الحجر الصحي قيداً خطيراً على حق الحرية، وتحديًا صارخًا من قِبل السلطات على المسّ بهذا الحق المشروع. أمّا الفيلسوف الفرنسي ألان باديو، فقد اِختار عدم التسرع في إصدار الأحكام، وبدلاً من ذلك مُعالجة الأمر برويّة وحذر. فبِغض النظر عن كون كورونا يُمثل، بالنسبة إليه، ما يُسمى بالتحدي الفعلي من حيث إنّه يلغي «النشاط الجوهري للعقل»، ويجبر الأفراد على الاِحتماء بسلوكيات العقل المُغيّب، إلاّ أنّ الإشكال أعقد من ذلك بكثير. إنّه يتعلق بالمصالح البورجوازية التي يُراد لها أن تسود على حساب المصلحة العامة، وحقوق الفئات الفقيرة والمعدومة في ظل الليبرالية الجديدة. ويحتم الظرف الراهن على الدولة، في نظر باديو، «إدارة الوضع من خلال دمج مصلحة الطبقة التي تعد الحكومة ممثلها الرسمي مع مصالح عامة أكثر»، وذلك لأنّ وباء كورونا يُعتبر «عدواً» مُشتركًا؛ فعلى حد قول الفيلسوفة الأمريكية جوديث بوتلر: «إنّ الفيروس لا يُمارس العنصرية». إنّه بالفعل يُعامل البشر على قدم المساواة؛ فلا فرق بين غني وفقير أو بين شمال وجنوب، فالكل معرضٌ للإصابة بالمرض وربّما للموت. لكن على الرغم من ذلك، وحسب بوتلر أيضًا، فإنّ الرأسمالية تُعزّز دومًا وبلا هوادة قوتها ونفوذها بِمَا يُناسب مصالحها الاستراتيجية؛ والدليل على ذلك هو حرص الرئيس الأمريكي دونالد ترامب T- ump على شراء الحقوق الأمريكية الحصرية للقاح من شركة ألمانية. لقد أكد هذا التصرف مقولة “أنا ومن بعدي الطوفان”؛ كما أكد أنّ الإنسان كله جورٌ، وأنّ ماضي المُمارسات العنصرية ما يزال حيًّا لم يمت. إنّ الأجدر في هذا الوضع الوبائي الاِستثنائي هو التنسيق والتعاون العالمي لصالح بقاء الجميع، كما ذهب إلى ذلك الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك.
إضافةً إلى ما سبق، يطرح وباء كورونا قضايا مُعقدة في مجال البحث البيو إتيقي؛ على سبيل المثال أيّهما أجدى وأصلح الحجر الصحي أو مناعة القطيع؟ كيف يجدر بالطبيب أن يتعامل مع مريض كورونا؟ هل هناك من مُتسبب يقع عليه اللوم في ظهور المرض وانتشاره؟ وبطبيعة الحال تتفاوت النظريات الكُبرى (النفعية، الواجباتية لكانط، ونظرية الفضيلة لأرسطو) في التعامل مع هكذا وباء وغيره من المعضلات البيواتيقية.
مُجمل القول إنّنا نتعلم الكثير من وباء كورونا؛ نتعلمُ قيمة “المُعْتَادِ” وانسيابه الطبيعي واليوميّ، في أشغالنا وأفعالنا وتصرفاتنا واهتماماتنا. إنّه يُكسر اِنسيابية المُعتاد ويفرض علينا سجن “الاِنتظار” اليومي.

- بشير خليفي/أستاذ التعليم العالي، قسم الفلسفة، كلية العلوم الإنسانية والاِجتماعية -جامعة معسكر: دورها مُرتبط بالحث على الإيجابية في زمن الذعر


