جاءت الأزمة الوبائية التي اِكتسحت العالم وعطّلت تمامًا نظام التعليم (التقليدي)، لتؤكد أهمية وضرورة ومكانة التعليم عن بُعد. وهذا ما فرضته الأوضاع الوبائية، فهل يمكن الحديث في الجزائر عن واقع وأفاق وأهمية التعليم عن بُعد. وكيف يمكن تصور مستقبله في الجزائر في ظل رهانات وتحديات ومعيقات مختلفة. وهل يمكن أن يكون عنصراً مهمًا أو إستراتيجية مهمة في منظومة التعليم مدى الحياة. أيضا ما هي أهم أو أكبر التحديات الإستراتيجية؟
حول هذا الشأن "واقع التعليم عن بُعد وتحدياته في زمن الوباء"، كان ملف "كراس الثقافة" لهذا العدد مع مجموعة  من الدكاترة والباحثين الأكاديميين.
استطلاع/ نــوّارة لحــرش

* عبد الحميد فرج/ أستاذ العلوم السياسية بجامعة  الوادي
 الاِنخراط في منظومة التعليم عن بُعد يجب أن تتعاون فيه عِدة قطاعات
أستاذ تعليم عالي.. دكتور.. بروفيسور.. هي مصطلحات اِعتدنا سماعها وارتسمت في المخيلة الشعبية بالفخامة العلمية والرفعة في المكانة الاِجتماعية، وأنّ حاملها مُتحكمٌ في زمام الأمور العلمية كمًا وكيفًا، شكلاً ومضمونًا. وبالموازاة مع ذلك الحياة الجامعية مُستمرة: (بحوث ومقالات ومذكرات ورسائل، ومناقشات..اِلخ). وتماهى المجتمع مع هذه المنظومة ويعتقد أنّنا نُساير العالم في منظومته العلمية إلى أن توقف كلّ شيء فجأةً، وأعلنَ أسياد العالم أن "اِلزموا بيوتكم وصلوا في رحالكم" إنّها الكورونا، الخطر القادم من الشرق. سنعود بعد شهر، بعد شهرين، بل وصلنا لأربعة، ثم ستة، ومازال الأمد بعيداً على ما يبدو. وكان لا بدّ من حل لاِستمرار المنظومة التعليمية، وطبعًا الحل هو باِختصار: "التعليم عن بُعد". فجاءت المُراسلات تلو المُراسلات تدعو الجميع للاِنخراط في المنظومة الجديدة "التعليم عن بُعد"، غير أنّ الواقع طرح سؤالاً جوهريًا: ماذا أعددنا لهذه المنظومة؟ هذا الواقع للأسف أظهر عورات المنظومة السائرة نحو السكون والتماهي مع اللاشيء. فكورونا اِستطاعت تقليم الشجرة التي كانت تغطي الغابة تقليمًا فاضحًا كاشفًا لكلّ العيوب، وظهرت المنظومة بكلّ مكوناتها على حقيقتها، وأنّنا لم نُعِد العُدة لمثل هكذا طوارئ؟ فظهر الكثير من الطلبة، بل والأساتذة لا يتقنون أبسط أبجديات التعامل مع الوسائل الاِلكترونية: (التحاضر عن بُعد، البريد الاِلكتروني.. ناهيك عن إنشاء غُرف تعليمية وحصص تفاعلية مع الطلبة) إلاّ ما ندر. رأينا أساتذة غاب حسهم تمامًا منذ آخر يوم أُغلقت فيه الجامعات بمُعدل صفر نشاط بيداغوجي أو علمي. الكثير من الجامعات في العالم، بل عند جيراننا فقط، عقدت العشرات من الملتقيات والندوات العلمية عن طريق تقنية التحاضر عن بُعد، وهنا في الجزائر تكاد تنعدم، وحتّى مشاركة الأساتذة الجزائريين قليلة جداً مقارنةً بالعدد الكبير للأساتذة، والأغرب من هذا كله أنّ الجزائر تحتوي على طاقات علمية وفكرية كبيرة جداً ولكنّها تُحرم من إيصال منتوجها العلمي بسبب عدم تكوينها في مجال التواصل الاِلكتروني فتحرم نفسها ومتابعيها من خيرٍ كبير. بل الأدهى والأمر والأكثر خجلاً، أنّنا حين نُتابع بعض الندوات التي يُشارك فيها الجزائريون عن بُعد باِجتهادات فردية منهم، نُلاحظ تلك العبارات المُتكررة "هل الصوت يصل؟" "أغلق الميركوفون أستاذ فهناك ضجيج حولك؟"، "الصورة غير واضحة"، "نتأسف على التقطع في البث نظراً لضُعف الانترنيت".. وما إلى ذلك من المظاهر المُؤسفة التي تُعطي صورة سيئة جداً عن واقعها في هذا المجال.
