إنّهــا حتمية أن  يكون المثقف معنيًّــا  بالسياســة  فلا  إبداع خارج السياسة
يتحدث الكاتب والروائي الحبيب السائح، في هذا الحوار، عن طقسية الكتابة عند الكُتّاب والأدباء، موضحًا حسب وجهة نظره ونظرته وفلسفته أنّ الكِتابة لا تتحوّل طقسًا إلاّ خلال إنجاز النص الّذي يستغرقُ وقتًا لا يمكن تقديره مُسبقًا وفي أجواء تستدعي غالبًا العُزلة المكانية والغيبة الزمانية. كما يتحدث عن ما أنجزته نصوص المحنة الوطنية، تلك التي اِستوعبت الرهان السياسي والفكري للعشرية الدامية، مشيرا هنا إلى أنّها وضعت معالم في طريق الكتابات اللاحقة. مضيفًا في هذا السياق، أنّه لابدّ، لمن يعود الآن من الكتُّاب إلى تاريخية ما حدث من أن يقرأ المدونة إذا أراد أن يُضيف نوعيًا وفنيًا وجماليًا، أي أن يُهدم بناء التوثيقي والتاريخي ويُعيد تشكيله بمنظور فلسفي وجمالي مُؤَسَّسين على الخيال.
حاورته/ نـوّارة لحـرش  
كما يتحدث صاحب «زمن النمرود»، عن شؤون أخرى ذات صلة بالكتابة والرواية والمثقف وعلاقته بالسياسة والتكريس الأدبي والمجايلة. نكتشفها في هذا الحوار.
النصُّ في لحظات تشكله هو الّذي يُحول الكاتب إلى أثاث طقَسي
لنبدأ من طقوس أو طقسية الكُتّاب أثناء الكتابة. فكثيرا ما نقرأ عن هذا الموضوع من زوايا ورؤى وفلسفات مختلفة وخاصة. اِنطلاقًا من هذا. كيف هي نظرتك أو فلسفتك ورؤيتك لهذا العالم. عالم طقوس وطقسية الكتابة؟
الحبيب السائح: أيُ أثرٍ يُحدثه الكلام في موضوع الكتابة عن طقسية الكتابة إن لم يكن الرد على سؤال اِفتراضي حول جوّ «الكهانة» الّذي يُهيئه هذا الروائي أو ذاك لإنشاء نصه!
الكتابة، أيُ كتابة، تبدأ شفهيةً، تتشكل بتلك الصفة وتستمرُ كذلك حتى وقد خُطّت على ورق أو في صفحة الحاسوب متعرضة في كلّ مرّة إلى عمليات هدم وإعادة بناء وأحيانًا إلى حذف نهائي في سياق تبديلي متواصل إلى أن ترضى الكتابة، أجل الكتابة، عن الشكل النهائي أو القريب منه.
ليس هناك نص، لاسيما الروائي قياسًا إلى الشِّعري، ينكتبُ ضمن طقس اِعتيادي، أعني بالطقَس الحالة المزاجية المسيطرة على الذات الكاتبة، المتبدلة والمتغيرة، ليس فقط بفعل كيمياء الجسد التي تُؤثرُ في الوعي وفي درجة التحمل، ما دامت الكتابة تتطلبُ العافية الشاملة، ولكن أيضا بِمَا تتعرض لها من ضغط الخارجي ذي العلاقة بالمعيشي الّذي هو المنطلقُ وهو المرجعُ لحياة الكاتب في الجزائر كما في العالم العربي.
المثقف هو أقدر الأفراد على التأثير في الرأي العام لاِمتلاكه الأدوات التي تجعل خطابه يصل
المُهتمون بتدوين سيرة الكُتّاب الذاتية وحدهم يكونون قادرين على وصف طقوس الكتابة عند هذا الروائي، أو الشاعر. وهم المُؤهلون لأن يقولوا إنّ هذا السلوك أو غيره من طقس الكتابة، لأنّ الكتابة لا تتحوّل طقسًا إلاّ خلال إنجاز النص الّذي يستغرقُ وقتًا لا يمكن تقديره مُسبقًا وفي أجواء تستدعي غالبًا العُزلة المكانية والغيبة الزمانية.
