مرت فترة الحجر المنزلي بأشكال مختلفة، وكلٌّ حسب فلسفته وطريقته في قضاء واستثمار أوقات الفراغ المفروضة حسب درجة وتوقيت الحجر. لكن المُلاحظ أنّ شغف القراءة كان لافتًا لدى فئات كبيرة وكثيرة من النّاس، خاصة لدى المثقفين والكُتّاب والإعلاميين. فهل يمكن القول أنّ الوباء أنعش شغف القراءة، أو أعاد مجد القراءة ووهجها. وهل كانت القراءة/المطالعة الطريقة الأمثل للتعامل مع يوميات الحجر المنزلي؟ هل كانت علاجاً حقيقيا من أثار أو تبعات الحجر، هل كانت ملاذا ومتنفسا وهل يمكن النجاة بفضلها من حالات المكوث الاِضطراريّ والمفروض في البيت.
إستطلاع/ نــوّارة لحــرش

* نصيرة محمّدي/شاعرة وأكاديمية
 الجائحة أعادتني إلى رائحة كُتبي القديمة
منذ تفشي الوباء، كوفيد19 والعالم يعيش فترة حرجة وحساسة وغريبة أفصحت عن هشاشة الإنسان، وتخبطه منذ آلاف السنين في محاولة التحكم في قِوى الطبيعة ومآسي الأمراض والحروب والفقر والجهل. كان العِلم هو الطريق دائمًا لإضاءة الطريق، وتجاوز عقبات الحياة وأهوالها، حيث الإيمان بقدرة العقل البشري على العمل والاِختراع والتحدي والخروج من المِحن والكوارث والمطبات التي عاشها وتكبدها على مدار التاريخ. كان الوباء صادمًا لنا جميعًا، ومُحيراً ومخيفًا في ذات الوقت، حيث شَكَّل هزةً عالمية قُصوى شُلت فيها كلّ أشكال الحياة، وقوضت المفاهيم واليقينيات التي كانت تعني القوّة الاِقتصادية والتطور التكنولوجي، والبحوث العلمية المتقدمة، واِمتلاك كلّ الأدوات والوسائل لتسيير العالم وبرمجته بمرونة وذكاء. كلّ ذلك أصبح من الماضي، ولم يعد مُمكنًا مجابهة «عدو» لا مرئي يحصد أرواح الآلاف من البشر، وينسف الحياة على بكرة أبيها كما يُقال.
إنّ حالة الطوارئ التي شهدها العالم، المرفوقة بالهلع والعجز عن التحكم في هذا العدو المجهول هي الصورة الأكثر قتامةً في عصرنا نحن الذين أُجبرنا على الحجر الصحي واِتخاذ تدابير قاسية للوقاية حفاظا على أرواحنا. تجربة تعتبر الأقسى بالنسبة لأجيال جديدة اِعتقدت أنّ زمن الأوبئة ولى، وأنّ العِلم والطب وصلا إلى أعلى المراتب التي تحمي وجودنا وصحتنا. صارت الصحة هي الهاجس المركزي في تفكير البشرية، وساوى الوباء بين الجميع: الدول المتقدمة والفقيرة، الأغنياء والفقراء، العلماء وذوي التكوين البسيط. الكُل عاجز ومُستلب من طرف فيروس لعين. الكُل معنيٌ بجسده والتكفل بحمايته والحفاظ عليه وممارسة التخفي في حجرٍ منزلي طال أمده، وفرض قيوداً قاسية على نمط حياتنا وتفكيرنا، واِهتماماتنا ومشاغلنا. صار المنزل هو الملاذ والحصن والمأوى الّذي يُبقينا مُؤَمَنِين نسبيًا. اتباع تدابير يومية ودقيقة في النظافة والتباعد الجسدي، واِرتداء الكمامة في حالات الخروج الاِضطرارية التي نكفل بها قُوتَنا وزادنا في أيّام صعبة وسوداء لا يُضيئها إلاّ خيالٌ مُتحرّرٌ وبيتٌ مريح وكثيرٌ من أشكال الفن التي تقتل غربتنا ووحدتنا ومواجهتنا للموت. الكثير اِنغمس في الطبخ، والأفلام ومواقع التواصل لتقليص مساحات العزلة الاِضطرارية، ومحاولة العودة ثانيةً وبشكلٍ إجباري إلى الحياة العائلية، وتأمّل العلاقات التي بُتِرَت بفعل