كلّ هذا مرده إلى أنّنا استرْكَنَّا إلى الوضع الكلاسيكي للمنظومة الجامعية ولم نُطور طاقاتنا في مجال اِستغلال الوسائل الاِلكترونية في التعليم، ولم نتفطن لتكوين أنفسنا في كيفية اِستغلالها والتدرب على اِستعمالها وعلى تقنياتها المُتعدّدة حتى نُساير ما وصل إليه العالم من تطور في هذا المجال، ولعلّنا تنطبق علينا مقولة "رب ضارة نافعة" فجاءنا هذا الظرف الّذي نبّهنا إلى جانب مهم كنا نغفله تمامًا.
وحتى نكون منصفين فإنّه وجب القول أنّ الاِنخراط في منظومة التعليم عن بُعد يجب أن تتعاون فيه عِدة قطاعات ولا نلوم قطاع التعليم فقط، فلن ينجح التعليم عن بُعد دون وجود تدفقات عالية للانترنيت، ودون وجود شبكة واسعة تُغطي كلّ المناطق السكنية ودون وجود أجهزة حماية لمنظومتنا العلمية والشخصية والفكرية، والأكثر من هذا لن يتحقق التعليم عن بُعد مادام سِعر الهاتف الذكي أغلى من راتب المُوظف الجزائري (وليس الطالب الجامعي).

* زينب فريح/أستاذة العلوم السياسية بجامعة البليدة02
 الجائحة طرحت "التعليم عن بُعد" كبديل والعالم العربي خارج السياق الرقمي
أدى COVID-19 إلى إغلاق المدارس في جميع أنحاء العالم. فمباشرةً بعد إعلان حالة الطوارئ، وتبنّي عديد الدّول في العالم الحجر الصّحي كحل وحيد للتّصدي لفيروس كورونا المُستجد، وجد أكثر من مليار ونصف طالب أنفسهم خارج حجرات الدّراسة. على الصعيد العالمي، وحسب إحصائيات منظمة اليونيسكو يُوجد أكثر من 1.2 مليار طفل خارج الفصول الدراسية. نتيجة لذلك، تغير التعليم بشكلٍ كبير، وطُرِح "التعليم عن بُعد" كبديل، وبرزت إلى الواجهة العديد من منصّات التعلم عبر الإنترنت التي تُوفر وصولاً مجانيًا إلى خدماتها، بِمَا في ذلك منصّات مثل BYJU’S، وهي شركة تكنولوجيا تعليمية (هندية) تأسست في عام2011، وهي الآن الشركة الأكثر قيمةً في العالم في مجال تكنولوجيا التعليم.
كما برزت أنظمة التعلم عبر الإنترنت التي تحتوي على ميزات مثل غُرف الدردشة واستطلاعات الرأي والاِختبارات ومنتديات المُناقشة والاِستطلاعات التي تسمح للمعلمين والطُلاب بالتواصل عبر الإنترنت ومشاركة محتوى الدورة جنبًا إلى جنب. ومن أشهر هذه الأنظمة التي بدأت تستخدمها المؤسسات التعليمية: Microsoft Teams وGoogle Meet وEdmodo وMoodle كنُظُم إدارة تعليمية جنبًا إلى جنب مع تطبيقات مؤتمرات الفيديو الشائعة الاِستخدام: Zoom وSkype for Business وWebEx وAdobe connect إلخ.
في ظل هذه الحركية والميزات التي يُوفرها التعليم عن بُعد وجدنا أنفسنا كعالم عربي خارج السياق الرقمي. فكيف يُمكننا مُمارسة هذا النوع من التعليم في غياب بنيات تحتية مُلائمة، وتكوين تربوي وتعلمي جديد، واستعداد نفسي واجتماعي وثقافي مُختلف، لدى طرفي العملية التربوية، يجعل إمكانية الاِستفادة من هذه التجربة مفيداً، ومُحققًا للغاية؟ لقد ظل تعليمنا العربي يقوم على أساس تقديم المعلومة على تحصيل المعرفة، والتلقين على التفاعل، ولذلك لم نطور تجارب بيداغوجية وتعليمية لنمط آخر من التعليم، يمكن أن يكون تمهيداً للتعليم الرقمي. لم نتطور في صناعة البرمجيات، ولم نأخذ بأسباب الطُرق التربوية المتصلة بالوسائط الجديدة. لم نستوعب جيداً أنّ وسيطًا جديداً للتواصل يفرض تعليمًا جديداً، ومنظوراً جديدا للتربية. لذلك فإنّ كلّ ما قُمنا به ونحن نحاول توظيف التكنولوجيا الجديدة للمعلومات والتواصل هو، أنّنا نشتغل بذهنية قديمة في بيئة جديدة. فقد صار بعض الأساتذة يُوظِفون تقنيات العارض الإلكتروني، وشرائح الباوربوينت حتّى قبل الجائحة، ولكن بطريقة تقليدية لا تتلاءم مع الوسائط الجديدة لغياب تكوين حقيقي يتلاءم مع متطلبات الحِقبة الجديدة. فالمؤسسات التعليمية غير مُجهزة، والتلاميذ والطُلاب غير مستأنسين بهذا النوع من التعليم. ويمكن قول الشيء نفسه عن الأساتذة، الذين يجتهدون في غياب تكوين دقيق في اِستخدام هذه التقنيات. إنّ المنصّات الجديدة التي تُوفرها التكنولوجيا الجديدة لم يتم التعامل معها إلاّ على أساس أنّها "سبورات" مُختلفة عن السوداء أو البيضاء التقليدية. أمّا المحتوى فهو واحد لم يتغير.