فالكُتّاب الذين يُغريهم الحديث عن طقوس كتابتهم هُمْ لا يفعلون أكثر من أن يصفوا اللحظات التي يتمنون أن يكونوا عليها خلال كتابة لا تسعفهم عليها حالهم.
فإنّه بمجرّد أن يأخذ النص، الروائي تحديدا، شكل هيكل يصير هو إرادة الكتابة ذاتها ويُصبح الكاتب مُنفذاً لتلك الإرادة في أن تذهب بالكِتابة إلى حدها النهائي مع ما يدوس على كلّ تفكير في إقامة أي مراسم طقوسية، ذلك أنّ النص في لحظات تشكله هو الّذي يُحولُ الكاتب إلى أثاث طقَسي.
فقط، لا بدّ من التفريق في هذا المقام بين الكتابة في درجتها الدُنيا، أي مستوى الهواية لأنّها ليست هاجسًا مركزيًا ولا مسوغًا وجوديًا للكاتب المُنشغل بــ»كتابات أخرى وطموحات مُختلفة»، وبين الكتابة في درجتها العُليا، أي مستوى الصنعة التي تعني الاِحتراف بمفهوم الاِنصراف كليةً إلى الإبداعي.
فإنّ طقس الأولى، إن تم الحديث عنه، وصفه صاحبه بالمراسمي الاِستظهاري تعويضًا عن كتابة عصيّة الاِقتراب والتحقُّق هي المحْفَلية ذاتها. على أنّ الثانية، باِعتبارها طقسًا بحد ذاته، تتجاوز مبررات اِنكتابها وظروفها إلى أسئلة الاِشتغال المُوجع، لا لتُقدم إجابة بل لترسم أثراً لتجربة كتابة أخرى بطقسٍ مختلف يتم في أقصى درجة من الصمت لسماع أصوات اللّغة.
فكلُّ حديثٍ عن طقوس الكتابة من خارج الكِتابة زخرفٌ، وهو غير ملزِم بأي اِعتبار لفعل الكتابة كهمٍّ محورُه اللّغة. إنّ وصفًا للعملية التي تستغرقها محاولة تحويل جملة سردية من طابعها التوليدي، أي من صيغتها الأولى التي ترِد على الخاطر، إلى صيغتها النهائية ضمن السياق السردي، كفيلٌ بأن يُنسي الكاتب كلّ طقَسية خارجية، نظراً إلى أنّ الجملة التي يتم التفكير بها خلال الكتابة هي خامة تستدعي إعادة تشكيل تركيبي حتى ترتقي إلى ما هو نظميّ.
هذا يعني أنّ هناك طقسية أخرى، غير طقسية الحالة أو السلوك أثناء الكتابة، هي طقسية ربّما أهم. إنّها طقسية الاِشتغال. الاِشتغال على الكتابة، على اللّغة، على الفكرة، على الأسلوب... وغيرها من خامات لصيقة بالكتابة بحد ذاتها لا بطقس الكاتب؟
الحبيب السائح: تماماً. الطقَسية، هنا، هي الاِشتغال على ما أعتبرهُ خامات سردية تستلزمُ دراية بسرّ اللّغة ومهارة في نسجها وقدرةً عصبية في الصبر على ترويض حرَنها، إنّه لا وجود لنص روائي إلاّ بعملية تحويل تلك الخامات من مادتها الأولية أي الدفق الأوّل «المسودة الأولى» إلى الصيغة القريبة من النهائية «بعد أكثر من مسودة».
فإن يكن همّ الشاعر تجريد اللّغة حتى حدود اِختفاء المعنى فإنّ عمل الروائي هو تحميل لغته دلالةَ المُمكن التي لا تصنعها إلاّ لُغة اللّغة، أي الكفاءة القاموسية والبنائية والمجازية التي يتم البحثُ عنها بعيداً عن نفايات اللّغة.