العمل والركض وراء الخبز، والظروف الاِجتماعية والاِقتصادية المزرية التي تعيشها مُعظم المجتمعات العربية المُكبلة بالفقر والاِستبداد والجهل. بالنسبة إلي حاولت تجاوز الصدمة الأولى وغرقتُ في عوالمي المُعتادة. العزلة التي فرضتها على نفسي من أجل القراءة والكتابة ومرافقة فنونٍ أخرى تُشكل توازنًا لرّوحي ووجداني؛ الموسيقى، التمتع بالفنون التشكيلية والأفلام والمسرح. لكن الكِتَاب هو الجوهر في يومياتي. تتعلقُ بصداقات تمنحك جرعة للثقة في الحياة، ومحاولة الاِستمرار بالقليل من الصفاء والضياء والعُمق الّذي يلمع في وجدان بشر قريبين منك، مثلما يلمع في الكُتب. صداقة الكُتب أزلية تُخفف الصدمات والجروح، وتُمارس عملية تطهير كما يقول أرسطو. قرأتُ تقريبًا كلّ ما كتبه الفلاسفة عن الوباء، عدتُ إلى أعمال روائية كُتبت عن الأوبئة: كامي، سراماغو،... عدتُ إلى بورخيس أيضًا وشيزاري بافيز، ورامون خيمنيث، وكوفيد وأصدقائي الصوفيين. كلُّ كتابٍ هو تجلٍ، ورحلة طيران تحملك إلى الأعالي. اِنتابني الضجر، وأحسستُ بفقدان اللّغة. تصوري عالمًا بدون لغة. سَتَعين وتعرفين معنى اليتم والبؤس البشري الّذي لا يتسع إلاّ بالحب حتّى نستعيد قدرتنا على مُمارسة الحياة، وعلى قول أشياء كثيرة. ستتسع دواخلنا، وسيتقزم هذا العدو اللعين. أشتاق البحر كثيراً.. أشتاق الأشجار. أشتاق رؤية القِطط تملأ الشوارع والحياة. أشتاق المطر وكلّ الشتاءات التي مرت علي. ما يحدث أن نراه ونقبض عليه يحدث كعملية خطف لكلّ الجمال المتروك داخلنا وخارجنا. لم أشترِ كُتبًا منذ أشهر، ولكني عدتُ إلى رائحة كُتبي القديمة الفوضوية المُشتتة بين بيرين وآلجي. وبين ضفاف الرّوح اللامتناهية. أنام كلّ ليلة على كِتاب يسقط من يدي كما يسقط حبيب من المجهول.

* بوداود عميّر/كاتب ومترجم
 الحجرُ أتاح فرصة لا تُعوّض للقراءة
أتاح الحجر المنزلي بسبب تفشي جائحة كورونا، فرصةً لا تُعوّض للقراءة، لنفض الغُبار عن كُتب أهملناها لسبب أو لآخر، لكُتب لم نُكمل قراءتها أو قرأناها على عجل، قراءةً عابرة، ولأخرى أجّلنا قراءتها. كلّ ذلك بسبب ضغط الوقت واكراهاته، وبسبب اِلتزامات اِجتماعية ومهنية؛ ذلك لأنّنا لم نعد كما قال الفيلسوف الفرنسي إدغار موران «عرضة للوقت المُبرمج؛ الآن نقوم بفعل ما يجعلنا سعداء اللحظة، تلبية لرغبة داخلية، وليس رضوخًا لإملاءات الزمن الاِجتماعي». ظاهرة الإقبال الكثيف على القِراءة أثناء الحجر المنزلي، بدت جلية أكثر من أي وقتٍ سابق؛ اِنتقلت في الغرب إلى مرحلة أخرى، لم تنحصر في قراءة المُؤجل والجديد فحسب، ولكن خاصة قراءة الأعمال الكلاسيكية أو إعادة قراءتها، رغم ضخامة حجم بعضها، أو بسبب ذلك؛ بحيث باتت تُشكل ما يُشبه التواصل الحميمي بين الأجيال، من خلال اِكتشاف كُتب سبق لهم أن قرؤوها ذات مُراهقة، أو سياق تاريخي، أو مرحلة عمرية، مُختلفة تمامًا عن الراهن «ستحقق متعة لا تُضاهى، وأنت تقرأ ولأوّل مرّة كتابًا كبيراً، في سن النُضج»، يقول الكاتب الإيطالي إيطالو كالفينو في كِتابه الموسوم: «لماذا يجب أن نقرأ الأعمال الكلاسيكية؟» نقرأ كِتابًا كبيراً، كما لو أنّنا نزور متحفًا.