تَتحدّد علاقة الفلسفة بالوباء من خلال العلاقات المُمكنة بين العقل والمرض، أو بالأحرى بين مَنظومة التفكير ذات التوجه النقدي على مُستوى الموضوع والمُنهج، وبين ما يُفرزه الوباء بوصفه اِنتشاراً سريعًا ومُفاجئًا لمرض مُعدٍ وقاتل. والواقع، أنّه لم يكن لأحد أن يتصور أنّ فيروسًا صغيراً لا يُرى بالعين المجردة، سيكون سببًا لإبادة الآلاف من البشر، إضافةً إلى خلخلة العلاقات الاِجتماعية، وإنهاك اِقتصاديات الأفراد والدول. نقول هذا الكلام، أخذاً بعين الاِعتبار التطور الرهيب الّذي شهده العِلم، الأمر الّذي أفضى إلى اِعتقاد مفاده أنّ التقدم المُذهل الحاصل في المنظومات العلمية، بِمَا في ذلك المنظومة الطبية لن يُمكِّن أي وباء من البروز أو الاِستدامة، وهي الفكرة التي تجذرت فلسفيًّا مع تصور الفيلسوف الفرنسي روني ديكارت (1596-1650) - ené Desca- tes، مُؤسس العقلانية الحديثة، الّذي أقر بأنّ الزمن الفعلي الّذي نحياه هو زمن العقل وسيادة الإنسان، من منظور أنّ العِلم قد جعلنا أسياداً للطبيعة ومالكين لها، وكذا بِحُكم اِعتباره الوسيلة الوحيدة والمُثلى لمواجهة الجهل والفقر والمرض.
وأمام هذا الذعر، الهلع، الفزع والرعب الحاصل مع اِنتشار الوباء، والّذي أفضى إلى تغيير قيم عديدة، أدت إلى نشوء فلسفات جديدة، كانت نتيجة الاِنعطاف الّذي أحدثه الوباء في التفكير والعلاقات، عبر مُراجعات فكرية أفضت إلى تهاوي كثير من اليقينيّات.
أمام هذا الواقع، يبرز الدور المفصلي للفلسفة ولمختلف صنوف المعرفة والتفكير الجادة خارج إطار الجدل والإدعاء. الفلسفة هنا بوصفها لحظة إنسانية هادئة وهادفة، يستجلب من خلالها الإنسان مُقومات التفكير السديد خارج إكراهات الفزع. إنّها لحظة سَكينة يشحذ في ضوئها الإنسان مَلكاته في التفكير والنقد، ليفكر في طُرق حضارية تُفضي إلى تعامل إيجابي مع الوباء.
لقد عُد الوباء تجربة وجودية حقيقية، أفضت لوضع مُختلف المُكتسبات على المحك، مِحك النازلة ومُقتضياتها، ليتم التفكير أو بالأحرى إعادة التفكير في الأسئلة قديمها وجديدها وفق رؤى مُتجددة، تلك الأسئلة المتعلقة بالحرية، الصداقة، الموت، الثروة ومُستقبل الإنسان... الأمر الّذي أفضى إلى إزاحة كثير من اليقينيات، لصالح نِسبية ترى الوجود وفق أُفق الاِنتظار المفتوح على كلّ الاِحتمالات.
والواقع، أنّ العلاقة بين الفلسفة والوباء ليست مُحددة في قاعدة نهائية مؤبدة، بقدر اِعتبارها إحالة للمُمكن والمُحتمل، آخذا بعين الاِعتبار طبيعة السياق الفردي والاِجتماعي، وكذا الرُؤى التي يُعلن عنها الفلاسفة، من خلال طرائق تفكيرهم وحمولاتهم المعرفية، عبر مُساءلة الواقع الجديد، وكذا من خلال اِستدعاء مجالات معرفية يكون لها الحضور الأبرز على غرار فلسفة البيوإطيقا، وبشكلٍ عام الأنطولوجيا وما تستدعيه من قيم في إطار فلسفة العيش الإيجابي.
وعلى الرغم من أنّ الفلسفة في هذا المقام لا تُقدم حلولاً سحرية لمواجهة الوباء، كما ليس من وظيفة الفلاسفة إيجاد علاج طبي، لكنّها بالمقابل تُمهد للعلاج المأمول الّذي يُعتبر نتاجًا لتطور التفكير الفلسفي على رأي جان أولمو. إنّ دورها مُرتبط بالحث على الإيجابية في زمن الذعر، الخوف والقلق. ولأنّ الوباء غيّر ويُغيّر كثيراً من المعادلات والقناعات الفكرية في إطار مقتضيات «ملحمة الصراع لأجل البقاء»، يبقى التعويل على التفكير الفلسفي أمراً بالغ الأهمية في تحليل وإبداع المفاهيم الجديدة، وفي إحداث منطق اِستدلال مُختلف، ينتصر للإنسان في مقام أوّل.
ولنا في الواقع والتاريخ ما يُثبت صحة ذلك، يُمكن العودة لمُفكرين وكُتّاب مُعاصرين أبدعوا كُتبًا في توجهات معرفية مُختلفة زمن الوباء، مُستفدين في ذلك من التباعد والفراغ والحجر الصحي، أو لفلاسفة أبدعوا في موضوع الوباء ذاته على غرار سلافوي جيجك ويوفال نوح هراري.
أمّا على مُستوى التاريخ، فيمكن الإحالة إلى إسهام لسان الدين اِبن الخطيب (1313-1374)، من خلال كتابه «مقنعة السائل عن المرض الهائل»، والّذي ألفه نتيجة اِجتياح وباء الطاعون مدينة غرناطة سنة 749ه(1348م)، حيث أفضى الوباء إلى نتائج وخيمة أقساها على قلبه وفاة أستاذه اِبن الجياب الغرناطي (1274-1349). لقد عزّز اِبن الخطيب بفهم مُستنير أهمية الحجر الصحي والتباعد الاِجتماعي لمحاربة الوباء، حينما أثنى على سلوك الزاهد اِبن أبي مدين الّذي عزل نفسه وأهله في منزله، الأمر الّذي أنجاه بمقابل هلاك الكثيرين. كما دحض اِبن الخطيب فكرة سادت في عصره مفادها اِعتبار الوباء عقابًا من لدُن الخالق، لصالح فكرة السببية الكامنة في الاِنتشار نتيجة العدوى، وهو الأمر الّذي يجد تبريره كما يقول اِبن الخطيب من الأدلة الواقعية الكامنة في الملاحظة، التجربة والاِستقراء.