ما أنجزته نصوص المحنة هو أنّها وضعت معالمَ في طريق الكتابات اللاحقة
في رواياتك حضرت هذه اللّغة التي تتحدث عنها، لُغة اللُّغة. كما حضرت محنة الجزائر خلال العشرية السوداء. برأيك هل واكبت الرواية الجزائرية الأزمة/المحنة، هل اِستثمرت فيها إبداعيًا وأدبيًا، أم فقط تناولتها من سياقها التوثيقي بعيداً عن الجمالي والفني والمخيال الإبداعي؟
الحبيب السائح: في سؤالكِ جميع مكونات النقاش الّذي أُثير ولا يزال، ولو بحدةٍ وانتشارٍ محدودين، حول مدونة السرد الروائي التي تراكمت نصوصها، خلال المحنة الوطنية، كما أحب أن أصفها، واستمرت تظهر من حين لآخر في الكتابات الروائية باللغتين معًا العربية والفرنسية، في داخل الجزائر خاصةً، آخذة في ذلك المسافة الزمنية اللازمة التي لم تأخذها جميع النصوص خلال اِشتعال أتون العنف، فسُميت لذلك «اِستعجالية». وأنتِ تعرفين دلالة مفهوم «الاِستعجال» الّذي كثيراً ما جعله بعضهم يُحيل على تلك النصوص التي لن يتوافر لها صدى، لأنّ اليوميّ والوقائعي والعياني جرفها إلى سيل الخطاب الصحفي في بنيته الإخبارية. شخصيًا، إذ كتبتُ «تماسخت. دم النسيان» كنتُ في عُمق دوامة المحنة. غيرَ أنّي أخذت من داخل الأحداث الدامية والمؤلمة، حد الاِنهيار، تلك المسافة الزمنية في ذاتي. وهي المسافة التي سمحت لي بأن أطرح السؤال: هل سفك دماء المسلمين ظاهرة جديدة في تاريخهم، ومن ثمّة في تاريخ الجزائر؟ ما دام أنّ الجواب كان بالنفي فإنّي عملت على أن لا أُدين. ما فعلته هو تعرية الحماقة. ولو أنّي شجبتُ الجريمة تحت الغطاء الديني. كان لا بدّ، كما كتبتُ ذلك على ظهر الغلاف، من إظهار الضياع الّذي خطت سبيله الحماقة بالدم المُستباح معْلماً لكلّ المنسيات في وجدان هذا الإنسان الجزائري الّذي كأنّما خُلِقَ ليكرس اللامعنى إذ ينقاد بسرعة وينسى بسهولة ويرد الفعل بشعور المُهان. وكان يجب أن أنتظر ثمانية أعوام كي أكتب «مذنبون.. لون دمهم في كفي» بعيداً تمامًا بمسافة زمنية حقيقية لأتبيّن أنّنا أذنبنا جميعًا في حق الجزائر، بشكلٍ أو بآخر، بدرجةٍ أو بأخرى.
بصفتكِ صحافية وشاعرة وقارئة تدركين ضرورة حجم المعرفة وكمية الصّبر ومخزون التجربة لكتابة نص روائي عن حدثٍ عظيم مثل المحنة الوطنية. ما أنجزته نصوص المحنة الوطنية، تلك التي اِستوعبت الرهان السياسي والفكري للعشرية الدامية، هو أنّها وضعت معالم في طريق الكتابات اللاحقة. هل واكبت أم لم تفعل؟ الدراسة والنقد، وربّما الاِنتقاء التاريخي، وحدهما قادران على الإجابة. فلا بدّ، إذاً، لمن يعود الآن من الكتُّاب إلى تاريخية ما حدث من أن يقرأ المدونة إذا أراد أن يُضيف نوعيًا وفنيًا وجماليًا، أي أن يُهدم بناء التوثيقي والتاريخي ويُعيد تشكيله بمنظور فلسفي وجمالي مُؤَسَّسين على الخيال.