مشاكل التعليم عن بُعد في ظلّ فيروس كورونا اِمتدت لتصل لأشكال التعليم في الوطن الواحد ونقصد هنا التعليم العمومي والتعليم الخاص مِمّا أنتج شرخًا كبيراً داخل المنظومة التّعليمية، ناهيك عن محدودية التّلقي عند الكثير من أبناء الطّبقة الفقيرة والعائلات المعوزّة التّي تسكن القُرى والمناطق النائية، فقضية التّعليم عن بُعد تتعلق أساسًا بالتّوزيع المجالي للبنيات التّحتية الأساسية وتوفير انترنت بجودة عالية وسرعة كبيرة وهو مشكل نعاني منه جميعًا، فالجزائر مثلاً تحتل المرتبة 139 عالميًا والأخيرة عربيًا بـــ1.5 ميجا بايت، مِمَا يستعصي حتّى على سُكان المُدن أن يحظوا باِنترنت مثالي فما بالك بسُكان الريف. إنّ جودة التعلم تعتمدُ بشكلٍ كبير على مستوى وجودة الوصول الرقمي. فما لم تنخفض تكاليف الوصول وتزداد جودة الوصول، فإنّ الفجوة في جودة التعليم، وبالتالي المساواة الاِجتماعية والاِقتصادية سوف تتفاقم.
الحقيقة أنّه بدون ثقافة رقمية، ووعي رقمي، وبيداغوجيا رقمية، ورؤية جديدة للإنسان المُتعلم والمُعلم، وبنيات تحتية تكنولوجية مُلائمة، لا يمكننا الحديث عن "تعليم عن بُعد"، ولا عن تعليم رقمي. لكن وحتّى لا نكون مُتشائمين، فإنّ الجانب المُشرق في الأمر، يَكمنُ في أنّ العديد من التحسينات، والمبادرات، والاِستثمارات التي قد بدأت النُظم التعليمية تتخذها سيكون لها الأثر الإيجابي طويل المدى. ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر، زيادة المهارات الرقمية لدى المعلمين. ويجب أن تُدرك محطات الإذاعة والتليفزيون الدور المحوري المنوط بها في مساندة الأهداف التعليمية الوطنية–ومن ثمّ الدفع كما هو مأمول باِتجاه تحسين جودة برامجها، مع اِستيعابها لِما يُناط بها من مسؤولية اِجتماعية كبيرة. وستزداد مشاركة الأهل في العملية التعليمية لأبنائهم، وستكتسب وزارات التعليم فهماً أوضح للفجوات والتحديات (في إمكانية الاِتصال، والمعدات، ودمج الأدوات الرقمية في المناهج الدراسية، وجاهزية المعلمين) الكائنة في اِستخدام التكنولوجيا بفعّاليّة، وستتخذ إجراءاتها حيال ذلك. ومن شأن ذلك كله أن يُعزز منظومة التعليم المستقبلية.