يُفسّر أصحاب المكتبات، الظاهرة، بأنّ القارئ من وراء إقباله على الأعمال الكلاسيكية، يطمح إلى تحقيق قيمة مُضافة مضمونة، من جهة؛ ومن جهة أخرى في سعيه إلى محاولة فهم ما يحدث الآن، خاصةً من خلال قراءته لأعمال أدبية تناولت الأوبئة كهواجس إنسانية، ومن هنا يأتي السر من وراء الاِهتمام بأعمال بعينها كرواية «الطاعون» لألبير كامو، أو رواية «الخيّال فوق السطح» لجان جيونو. الكاتب البيروفي المعروف ماريو فارغاس يوسا في حوار أُجري معه حديثًا، اِعترف بأنّ الحجر الصحي أفاده كثيراً «منحني مُتسعًا من الوقت، لكي أقرأ أكثر من أي وقت مضى، عادةً كنتُ أشتغل كثيراً في الفترة الصباحية، وكانت لي دائمًا لقاءات صحافية ومقابلات. أمّا الآن، لا أحد يأتي، هكذا يمكنني أن أقرأ عشر ساعات في اليوم! تقريبًا أنهيتُ قراءة (الحلقات الوطنية) للكاتب الإسباني بيريز غالدوس وهو عملٌ ضخم، يقع في24 مجلدا».
وحتّى عندما تقرّر غلق المكتبات في فترة معيّنة من الحجر، كانت فرصة سانحة لعودة النّاس إلى مكتباتهم الخاصة داخل بيوتهم، لينفضوا الغُبار عنها، لترتيب كُتبها والنهل من معينها. الكثير من الكُتب اِشتريناها أو أُهديت لنا، وتركناها مُهملة ومنسية دون قراءة. وعندما أُعيد فتح المكتبات من جديد، سارع النّاس إلى قراءة الأعمال الجديدة، وحسب الإحصائيات، اِزداد حجم الإقبال على شراء الكُتب، بالمقارنة مع السنوات الماضية، وبقيت وتيرة الإصدارات الجديدة تقريبًا نفسها، رغم الأزمة الصحية. هكذا يبدو أنّ الحجر الصحي، أعاد الإنسان إلى صوابه ووعيه، دفعه إلى التفكير قليلاً في أشياء جميلة اِفتقدها، وأخذ بمرور الزمن يتخلى عنها، بإرادته أو دون إرادته، اِستفاق فجأةً أمام الضرر الجسيم الّذي أحدثه في البيئة، وبدأ الجوّ يخلو أو يكاد من مظاهر التلوّث. الكِتاب أيضًا مثل البيئة، عاد إلى الصدارة، وسط هذه الظروف الاِستثنائية، كملاذ، كرفيق وخير جليس في الأنام.

* بومدين بلكبير/ روائي وأكاديمي
الجائحة أنعشت القراءة ومُطالعة الكُتب بشكلٍ غير مسبوق
الكوارث والأزمات التي تمرّ بتاريخ الإنسانية ليست كلّها شرًا خالصًا كما يعتقد الكثير من النّاس! بقدر ما يمكن أن يتعلم منها الإنسان ويكتسب من خلالها تجارب لم يختبرها من قبل؛ فهي علاوةً على ما فيها من مآسٍ ومخاوف قد تمنح فرصة يتعرف بواسطتها الفرد على نفسه ويكتشف العالم المحيط به بشكلٍ أكثر عمقًا وصدقًا، بعيدًا عن الزيف وعن التوصيفات النمطية والجاهزة.
وعلى هذا الأساس يمكن القول أنّ جائحة كورونا (كوفيد19) على مخاطرها وتهديداتها الكبيرة لها أيضًا بعض النتائج والفُرص الإيجابية؛ فقد أتاحت يوميات الحجر الصحي لدى فئة واسعة من البشر العودة إلى مُمارسة نشاطات وهوايات وطقوس كانوا فيما سبقها لا يجدون لها الوقت، فقد كان الوباء لدى كثيرين بمثابة فترة جيّدة وفرصة ممتازة للتواصل بين أفراد الأسرة، فضلاً عن أنّ هناك من اعتبرها فترة مناسبة للتأمل ولممارسة الرياضة ومتابعة الأفلام والقراءة والمطالعة والكتابة، وغيرها من الهوايات والنشاطات التي كان الإنسان لا يكاد يجد لها وقتًا في زحمة يومه.