- عبد الرزّاق بلعقروز/ أستاذ مُحاضر وباحث أكاديمي مُتخصص في فلسفة القيم -جامعة سطيف2 : لابدّ للفلسفة في زمن الوباء أن تشتغل على أخلاقيات العناية


الجائحة باتت هي المُتحكم في توجيه النَّاس وفي خياراتهم وحتى في طبيعة أبحاثهم. إنّ هذا الوباء قد أضعف من مركزية الإنسان، وقلَّل من قيمة التكنولوجيات والمبتكرات الطبية في أعيننا، دخلنا في لحظة يمكن تسميتها بأنّات الاِنتظار، نحن ننتظر الاِنفراج، ننتظر اللّقاح، ننتظر تحول الفيروس، ننتظر الفصول كي يرتفع هذا الوباء، بات الهاجس البيولوجي هو أقوى الهواجس. وفي ظل هذه الحيرة الوجودية تأتي الفلسفة لكي تفكر في هذا الموضوع، وتفكير الفلسفة كما هي عادة الفلاسفة الاِختلاف في القراءة والتّأويل، والاِستعانة بالنصوص الفلسفية في قراءة ما يحدث أو تصفية الحسابات الفلسفية مع الفلسفات الخصيمة. ويجدر القول هنا، أنّ هناك آراء/وقراءات كثيرة متباينة، من منظورات وتحليلات وزوايا فلسفية لبعض الفلاسفة الغربيين، حول كورونا، من بينهم نجد الفرنسي «إدغار موران» في قراءته لجائحة كورونا أكثر شعوراً بالنشوة لأنّها عبَّرت عن صحة أفكاره وتحليلاته، فهو دومًا ناقد لِمَا يُعرف بعِلم المستقبليات، ومن أنّ المرور من الحاضر إلى المستقبل غير ممكن واقعيًا وفلسفيًا، وبدلاً من الفكرة السائدة أنّ اِستشراف المستقبل هو التفكير بِمَا سوف يحدث، يقلب إدغار موران هذه الفكرة قائلاً: اِستشراف المستقبل هو التفكير باللاّيقين وباللاّمتوقع الحدوث، ولو كان للعِلم تلك المرجعية المُطلقة في معرفة الحقائق لاستطاع اِستشراف هذا الوباء، أمّا وأنّه لم يستطع فإنّ موران يجد فرصة لأن ينتقد العِلم ويكشف عن حدوده ونسبيته. وبخصوص فكرة العزلة يرى موران أنّها فرصة لتطهير الذات واستمرار المقاومة والنّضال، ويستفهم إدغار موران عن أنّ المستقبل البادي يلوح فيه الصراع بين قِوى الشر وقِوى الخير، إلاّ أنّ هذه الأخيرة لازالت ضعيفة.
إنّ قراءة الفلسفة لكورونا لا تنفصل عن الاِستناد إلى النّصوص في الفهم والتأويل، وهي فرصة للدفاع عن الأفكار الفلسفية أو الخيارات التي يتبناها فيلسوف دون آخر، ويمكن القول أنّ الفلسفة في هذه اللحظة لا يخدمها كثيراً تصفية الحسابات الفلسفية أو الاِنتصار للنماذج الفكرية، فنحن في لحظة كما يقول جون غرايش بحاجة إلى كلمات تُواسي الكلوم وليس إلى أفكار تنير الدروب. فالإنسان حاليًا يبحث عن رؤية تقترب به أكثر إلى الحياة الثانية وتعددية العوالم كي يشعر بالطَّمأنينة، أمّا محاصرته بواحدية العوالم فهذا يزيد شعوره بغياب المعنى وفقدان القيمة والمستقبل المجهول.
لابدّ للفلسفة أن تشتغل أيضًا على أخلاقيات العناية، أن تعتني بالإنسان وتُراعي اِنفعالاته والعناية بالمرضى ومرافقتهم وتثقيفهم، فأخلاق العناية فلسفيًا تقضي بأنَّ العلاقات تنمو والحاجات تُلبّى والحساسية التَّعاطفية تزدهر.