من الواضح أنّ هذا الوباء قد عطّل تمامًا نظام التعليم (التقليدي) الّذي يُؤكد الكثيرون أنّه كان يفقد أهميته بالفعل. فكما يتساءل الباحث يوفال نوح هراري (Yuval Noah Harari) في كتابه "21 درسًا للقرن الحادي والعشرين"، كيف تواصل المدارس التركيز على المهارات الأكاديمية التقليدية والتعلُم عن ظهر قلب، بدلاً من التركيز على مهارات مثل التفكير النقدي والقدرة على التكيف، والتي ستكون أكثر أهمية للنجاح في المستقبل. هل يمكن أن يكون الاِنتقال إلى التعلم عبر الإنترنت هو الحافز لإنشاء طريقة جديدة وأكثر فاعلية لتعليم الطُلاب؟ بينما يشعر البعض بالقلق من أنّ الطبيعة المُتسرعة للاِنتقال عبر الإنترنت ربّما تكون قد أعاقت هذا الهدف، يُخطط آخرون لجعل التعلم الإلكتروني جزءًا من "الوضع الطبيعي الجديد" بعد تجربة الفوائد بشكلٍ مباشر. إذ يعتقد البعض أنّ نموذجًا هجينًا جديدًا للتعليم، سيظهر بفوائد كبيرة. يقول وانج تاو، نائب رئيس Tencent Cloud ونائب رئيس Tencent Education: "أعتقد أنّه سيتم تسريع دمج تكنولوجيا المعلومات في التعليم بشكلٍ أكبر وأنّ التعليم عبر الإنترنت سيصبح في النهاية جزءًا لا يتجزأ من التعليم المدرسي".

* طارق رداف/أستاذ وباحث أكاديمي -جامعة أم البواقي
 يُمكن للتعليم عن بُعد أن يكون عنصراً أساسياً في الأنشطة البيداغوجية للتعليم العالي
اِنتبهت الكثير من الدول لأهمية التعليم عن بُعد منذ مرحلة التسعينات، سواءً بسبب ظروف سياسية، أو حتّى نظراً للظروف المناخية وغيرها من الأسباب، وفي سبيل ذلك فقد عملت على توفير البنية التحتية الضرورية، من خلال تنسيق العمل بين مجموعة القطاعات، سواءً المتعلقة بتكنولوجيات الاِتصال، أو التربية والتعليم...إلخ.
جديرٌ بالذكر أنّ تجربة التعليم عن بُعد في قطاع التعليم العالي والبحث العلمي، لم ترتبط فقط بالأزمة الوبائية، بل هي مرحلة في مسار تطور بدأ خلال مرحلة التسعينات، من خلال التعليم المُتلفز والّذي نعرفه من خلال نشاط جامعة التكوين المُتواصل، ثمّ التوجه نحو اِستخدام الأرضيات الإلكترونية ومن أبرزها أرضية الموودل Moodle والّذي عملت الجامعة الجزائرية على إدماجه في الأنشطة البيداغوجية، من خلال جعله مرحلة إجبارية في مسار توظيف الأساتذة الباحثين، والذين يتوجب عليهم متابعة دورات تكوين للتحكُم في هذه الأرضية. غير أنّ هذه التجربة بقيت حبيسة الشكليات، حيث لا يتجاوز اِستخدام الأساتذة لهذه الأرضية حدود مرحلة التثبيت في المنصب، أو حدود خطاب عصرنة الجامعة الّذي كرره الكثير من مدراء الجامعات. ولم يعرف التعليم عن بُعد زخماً ملحوظاً إلاّ خلال الأزمة الوبائية التي عرفها العالم، من خلال توجه قطاع التعليم العالي نحو فرض اِستخدام تقنيات التعليم عن بُعد، من أجل مواجهة خطر السنة البيضاء، والسماح بتغطية أكبر حجم مُمكن من المحتوى البيداغوجي.
يُلاحظ على تجربة التعليم عن بُعد في الجزائر، على الأقل ضمن الوضع الصحي الراهن، اِرتباطه بخطاب سياسي أكثر من كونه عنصراً في إستراتيجية جدية، لتحقيق بعض التقدم في قطاع التعليم العالي. ويتأسس هذا الاِفتراض على غياب شبه كلي للتنسيق بين القطاعات المتدخلة في هذا الموضوع، وأهمها قطاع تكنولوجيا الإعلام والاِتصال. فمن العبثي الحديث عن تجربة التعليم عن بُعد، مع ما يُلاحظ من ضُعف شبكة الانترنت، أو حتّى اِنعدام التغطية في بعض المناطق. كما أنّ الجامعة الجزائرية تتعامل مع هذا النظام على أنّه تطبيقٌ لأوامر فوقية صادرة عن الوزارة الوصية، لذلك تتراجع أهمية المحتوى ومدى النجاح في تحقيق الأهداف، أمام هدف الاِلتزام الشكلي للأساتذة، حتّى أنّ بعض الجامعات تأخرت في فتح حسابات للطلبة على الأرضية الرقمية للتعليم. كما نُلاحظ تراجع وتفهم الوزارة أمام ضغط الطلبة، لتقرر أنّ ما يتم إجراءه حضوريًا فقط من الدروس، هو ما يكون معنيًا بالاِختبارات النهائية، وهي خطوة في تقديري تُفرغ التعليم عن بُعد من محتواه.