النصوص التي ينشرها الكاتب ليست دائمًا هي المرجع للتكريس
ذاكرتنا لا تحمل أي إنجاز هندسي من تصورنا ومن إنشائنا والمدن التي اِنتقلنا إليها غداة الاِستقلال حزناها كغنيمة حرب عقارية
تهديم وبناء التوثيقي والتاريخي. كلام يُحيلنا إلى بناءٍ آخر: العمران والمدينة. أي صورة المدينة في الرواية الجزائرية. كأنّ قدر المُدن الجزائرية أن تظل خارج النص، كأنّ الكتابة الروائية لم تنصفها كما يليق بها؟ لِماذا هذا الغياب للمدينة في الروايات الجزائرية؟
الحبيب السائح: أتجنب أن أجيب عن تفرعات سؤالك الكبير، لأنّها تدخل ضمن البحث السوسيو ثقافي ونقده، الّذي للأسف هو الآخر بقي إلى الآن غائمًا. وأحب أن أقدم وجهة نظري المُختصرة عن قضية مهمة مثل التي طرحتِها وأرجو أن تفي بالغرض. شخصيًا، لا أذكر أنّ كاتبًا جزائريًا صور مدينة ببنيتها المعمارية، سواء أكانت تلك المدينة موجودة حقيقةً أم كانت من خياله أم مستعارة، كما كان ذلك عند كُتّاب آخرين من المجتمعات الغربية خاصة. ولاحقًا من أمريكا اللاتينية. لعلّ السبب يعود، في تقديري، إلى أنّ ذاكرتنا لا تحمل أي إنجاز هندسي كان من تصورنا ومن إنشائنا. فإنّ المُدن التي اِنتقلنا إليها غداة الاِستقلال كُنا حزناها كغنيمة حرب عقارية. إنّها مُدن الآخر، تُعبر ببناياتها ومرافقها وشوارعها وفضاءاتها عن تصوره للحياة والوجود. وتُحدّد طبيعة العلاقات الاِجتماعية وتقسيماتها الطبقية. ومن ثمّة فإنّنا لا نعرف لماذا وجدت في الأصل برغم أنّنا نُقيم فيها، وفيها نقضي. من هنا السؤال الّذي قد لا يكون أيُ كاتب جزائري طرحه على نفسه: ما ذريعة وجوده في مدينة؟ هل شارك أو هل يُشارك في بلورة جانبها المديني؟ وكيف؟ والغريب أيضًا أنّ المدينة، بالمفهوم العربي الإسلامي، ظلت هي أيضا خارج النص الروائي الجزائري. إنّي ألمح إلى تلمسان وبجاية وقسنطينة وقصبة الجزائر، برغم أنّ كُتّابًا جزائريين، ولو كان عددهم ضئيلاً، وُلدوا فيها أبًا عن جد. كما أنّ السبب الآخر يُعزى إلى طبيعة الكتابة الروائية الجزائرية المرتكزة أساسًا على الاِسترجاع. أي اِسترجاع الزمن خاصةً، والّذي لا يلزم الكاتب بالتفاصيل كما يستدعيها وصف المكان حتى في اِسترجاعه. ولأنّ المكان يتطلب إضافةً إلى ذلك معرفةً بالعمارة وأنواعها وخضوعها لهذه البيئة أو تلك ودلالاتها الخارجية، فإنّه يفرض على الكاتب أن يُسمي أشياءه، كلّ أشيائه. وتلك مشكلة أخرى في لغة الرواية الجزائرية.
هذا الكاتب الّذي تتحدث عنه. كأنّه ينأى عن السياسة. أو يخشى من الخوض فيها. كيف ترى علاقة الكاتب أو المثقف الجزائري بالسياسة؟ وهل عليه أن يكون معنيًا بالسياسة أو منتميًا لها؟ وما الحدود بين السياسة والإبداع؟ وهل أنّ الخوض في السياسة ودخولها يُبعد المثقف عن مجاله الحيوي والمحوري (الفكر والكتابة والإبداع)؟
الحبيب السائح: المُثقف الجزائري، بهذه الصفة التي تعني «التورط» الإرادي في حياة المُجتمع العامة، هو في قلب السياسة: تاريخ الجزائر، منذ الاِحتلال إلى الآن، يقول عنه هذا. لذا، فهو مَحل جذب غالبًا لهذه النزعة السياسية أو تلك. إنّه في مَحط عين السياسي التي تنظر إليه دومًا باِرتياب. في الأحوال كلها (برغم خساراته على رهانات مشروعات مجتمعية تبناها فترجمها في خطابه الفكري أو الأدبي أو الفني أو الإعلامي بفعل الاِنقلاب عليها أو فشلها أو اِنحرافها، كما هو الشأن في تجربة ما بعد اِستقلال الجزائر) تبقى للمُثقف هذه الخصوصية التي تُميزه عن غيره من الكفاءات الأخرى ذات الفعل المُتخصص جدا، فهو أقدر الأفراد على التأثير في الرأي العام لاِمتلاكه الأدوات التي تجعل خطابه يصل وسائط الاِتصال التي تُعيد نشره على نطاقٍ أوسع، ومن ثمّة حصول الإثارة التي يحدثها رفْضاً أو تبنّياًـ إنّه يسهم في حركية لدى الأفراد كما عند الجماعات، إنّه، يعلو السياسي منصةً، إنّه يستطيع أن يرى بشكلٍ بانورامي وبدرجة دوران حول النفس كاملة.