ويعترف العديد من الكُتّاب والفلاسفة بأنّهم شعروا ببعض الاِرتياح من تجربة الحجر الصحي والإغلاق العام، فالعزلة المنزلية منحت لهم فرصة كبيرة لقراءة الكُتب المتراكمة على رفوف مكتباتهم، أين كانوا يتحيّنون الفرصة لقراءتها وسط مشاغلهم وارتباطاتهم ونشاطاتهم الثقافية والأكاديمية. وكانت القراءة والتأمل بالنسبة لهم بمثابة متنفس من أثار وتبعات الجائحة؛ وعلى سبيل المثال لا الحصر يُخبرنا الروائي العالمي ماريو فارغاس يوسا (الحائز على جائزة نوبل للآداب) أنّه بسبب الجائحة تمّ إلغاء الفعّاليّات، وتوقف الصحفيون عن إزعاجه، وكان لديه الوقت للعودة إلى الكُتب التي أثرت به بشدة، مثل «الحرب والسلام» لتولستوي أو «يوليسيس» لجويس، حتى أنّه أعاد قراءة العديد من الكُتب الأخرى التي سبق وقرأها قبل زمنٍ طويل.
الكُل يعرف أنّه من جراء تطبيق إجراءات الحجر الصحي التي يُراد منها وقف اِنتشار الوباء، تمّ إجبار المكتبات الخاصة والعامة (مكتبات بيع الكُتب والمطالعة)، في أغلب دول العالم، على إغلاق أبوابها، ومن اللافت أنّ هذا القرار لم يُؤثر على الشغف نحو القراءة والمطالعة كملاذ أثناء الحجر، ولإتاحة وقت مفيد ومُثمر ومُمتع أثناء العزل الصحي، وكذلك من أجل قضاء وقت يكون بمثابة علاجٍ غير مُباشر من هذه الأزمة. وعلى هذا الأساس اِنتعشت القراءة ومطالعة الكُتب بشكلٍ غير مسبوق خلال فترة الجائحة.  
الأمر الّذي حفّز العديد من المكتبات الخاصة ومتاجر بيع الكُتب، على أن تواصل نشاطها التجاري أثناء الحجر المنزلي عبر توصيل الكُتب للزبائن في بيوتهم بدلاً من البيع المباشر. وفي هذا الصدد أعلنت سلسلة مكتبات واترستون (الأشهر في المملكة المتحدة) أنّ مبيعات الكُتب عبر الإنترنت اِرتفعت 400%، خاصةً فيما يتعلق بالروايات الأشهر والأكثر مبيعًا. فضلاً عن ذلك، حفّز اِنتعاش القراءة ومطالعة الكُتب عدداً من المكتبات والشركات ودور النشر كجامعة كامبريدج وجامعة أوكسفورد وأكاديمية JSTOR ومكتبة الإسكندرية على فتح أرشيفها (وثائق ودراسات ومجلات، وكُتب مرجعية وأدبية وعلمية وترفيهية إلكترونياً) ليكون مُتاحًا وفي متناول القُراء عبر مواقعها الإلكترونية وتطبيقاتها. علاوةً على ذلك عرضت شركة أمازون المعروفة مجانًا مجموعة ضخمة من الكُتب (المسموعة بلغات عِدة للفئات العمرية المختلفة). كما طرحت أيضًا الكُتب الإلكترونية للتحميل مجانًا للزوار على الإنترنت من قِبل غوغل، ومكتبة الكونغرس الإلكترونية، والمكتبة المفتوحة، ومشروع غوتنبرغ وسماش وردز، وأرشيف الإنترنت، ومكتبة سمبولز، ومنصة بوك باب، وموقع ماني بوكس، ومحركات البحث العربية عن الكُتب «كتبجي» و»رشف».
وقبل عِدة أيّام اِفتتح الأديب البيروفي، ماريو فارغاس يوسا مهرجان برلين الدولي للآداب (ILB) في دورته الـ20 قائلاً إنّه يريد أن «يشبع المجتمع بالأدب»، مؤكداً أنّ «الأدب صُنع لأوقات عصيبة، مثل تلك التي نمرّ بها».