- عمر بوساحة/رئيس الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية، وأستاذ الفلسفة بجامعة الجزائر: الدرس من المأساة


من المُفترض أن تكون أزمة كورونا قد علمتنا نحن الجزائريين أنّها جائحة طبيعية أنتجتها شروطٌ بيئية معينة، كما تنتج أشياء كثيرة غيرها، ومن غير المعقول اِعتبار الأمر بمثابة عقاب إلهي للبشر على أفعالهم وعلى الكبائر التي يقترفونها، فالله ليس قوة غاشمة تضرب البشر من دون مبررات ولا تمييز، فقط لأنّها تريد إرضاء هوىً في نفسها، فهناك البشر الطيبون وهناك الأشرار المجرمون، ولا تزرُ وازرة في الحياة وزر أخرى، فالعدل الإلهي كما قدمته الأديان والشرائع وأكده الفلاسفة والمفكرون يأبى أن يُساير هكذا تفاسير ومذاهب منحرفة.
كما قد تكون هذه الأزمة قد علمتنا أنّ نظرية المؤامرة التي تُعشش في عقولنا وتفعل بنا ما تفعله كورونا وأوبئة أخرى في أجسادنا، قد فضحها هذا الاِنتشار المرعب لهذا الفيروس في العالم، فهو لم يستثن شعبًا من الشعوب، فمن يتآمر على من؟ فالإنسانية كلها هي الآن ضحية لهذا الفيروس المرعب الخطير، وبخاصة منها تلك المتقدمة التي أُصيبت أكثر من غيرها، والتي نعتقد نحن على الدوام بأنّها مصدر المؤامرات علينا. قد تكون المؤامرة في بعض الأمور واردة، ولكن أن تصبح المشجب الّذي نعلق عليه كلّ مآسينا فهذا أمر يرفضه الواقع والحقيقة. إنّ تقمص دور الضحية الّذي اُبتلينا به في حياتنا وثقافتنا جعلنا نعتقد أنّ العالم كله يتآمر علينا، ولا ننتبه ونحن نعيش هذا التيه أنّنا في الواقع نعيش عالة على هذا العالم، يصنع لنا كلّ ما نستهلكه في حياتنا ولكنّنا لا نتوانى في أن نشن عليه حربًا من الساعات الأولى للصباح إلى الساعات الأخيرة من الليل، حربًا بالدعاء عليه تارةً، وبالسب والشتيمة في الكثير من الأوقات.
يُفترض أنّنا سنستفيق مِمَا ألحقه بنا هذا الوباء من ضياعنا واغترابنا الديني والثقافي وننتبه إلى أنّ الثقافة التي لا تنهل من العِلم والفلسفة والفنون الجديدة وكذلك من الفكر الديني الجديد، ستظل غارقة في الجهل والأوحال وسيظل الدراويش والدجالين سادتها. يستغلنا تجار الدين والخرافة المدَعين للمعرفة والعِلم كذبًا، تمامًا كما يستغلنا تجار المواد الاِستهلاكية، يبيعون لنا جميعهم ما فقد الصلاحية من موادهم من غير وازع إخلاقي ولا ضمير. فلا فرق بالمطلق بين هذا التاجر وذاك، هذا يبيعك مواداً بأسعار خيالية استنفذت صلاحيتها وذاك يبيعك ثقافة فقدت هي الأخرى صلاحيتها منذ غابر الأزمان تصنع منك كائنًا مُنفصلاً عن عصره.
نتعلم الدرس من المأساة غالبًا. لهذا يُفترض أن نتعلم من هذا الوباء الكثير. سيكون الدرس مُلهمًا ومفصليًّا ومحفزا لو تعلمنا. أمّا الفلسفة، الأكيد سيكون للفلسفة دورها الفاعل في خضم هذا الظرف الوبائي العصيب، من جوانب مَوضعتُه واستشكالاته، كما سيكون للتفكير الفلسفي أطروحاته وتأملاته ودراساته.

الرجوع إلى الأعلى