إنّها حتمية أن يكون المثقف معنيًا بالسياسة. إنْ هو، لِخطأ في التقدير، تصور نفسه خارجها فقد فقَد صفته، إنّه يفسح لأنواع شتى من الوصوليات والاِنتهازيات والفولكلوريات والشطحات والدروشات والرداءات أن تحاصر النزاهة وتُكبل الكفاءة وتُطارد العقل. أليست تلك حالَنا الآن، لتصور المُثقف نفسه خارج السياسة؟ ألم يكن، للخطأ في التقدير، تخلى عن مجاله الحيوي للسياسي أن يُقرر بدله في ما يعود إليه هو المثقف؟ لا إبداع خارج السياسة، أبداً! وإذاً، لا حدود صارمة فاصلة بينهما. إن كانت السياسة، في تقديري، هي أسلوب إدارة شؤون الدولة فإنّ الإبداع الأدبي والفني هو أحد محركاتها الأساسية، لاِرتباطه بالوجدان الجمعي الجزائري.
تكريس الأسماء يعود إلى العلاقات الشخصية وحسابات ربحية بالأكثر
هل تساهم السياسة في تكريس الأسماء؟ وكيف تقرأ مسألة أحقية التكريس، وهل تقوم على عوامل ذات صلة مُباشرة بقيمة هذا الكاتب أو ذاك الأدبية، أم على علاقات شخصية وحسابات أخرى؟
الحبيب السائح: تكريس اِسم أدبي في الجزائر، قبل اِنهيار الواحدية الحزبية، كانت الأصوليات بمختلف نزعاتها -السياسية الدينية اللغوية الثقافية- هي التي تعمده. فكثير من هذه الأسماء تلاشى حضوره باِنحسار تأثير تلك الأصوليات. أمّا بعد «الاِنفتاح» فقد صار الأمر مختلفًا، إذ تدخلت العلاقات الشخصية وحسابات الربح والخسارة في دفع هذا الكاتب أو ذاك إلى الواجهة. واستتب الخوف في نفوس «النقاد» والمهتمين بالشأن الأدبي من ردات فِعل هذا الكاتب «المكرس» أو ذاك من خلال الوسائط التي يحركها بفعل العلاقات وأحيانًا بفعل ما يُغدقه أيضا من إكراميات على بعض من يُشكلون شبكة اِنتشاره. إذاً، فمسألة أحقية التكريس غالبًا ما لا تقوم على عوامل ذات صلة مباشرة بقيمة هذا الكاتب أو ذاك الأدبية، بمعنى أنّ نصوصه التي ينشرها ليست دائمًا هي المرجع. فقد تكون «الهالة» التي يُضفيها عليه وسطٌ مُعين هي التي تُوهم بذلك. من هنا يحدث أن يكون المشهد الثقافي والأدبي مُختلاً. أنتِ تعرفين أنّه غالبًا ما يصدر بعض المهتمين أحكامهم التقويمية اِنطلاقًا مِمَّا يسمعونه أو يقرأونه عن هذا الكاتب أو ذاك وليس من اِطلاعهم على إنتاجه. فكلّ شيء يغدو، بالنسبة إلي، نسبيًا في موضوع التكريس. غير أنّ ذلك كله مني لا يغفل عندي اِعترافي بأنّ لهذا الكاتب أو ذاك الحق في السعي إلى الاِنتشار ولكن بالوسائل الشريفة.