* محمّد الأمين بن ربيع/ كاتب روائي ومسرحي
 وجدنا أنفسنا وجهًا لوجه مع مكتباتنا حيث لا مهرب لنا منها إلاّ إليها
اِرتبطتُ بالكِتاب منذ طفولتي، وانجذبتُ إلى مكتبة البلدية الموجودة في المدينة، فدأبتُ على زيارتها باِنتظام مساء كلّ اِثنين وخميس، أمضي ساعتين داخلها، أحمل كِتابًا وأعيد آخر، كنتُ أحب الكُتب القديمة ذات الأوراق الصفراء، كنتُ أظنها تُخبئ أسراراً لا يعرفها أحد من أقراني، لذا كنتُ أطالع أجزاء منها وأتباهى كلما قابلتُ الأصدقاء في المدرسة، رغم أنّ بعضهم كان يبدو لهم حديثي مُملاً وأنا أغوص في سرد بعض التفاصيل التي قرأتها والكثير من التفاصيل التي تخيلتها. لم يكن الكِتاب مُتاحًا للجميع وكثيراً ما كان بعيد المنال، متحصنًا في مكتبة يُسيّرها موظف صارم يفرض الصمت على كلّ الموجودين في حرم المكتبة، لذا كان اِرتياد المكتبة أمراً مُستبعداً وقتها. لكنّ الكِتاب اليوم خرج من حرم المكتبة ودخل الحاسوب والهاتف، وانتقلت مضامينه من الورق الأصفر وحتّى من الورق الصقيل إلى الصفحات الاِلكترونية وحتّى الصيغ المسموعة، وصار الكِتاب مشاعًا للجميع لمن رغب فيه وسعى إليه، ولمن لم يسع إليه، وصار رفيق السهر والسفر والوحدة والحجر.
اِقتنيتُ كُتب مكتبتي بعناية فائقة، كنتُ أختار في كلّ مرّة ما يُشبهني ويضيف لي، ولا أشتري كِتابًا إلاّ وأنا مُوقن من قراءته والاِستمتاع به، فيعز عليّ أن أركن الكِتاب على الرف بعد قراءته، ثمّ لا أعود إليه مُجدّدا، وذلك ما كان يحدث مع الكثير من الكُتب، لكن الأشهر الماضية التي كانت الإطار الزمني لتفشي وباء كوفيد19، وبسبب الحجر المنزلي، وجدتني وجهًا لوجه مع مكتبتي لا مهرب لي منها إلاّ إليها، أعيدُ ترتيب الكُتب وتفقدها ونفض الغبار عنها، ثمّ أنخرط في مصاحبة الكِتاب الّذي أحمله بين يدي وأقلب صفحاته مُحاولاً تذكّر ما أعجبني فيه، فأجدني وقد اِستويتُ جالسًا وأتيتُ على صفحات الكِتاب أقلّبها قارئًا مضامينها. غير أنّني في هذه المرحلة من الحجر المنزلي كنتُ اِنتقائيًا أكثر وأنا أختار ما أقرأ، فقد غدوتُ أكثر ميلاً إلى الكُتب النقدية بخاصة النقد السينمائي، والكُتب الفلسفية بخاصة الفلسفة الإسلامية، وانتبهتُ إلى أنّني أقرأ مثلاً كِتاب «آراء أبي بكر بن العربي الكلامية» وكأنّها المرّة الأولى، واكتشفتُ أنّ ذلك من أثر خلفية التلقي التي رافقت قراءتي، وتكرّر الأمر مع أكثر من كِتاب، إلى درجة أنّني وجدتني مُستمتعًا بكتب صنفتها على أنّها غير مُمتعة حين قرأتها سابقًا، ولعلّ الأمر مرتبط بنوع من التصالح مع النفس بسبب العزلة المفروضة قسراً، وصفائها من الضغط اليوميّ الّذي كُنا نعيشه مع كثرة الاِلتزامات اليومية وتراكماتها المرهقة، واقتناعنا أنّ الحياة أبسط من أن نأخذها على محمل التعقيد، وأنّ بإمكاننا خلق فسحة داخل كِتاب صغير، لننعتق من راهن موبوء إلى عالم كبير نُشكّل تفاصيله بالكيفية التي تبث فينا الطمأنينة.