يُمكن للتعليم عن بُعد أن يكون عنصراً أساسياً في الأنشطة البيداغوجية في قطاع التعليم العالي، متى توفرت الإرادة لجعله كذلك من طرف كلّ أعضاء الأسرة التعليمية. فهو يمكن أن يُوفر المادة العلمية الأساسية للطلبة، خاصةً أولئك الذين لا يتمكنون من حضور المحاضرات بشكل دوري. كما يُشكل فضاءً تفاعليًا يربط من خلاله أطراف العملية البيداغوجية اِتصالاً مُستمراً، يتم من خلاله حتّى تقييم الطلبة بشكل دوري ومستمر. وحتّى تقليص الأبعاد الورقية في الأنشطة البيداغوجية والعلمية، ما يشكل اِقتصاداً للوقت والإمكانات المادية. غير أنّ ذلك يرتبط بتوفر تصور واضح لمُستقبل التعليم العالي، بعيداً عن الخطابات السياسية، وكذلك خطابات الكم على حساب نوعية التعليم. كما أنّ نجاحاً مُحتملاً للتعليم عن بُعد في أداء دوره، يرتبط في تصوري بتوفر إمكانيات إدماج هذه التقنية عبر مُختلف مراحل التعليم بدرجات مختلفة، على الأقل خلال المرحلة الثانوية. وبذلك تكون عملية سهلة وروتينية خلال المرحلة الجامعية، بدل اِعتبارها جهداً إضافياً مُرهِقًا للطالب والأستاذ على حدٍ سواء.

* عبد العظيم بن صغير/عميد كلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة بومرداس
 بديل يضمن اِستمرارية العملية التعليمية
لقد فرضت الأزمة الوبائية العالمية ظروفًا خاصة واستثنائية على العالم بأسره وأدت التدابير والإجراءات الصحية المُعتمدة من الدول إلى التباعد الجسدي ومنع التجمعات الكُبرى في الأماكن العامة والمُغلقة، وكانت المدارس والجامعات إحدى هذه الأماكن التي طالها الغلق مِمَا أعاد طرح موضوع التعليم عن بُعد أو التعليم الاِلكتروني كأحد البدائل التي تضمن اِستمرارية العملية التعليمية وإنقاذ الجامعات والمدارس من شبح السنة البيضاء. ولكن السؤال المطروح: هل الظروف والإمكانيات والوسائل المتصلة بالتعليم عن بُعد، مُتاحة لدى الطُلاب والتلاميذ لمزاولة هذه العملية؟ وهل قامت مرافق التعليم المختلفة بتوفير الأرضيات والمنصّات الكفيلة بإنجاح العملية وتأمينها لضمان تقييم صحيح ومُتطابق؟ وهل هناك ضرورة مستعجلة لتعميم التعليم عن بُعد في الجامعات والمدارس على غرار الدول المُتقدمة لتجنب الآثار السلبية للأزمة الوبائية؟
ففي الحالة الجزائرية مثلاً وللأسف الشديد لم نكن على اِستعداد تام للاِنخراط في التعليم عن بُعد للأسباب التالية: -عنصر المُفاجأة في الجائحة، واضطرار السلطات العمومية إلى الغلق والحجر الصحي العام، ولم تكن لدينا الجاهزية الكافية أو الخبرة المطلوبة في تفعيل التعليم الاِلكتروني عن بُعد. - اِنعدام الثقافة الاِلكترونية والتراكمية المعرفية في مجال وسائط الميديا لدى غالبية المعنيين بالتعليم عن بُعد سواء أساتذة أو طلاب مِمَّا تسبب في تأخر اِنطلاق العملية. - ضُعف الإمكانيات والوسائل التكنولوجية المُسَاعِدة في تفعيل التعليم عن بُعد وخاصة تدفق الانترنت الّذي يُشكل حجر الزاوية في بناء هذه الإستراتيجية. - تأخر الجانب الرسمي في تطبيق مبادئ ومتطلبات وإجراءات الإدارة الاِلكترونية في مختلف الميادين وإدخال تكنولوجيات الإعلام والاِتصال والرقمنة في المجالات الخدمية والتعاملات المختلفة.
إنّ واقع التعليم عن بُعد في الجزائر مرتبط بالظروف العامة التي تمر بها البلاد والتأخر الحاصل في مجال الرقمنة والإدارة الالكترونية وضُعف تدفق الانترنت، ومع ذلك فهو ضرورة مُلحة وأمرٌ واقع يجب الذهاب إليه وفق متطلبات ومعايير الجودة في التعليم والتكوين دون إلغاء التعليم الحضوري الّذي لا يمكن الاِستغناء عنه، لأنّه يُعتبر القاعدة الصلبة في العملية البيداغوجية. أمّا التعليم عن بُعد فيعتبر الدعامة المساعدة لاِستكمال أهداف التكوين وفق مقتضيات الجودة والاِلتزام التام بالمعايير العلمية وأخلاقيات البحث العلمي.