يصدر بعض المهتمين أحكامهم اِنطلاقًا مِمَّا يسمعونه عن الكاتب وليس من اِطلاعهم على إنتاجه
للمرجعية الثقافية والحضارية والتاريخية حضورا قويًا في صياغة ذوق هذا الجيل أو ذاك
اِنطلاقًا من اِعترافك بهذا الحق في الاِنتشار. كيف تقرأ مسألة المجايلة أو الجيلية، وهي موضوعة ذات إشكالات ونقاشات ترتبط عادة بالمفهوم العام للمجايلة أو الجيلية؟ وهل يمكن أن يتم تقييمها بالاِستناد للعمر الزمني فقط، أم لعناصر المكونات الإبداعية ومدى تقاطعها فيما بينها؟
الحبيب السائح: المجايلة، في تقديري، مفهومٌ يصطلح عليه في تحديد فئة اِجتماعية ولو كانت مزيجًاـ تركت بصماتها، بعملٍ ما، على فترة تاريخية من المجتمع الّذي تنتمي إليه، وأحيانًا بالمجتمع الإنساني عامةً. ففي الجزائر، نطلق المفهوم بالشكل التالي: جيل مؤسسي الحركة الوطنية. جيل حرب التحرير. جيل ما بعد الاِستقلال... وهو مفهوم اِرتبط أكثر بتعاقب الأجيال في الفن التشكيلي والمسرح والسينما والشِّعر والرواية والقصّة والنقد والفلسفة. ذلك بالنظر إلى شرط السن، في علاقته طبعاً بأهم التحوّلات الاِجتماعية والفلسفية الحاصلة في سيرورة هذا الجيل أو ذاك. غير أنّ الجيل الفني أو الأدبي أو الفلسفي قد يعْبُر أكثر من جيل اِجتماعي. وهو وريثٌ لِمَا قبله ومُتأثرٌ به لهذه الدرجة أو تلك. كما هو حامل إمكانات ميراثه وتأثيره في ما سيعقبه، لا محالة. إنّها صيرورة لا فكاك منها، حتّى ولو اِتجهت جهود هذا الجيل أو ذلك نحو إحداث قطيعةٍ ما مع الجيل الّذي سبق.
المجايلة محكومة بالتّخضْرُم، من ثَمّة ذاك الاِحتكاك الحاصل على مستوى الرُؤى والمواقف تجاه الجوانب الشكلية في الكتابة خاصةً. لعلّ الكتابة الأدبية أكثر تعرضًا من غيرها من الفنون الأخرى إلى التحوّل والتطور بفعل التجريب. ومن هنا تنشأ رغبة كلّ جيل جديد في إحداث الفارق الفني وفي السعي إلى التجاوزـ كما تطرحينه في سؤالك، لأنّ هذا الجيل أو ذاك لا بدّ يَحملُ حساسية مختلفة تشكلت له من محيطه الضيق والواسع ومن تجاربه، في تجاذبها مع السياسي والأيديولوجي، ومن قراءاته. إنّ للمرجعية الثقافية والحضارية والتاريخية، حضوراً قويًا في صياغة ذوق هذا الجيل أو ذاك وفي وسْم كتابته أو فنه بخصوصية جمالية تطبع فترة وجوده. فلا أخشى إذاً أن أبتعد كثيرا عن الصواب إذا ما قدرت أنّ توزيع الكتابة الأدبية في الجزائر، الروائية منها خاصة لأنّها أبرز جنس قابل للأَجْيلة، يمكن أن يشمل، كرونولوجيا، جيلين اِثنين بارزين: الجيل الأوّل. وهو جيل الخمسينيات والستينيات معًا. والجيل الثاني. وهو جيل السبعينيات الّذي تكرّس في حضور أكبر كُتّاب الجيل الأوّل (بن هدوقة ووطار). وكان المتوقع أن تتبلور ملامح الجيل الثالث منذ بداية التسعينيات، نظراً إلى الرجة الكُبرى التي حدثت في أكتوبر88، والتي حوّلت بشكلٍ جذري نظرةَ الكُتّاب، بمختلف حساسياتهم، إلى فضائهم وزمانهم. لكن الّذي لا يخفى هو أنّ هناك أسماء، على قِلتها، تُشكل قاطرةً لهذا الجيل المُنتظر بروزه وانتشاره ليكون بحق ثالث جيل يُضيف إلى بناء السرد الروائي الجزائري إسهامًا جديدًا. 

الرجوع إلى الأعلى