* محمّد خطاب/كاتب وناقد وأكاديمي
 الجائحة ساهمت في تجديد المسافات بيننا وبين الكُتب
مع جائحة كورونا تغيرت بعض الحدوس التي تتغذى دائمًا على القادم. المرض أقلق الأكثرية لأنّه تهديدٌ لتفاصيلهم، لم يكن الموت مُرعبًا بقدر ما كان الحجر الملزم بالبقاء وانسداد الحُلم بالآتي. وحتّى هذه اللحظة صارت الحياة في كلّ تقلباتها مفتوحة على الصدمة أو الصدمات المجهولة. ما دام هذا الوباء تسلل إلى وعينا وأحدث هذا الاِنقلاب فلا شيء يستطيع أن يمنع المخيلة من حدوث ما هو أفظع.
القراءة للنخبة زمن الجائحة ليست شيئًا يُثير الاِنتباه، ما يُثير هو طبيعة القراءة وتناول الحياة في شقها العميق والداخلي والواعي. القراءة ليست واحدة بالنسبة للجميع مع أنّها فِعلٌ يتكرر للجميع. هي تجربة خاصة، وأنا أضعها ضمن حدود التجربة الخطيرة التي تُغير حياة الإنسان. الغريب حين تكون منفصلة في وعي المثقف عن حاجاته الأخرى، هنا تبدو القراءة ترفًا أو حاجة فرضتها أسبابٌ خارجية، مثل الوباء في هذه الحالة. حين تكون القراءة فِعلاً مُستقلاً عن جسد المُثقف فهي زينة وتبقى مجرّد فِعل عضلي لا علاقة له لا بالتغيير المُفترض حدوثه في التجربة الفردية والعامة، ولا بالثقافة كظاهرة وجودية متآلفة مع طبيعة الأشياء.
متى يمكن أن تكون القراءة فاعلة؟ ومتى تبقى القراءة تجربة غير منفصلة عن حياة المثقف؟ هذا يعود إلى تصورنا عن الحياة وعما يدور حولنا. عادةً ما علمتنا المؤسسات فِعل القراءة كحدث مُنفصل (لا تغرنا تجارب القارئ العربي الصغير وجوائز القراءة) هذه كلها تحفٌ وزينة على الموائد، أتحدث عن القراءة كحقيقة ترتبط بوجودنا اليومي: مثلما نأكل ونشرب وننام. تتحوّل إلى حاجة بيولوجية، نعم إلى تجربة جسدية حقيقية. ثمّة يمكن أن نتحدث عن تغيير قادم قامت به القراءة، لأنّ قراءة الزينة تراكم الورق (مذكرات وبحوث ومقالات ومجلات وغير ذلك) ولكنّها لا تصنع وعيًا ولا تُؤثر في المخيال الّذي يحرك المجتمعات.
ساعدت الجائحة على الوقت ونظمت بكيفية لا إرادية تجربة القراءة. الأهم في ذلك أنّها دفعت بالرّوح إلى ما يختفي وراءها (هناك ظاهرة التذكر للكُتب التي لم تُقرأ بعد، ففعل الزمن في المُثقف أنّه كان يتتبع الجديد مُستغرقًا وقته في الميديا، صار الوباء بِمَا يلزم داخل الحجر بالاِلتفات إلى الوراء أو تجديد ماء الذاكرة) وهذا يجعل المكتبة تتنفس روحًا جديدة كلما اِلتفتنا إليها. العودة إلى الكِتاب في حد ذاته حدثٌ كبير يُعيد علاقة المُثقف بمساحته التي أُسميها مساحة الصمت والعزلة وليست مساحة الصخب والسيلفي والإعلانات. القراءة الحقيقية تحدث في صمت وتشرب من ماء الحياة بقوّة وببطءٍ يليقُ بمقامها، لأنّ هذه القراءة هي تحوّلٌ وثورة وقيامة جديدة في عالم المعنى والتجربة والقيم والإنسان بشكلٍ خاص. الوباء ساهم في تجديد المسافات بيننا وبين الكُتب وحتّى القراءة على الحاسوب أو اللوحات الذكية والهواتف صارت هي أيضا داخلة في خبرتنا بالوجود ولا يمكن نفي ما تُقدمه التقنية للوعي البشري.