وعليه فالتحديات أو المُعيقات التي تواجه التعليم عن بُعد في الجزائر، واضحة، أبرزها: - ضُعف البنية التحتية لشبكة الانترنت وتزويد مؤسسات التعليم المختلفة بالوسائل الضرورية والبرامج ذات الصلة، بالإضافة إلى عدم إتقان وتعميم اِستخدام اللّغة الإنجليزية من طرف المعنيين كونها اللّغة الأكثر اِستخدامًا في مجال البحوث العلمية وقواعد البيانات العالمية. – مقاومة نسقية لدى قادة المرافق التعليمية، وضُعف الجاهزية لدى أعضاء هيئة التدريس في اِستخدام التكنولوجيا وتمسكهم وتقديسهم التعليم التقليدي الحضوري في القاعات والحجرات المدرسية. - عدم قدرة الطُلاب والتلاميذ على اِمتلاك حواسيب شخصية أو هواتف ذكية عالية الجودة أو لوحات رقمية مُجهزة لهذا الغرض لاِستكمال العملية الاِتصالية بين الأستاذ والطالب، وهذا نتيجة تفاوت المستويات المعيشية. - التحدي مرتبطٌ أيضا بتغيير النظرة للتعليم عن بُعد من الاِلتزام فقط بوضع الدروس على مستوى المنصّات الاِلكترونية (مكتوبة أو سمعية بصرية) إلى التعليم التفاعلي اللحظي الّذي يسمح للطُلاب والتلاميذ والأساتذة بالتواجد في غُرف اِفتراضية على غرار قاعات التدريس باِستخدام وسائط الفيديو وتكنولوجيات الاِتصال المختلفة؟
وخلاصة القول أنّ التعليم عند بُعد هو جزء من كلّ ونجاحه مرتبطٌ بعمليات أخرى يجب أن نُحقق فيها بعض الإنجازات، حتّى نضمن الحد الأدنى من الشروط المُساعِدة لدفع عجلة التعليم عن بُعد نحو الأمام.

* بلال قريب/أستاذ وباحث أكاديمي-جامعة بسكرة
 الدول التي تراهن عليه مستقبلاً هي الدول التي ستكون أكثر صموداً وقوّة
شهد العالم منذ بداية العام، حالة وبائية خطيرة أجبرت البشرية قاطبةً على إعادة النظر في نمط حياتها بشكلٍ كامل، بِمَا اِنعكس بشكلٍ كبير على عِدة جوانب اِقتصادية، اِجتماعية، ثقافية، ورغم أنّ الدول حاولت إعادة نمط حياتها في الجوانب الثلاثة الأولى إلاّ أنّ الجانب الرابع ونقصد هنا قطاع التعليم عرف تأثراً كبيراً بسبب اِنتشار هذا الفيروس الخطير (كورونا) حيث دفع المدارسَ والجامعات والمؤسسات التعليمية لإغلاق أبوابها تقليلاً من فُرص اِنتشاره، هذا الأمر ترك تخوفًا وهاجسًا لدى الحكومات من المخاطرة والمغامرة بأولادها وشبابها وفي نفس الوقت تخوفًا من تأثر قطاع التعليم من التوقف لمدة طويلة بِما ينعكس على التحصيل العلمي في الطورين، كذلك تأثر البحث العلمي بالنسبة لقطاع التعليم العالي. إلاّ أنّ التعليم عن بُعدE-Learningهو السبيل والخيار المُنقذ والّذي دفعت به كلّ دول العالم للتخفيف من الآثار السلبية لجائحة كورونا على التعليم بصفة عامة، وتُعتبر الجزائر إحدى الدول التي راهنت على التعليم عن بُعد من أجل إنقاذ العام الدراسي وكذلك اِجتناب أو على الأقل التخفيف من آثار كوفيد19 على قطاع التعليم، وما ساعد الجزائر على الأخذ بهذا المنحى هو توجه شباب اليوم إلى اِستخدام التكنولوجيا الحديثة خاصة في جانب الإعلام الآلي والهواتف النقالة الذكية شأنها شأن كلّ دول العالم، فاستخدام الانترنت من طرف المؤسسات التعليمية الجزائرية في ظل أزمة كورونا أصبح ضرورة ملحة من خلال اِستخدام تطبيقات مُحادثة الفيديو عبر الانترنت مثل تطبيق زوومZOOM، تطبيق مييتMEET... وغيرها من وسائل التواصل (اِستغلال مواقع التواصل الاِجتماعي للتعليم عن بُعد على غرار الفيسبوك والأنستغرام والواتساب وكذلك الفايبر وغيرهم، بالإضافة إلى اِستحداث إيميلات مهنية أي بريد اِلكتروني مهني يتواصل به الأستاذ مع الطلبة)، وكذلك اِستحداث منصّات على غرار منصة الموودلMOODEL والتي تستخدم من طرف الجامعة الجزائرية في عملية التعليم عن بُعد، لتخطو بذلك الجزائر خطوة نحو التصدي لِمَا قد ينعكس سلبًا على التعليم بسبب الكوفيد19.