هل سيستمر وضع القراءة كما فرضه الوباء؟ هل يمكن العودة للكسل الثقافي المعهود؟ تفاصيل الحياة تشبه المسرح السحري، كلّ ما نراه هو مجرّد وهم خالص، نصدق الوهم لأنّنا كائناتٌ هشّة وضعيفة ونحتفظ دائمًا بحصة فرح نأمل بها عمراً مديداً. لذلك القراءة الحقيقية هي قبل الوباء وأثناءه وبعده ومع كلّ وباء سوى الموت. تبقى القراءة هاجسًا حقيقيًا للتغيير والاِنتقال وتبديل العوالم. إنّها سفرٌ حقيقي لا تتيحهُ أي وسيلة أخرى، سفرٌ بالداخل وبالخارج معًا.

* عابد لزرق/ناقد وأكاديمي
 من الطبيعي أن يتصاعد فِعل القراءة بين النّاس خلال الحجر
يُعيد الوباء تشكيل علاقة الإنسان بمحيطه وبيئته ويدفعه إلى التساؤل ويُوقعه في براثن الحيرة والقلق بوصفه ظاهرة مرضية طارئة على البشرية، ثمّ تتشكل داخل هذا الإنسان رؤية كونية ومجتمعية ما تعمل على ترميم نظرته إلى الظواهر والأشياء الكائنة من حوله وفي تفاعله مع المحيط الاِجتماعي. وكون أنّه ظاهرة طارئة على المجتمعات فهو يُنشئ حالات سوسيولوجية جديدة غير اِعتيادية، حيث التباعد الاِجتماعي والحرص، واتساع رقعة النزعة الفردانية لدى بعض الشعوب مقارنةً مع روح التكافل لدى أخرى.
وغاية الإنسان من الحفاظ على حياته تدفعه إلى التعامل بحيطة مع محيطه، وقد يدفعه التباعد والحجر المنزلي إلى الاِنطواء فترة من الزمن ومسايرة العزلة اِضطراريًا أو اختياراً، فيسعى بدوره إلى إيجاد متنفسه الخاص حسب اِهتماماته الشخصية، ولم تكن القراءة بمعزلٍ عن الاِهتمامات المختلفة للبشر خلال فترة الحجر، فمن الطبيعي أن يتصاعد فِعل القراءة بين النّاس خلال هذه الفترة وينتشر مستغلين قِلة النشاط الاِجتماعي والفسحة الموجودة من الوقت، مثلما برزت لديهم اِهتمامات أخرى مُغايرة حسب تعاملهم مع رتابة الحجر.
في الحجر صارت القراءة ديدن الكثير وملاذهم لسدّ الفراغ واستغلال الوقت وسط زحام اليومي ومشاغل الحياة والأخبار المقلقة عن الوباء خصوصًا مع إسهام الإعلام وتهويلاته في خلق ما يُشبه قلقًا اِجتماعيًا عامًا لدى الأفراد بِمَا يبثه من أخبار عاجلة وتحذيرات شكّلت لديهم هاجسًا مضاعفًا ينضاف إلى هاجس العدوى المُنتشرة والخوف من خطر الفيروس. يلجأ الإنسان إلى القراءة والمطالعة سواء في أوقات الخوف أو الأمن ليغذّي شيئًا ما داخله ويلبيَ حاجاته المعرفية وشغف البحث لديه، أو محاولةً منه للتغلب على الملل بِمَا يراه مفيداً له حسب اِختياراته القرائية، حيث رأينا في وسائط التواصل الاِجتماعي تهافتًا شبابيًا على تبادل عناوين الكُتب وخصوصًا جديد الروايات وجيدها، والموارد التي توفّرها والوسائط بالأخص الإلكترونية منها التي شهدت اِنتشاراً أوسع بسبب ظروف الحجر سواء لدى الطلبة في إنجاز بحوثهم الجامعية أو المهتمين بالمطالعة عمومًا.