على الرغم من أنّ دول العالم اِستطاعت المُراهنة على التعليم عن بُعد لتدارك آثار وسلبيات كوفيد19 على التعليم إلاّ أنّ الواقع في الجزائر في اختيارها لأسلوب التعليم عن بُعد يبقى مُتأثرا بشبكة الانترنت والتي تعرف تذبذبًا كبيراً وفي بعض الأحيان اِنقطاعات متكررة ومتواصلة، مِمَا تسبب في تعطل هذه العملية في كثير من الجامعات الجزائرية بل وأحدث مشاكل كبيرة بسبب عدم تغطية شبكة الانترنت لكثير من المناطق في الجزائر أو ضعفها، مِمَا حرم الكثير من الطلبة من التواصل عن بُعد مع أساتذتهم، وهو ما طرح عِدة إشكالات في تبني هذا المنحى من التعليم عن بُعد. إلاّ أنّه وبالرغم من هذا الواقع والّذي تعرفه الانترنت في الجزائر، تسعى الحكومة الجزائرية إلى التزود بتقنية الألياف البصرية والتي تسمح بالتدفق العالي للانترنت، مِمَا يسمح بإتباع أسلوب تعليم عن بُعد ناجح على كلّ المقاييس.
تعتبر تجربة التعليم عن بُعد بسبب كورونا هي الأولى من نوعها بهذا الشكل في الجزائر، مِمَا يسمح مستقبلاً باِستباق هكذا ظروف وذلك بتوفير كلّ الإمكانيات المادية والبشرية من أجل إنجاح عملية التعليم عن بُعد، إلاّ أنّ هذا الأمر مرهون بمدى اِهتمام صانع القرار بالتكنولوجيا خاصة في مجالها التعليمي وتطويرها والاِهتمام بها ورصد غطاء مالي لإنجاح هذا الأمر وهو ما قد يتقاطع مع اِهتمام الدولة بقطاعات حيوية على غرار القطاع الاِقتصادي، التجاري، العسكري، وكذا الأوضاع الاِجتماعية بصفة عامة، وعلى هذا الأساس وجب توفر النية الحقيقية لدى الجهات الوصية مستقبلاً للاِهتمام بهذا النوع من التعليم ليحل محل التعليم الحضوري في حالات لا قدر الله مُماثلة للظرف الّذي نحن فيه، وأعتقد أنّ الدول التي تراهن على التعليم عن بُعد مستقبلاً هي الدول التي ستكون أكثر صموداً وقوّة، فتطور كلّ القطاعات الأخرى مرهون بالتعليم وإن توقفت عجلة التعليم بسبب فيروسات مختلفة فإنّ الفشل حتمًا سيكون من نصيب الدول التي أهملت تقنيات وتكنولوجيات التعليم عن بُعد.
في حقيقة الأمر يبقى التعليم الحضوري مُهمًا جداً في ظل الظروف العادية، نظراً لِمَا له من إيجابيات على المنظومة التعليمية ككل ولِمَا له من مخرجات إيجابية تمس كلّ جوانب الحياة، إلاّ أنّ التعليم عن بُعد يبقى إستراتيجية مهمة قد تحل محل التعليم الحضوري وقد تكون سلاحًا تلجأ إليه الدول إذا تطلب الأمر ذلك وربّما مدى الحياة إن كانت هناك مخاطر على الإنسان، وحتّى يمكن اِعتماده مدى الحياة دون وجود أي مخاطر إن أرادت الدول ترشيد نفقاتها الضخمة على قطاع التعليم، خاصةً إذا كانت تلك الدول فقيرة ولا تسمح لها ميزانيتها بالإنفاق على التعليم، ليبقى التعليم عن بُعد إحدى الحلول المقترحة مستقبلاً إن أكد نجاحه في الظرف الحالي.

سمية أوشن/أستاذة العلوم السياسية -جامعة قسنطينة03
 التعليم الإلكتروني وسيلة مكملة وليست بديلة وتجربة الجزائر تستحق الدعم أكثر
جائحة كورونا التي تُهدد العالم الآن فرضت الكثير من التحوّلات وفي مجالات عِدة منها مجال التعليم، مِمَا أدى إلى التعامل بآلية جديدة للمواكبة والتواصل ما دفع بالمؤسسات التعليمية للتوجه نحو التعليم الإِلكتروني (E-Learning) كبديل طال الحديث عنه وكثر الجدل حول ضرورة دمجه في العملية التعليمية.
واستجابت الجزائر كغيرها من الدول لهذه التغيرات وبهذا دخلت الجامعة الجزائرية عهداً جديداً لم تعرفه من قبل وهو التعليم الاِلكتروني، باِعتباره البديل الأنسب لضمان اِستمرارية العملية التعليمية. ويعتبر هذا الوقت مثاليا للبدء في الترويج لأنماط بنّاءة في التعليم الجديد لأنّ وقت التغيير قد حان، ولهذا فإنّ أفضل البدائل هي الفصول الاِفتراضية أو الذكية وهي عبارة عن غُرف إِلكترونية تُتيح التفاعل بين الأطراف المعنية أي المُعلم والمُتعلِم من خلال ما يُسمى بالإدارة الإلكترونية بحيث يكون التفاعل إمّا تزامنيا أو غير تزامني، وهذا عبر العديد من التطبيقات سواء المنصة الإلكترونية(Google Classroom)، أو عن طريق الفيديو (Google meet)التي طُبقت بصورة واسعة في الجامعة الجزائرية خلال هذه الفترة، وكذلك هناك من الأساتذة من اِستخدم تطبيق Zoom وأيضا YouTube لعرض فيديوهات توضيحية مثلما هو الحال ببعض الكليات في جامعة المسيلة، أدرار... ورغم تنوع وتعدّد التطبيقات إلاّ أنّ بعض الجامعات اِكتفت فقط بوضع محاضرات على موقع الكلية الإلكتروني وهذا ما يحرم الطلبة من التفاعل والاِستفسار وفهم الموضوع أكثر.
إلى جانب ذلك تمَّ اِتخاذ العديد من التدابير المُتمثلة في التنسيق مع وزارة الاِتصال من خلال بث العديد من الدروس التعليمية والحصص والبرامج ذات العلاقة فيما يُسمى بالأرضيات الرقمية، كذلك تمَّ التنسيق أيضا مع وزارة البريد والمواصلات السلكية واللاسلكية لتحسين الوصول الرقمي من خلال تقديم تسهيلات للطلبة للولوج إلى المنصّات الرقمية والمواقع التعليمية مجانًا.
كذلك تنوي وزارة التعليم العالي والبحث العلمي تعزيز قدرات الشبكة الوطنية للتعليم والبحث لتواكب أنظمة التعليم العالي الدولية وتستجيب للاِحتياجات الجديدة التي برزت خلال هذه الفترة الاِستثنائية، وهذا عبر التنسيق مع وزارة البريد والمواصلات السلكية واللاسلكية وأيضا وزارة الرقمنة والإحصائيات ببناء شراكة مُستدامة وفعّالة، وبالتالي فإنّ التعليم في الجزائر سيشهد تحولاً رقميًا اِستجابةً للتحديات التي يعرفها القطاع جراء جائحة كورونا.
إنّ ظروف الأزمة الحالية تمنحنا فرصًا من أجل اِستخدام تكنولوجيا أكثر تطوراً ومرونة وتطبيق تقنيات جديدة ربّما ما كنا لنطبقها في ظروف الرخاء واليُسر والحياة التقليدية الروتينية وبالتالي هي فرصة لكسر النمط الاِعتيادي في التعليم الّذي اِستمر لعقود طويلة. ولهذا فإنّ التعليم عن بُعد أمر مطلوب وتجربة الفصول الاِفتراضية قد اِستحسنها الكثير إلاّ أنّها لم تُحقق مبدأ تكافؤ الفُرص، ولسوء الحظ –وإن كان ذلك غير مقصود- فإنّ الأشخاص الذين لا يملكون اِتصالاً سهلاً بالإنترنيت سيصبحون أكثر حرمانًا، وستكبر معضلة التواصل عبر الإنترنيت إذ ستخلق مسافات أكثر وتواصلاً أكثر تعقيداً في الوقت ذاته، فهناك العديد من النقائص التي من المُمكن أن تحول دون تحقيق الأهداف المُنتظرة، ما يجعل التعليم عن بُعد وسيلة مكملة وليست بديلة خلال فترة ما بعد كورونا.
وعليه فإنّ التعليم الإلكتروني في الجزائر تجربة تستحق الاِهتمام والدعم أكثر، ومن أجل ذلك فإنّه ينبغي تطوير الرقمنة وشبكات الاِتصال، فهذا لن يسمح بتطوير القطاع فحسب بل سيساهم كذلك في تنمية البلاد.

الرجوع إلى الأعلى