شخصيًا؛ ومع انتشار الجائحة وبداية الحجر العام شهر مارس المنصرم حرصتُ كلّ الحرص على قراءة مقالات ودراسات متنوعة عن الظاهرة الوبائية ومتابعة ما كتبه المنظّرون والفلاسفة، حيث شهد هذا الحقل المعرفي في العالم الغربي خصوصًا نشاطًا ملحوظاً ويوميًّا للخطاب الفلسفي في مواكبته للجائحة وما ترتّب عنها من ظواهر ومتغيّرات على المستوى الإنساني وفي مجالات السياسة والاِجتماع وطبيعة النُّظم المختلفة والعلاقات بين البشر، مع فلاسفة ومنظّرين كُثر حاولوا مقاربة الظاهرة الوبائية فلسفيًّا أمثال إدغار موران، وسلافوي جيجيك، وميشال أونفراي، وجورجيو أغامبين، وفرانسيس فوكوياما...إلخ. ناهيك عن قراءاتي المتنوعة والمطالعة بشكلٍ عام وما تعلّق منها بالهوس المعرفي الشخصي بعيداً عن نسقية القراءة الأكاديمية وصرامتها.
ومع ذلك أتذكر كيف أنّ أصواتًا اِنتشرت حينها في مواقع التواصل قارنت بين مجتمعنا والمجتمعات الغربية في التجاوب مع القراءة وتنمّروا بسبب الإقبال الواسع على المنتجات الاِستهلاكية هنا مقابل إقبال الغربيين على شراء الكُتب وقراءتها بحسب تعبيرهم، رغم أنّ العالم الغربي نفسه قد تحوّلت دُوله وقتها إلى مجتمعات اِستهلاكية تعمد إلى فِعل التخزين والتسليع، وهي غريزة فطرية وطبيعية لدى جميع البشر أوقات الخوف من المجهول والقلق، بِمَا يجعل مثل هذه المقاربات تحوي مغالطات عديدة فيها اِحتقارٌ للذات وانبهارٌ كاملٌ بالآخر، كما أنّها شكلٌ من أشكال المزايدات الاِجتماعية وثقافة الاِستعراض، فعندما نريد المقارنة حول اِنتشار فِعل القراءة لابدّ أن نتكلم بدايةً عن الإقبال عليه في الحالات الطبيعية أولاً قبل أن نتكلم عن الحالات غير الطبيعية وقت الأزمات.

* لونيس بن علي/كاتب وناقد أدبي وأكاديمي
فرصة لاِكتشاف مُتع القراءة
لا يُمكن أن أقول أنّ الحجر الصحي كان فرصة مناسبة للقراءة، لأنّ الحجر في ذاته كانت له تأثيرات نفسية؛ فلا ننكر أنّنا قد مررنا بحالة من الخوف بسبب الأخبار التي تصلنا عن أعداد المصابين بالكوفيد19، وسواء كانت الأرقام صحيحة أو مُبالغ فيها، فالوضع كان صعباً. في بداية الحجر فكرتُ مثل غيري أن أقرأ عن أدب الأوبئة، فأعدتُ قراءة رواية «الجحيم» لدان براون، كما أنّي قرأتُ بعض الصفحات من «الكوميديا الإلهية»، لكنّي توقفت عن الاِستمرار في البحث عن هذا النوع من الكِتابات، وفكّرتُ أن أقرأ ما يُساعدني على تجاوز الوضع وليس قراءة ما يُذكّرني به، ثمّ هذا النوع من القراءات هي أشبه باِستجابات ظرفية فرضها الوباء، ما يعني أنّنا أصلاً، وفي أعماقنا، نحاول تجنب أي حديث يُذكّرنا بالمآسي التي صنعتها الأوبئة عبر التاريخ.
لم أقرأ كثيراً من الكُتب، لكن ما قرأته ساعدني على إزاحة بعض الثقل النفسي، ومِمَا قرأته رواية جميلة للروائي المفضّل عندي وهو (بول أوستر) والرواية بعنوان «حماقات بروكلين»، جعلتني الرواية أنتبه إلى نوع من التاريخ البشري وهو تاريخ الحماقات؛ هل فكّرنا في الكتابة عن حماقاتنا البشرية؟ كما قرأتُ آخر أعمال الروائي الجزائري المقيم بأمريكا (عمارة لخوص)، «طائر الليل» رواية تنتمي إلى تلك الروايات التي تحاول تقديم قراءة لتاريخ الجزائر بأثر رجعي مستثمرا أدوات الرواية البوليسية، فتحولت رحلة البحث عن جريمة مقتل «طير الليل» إلى رحلة بحث عن حقائق تاريخية منذ ثورة التحرير إلى غاية اليوم.كما اِكتشفتُ كاتبًا جديداً ومُهمًا وهو (العربي رمضاني) الّذي أصدر كتابًا جميلاً هو»أناشيد الملح» وهو كتابٌ صادم بحقائقه لكنّه كُتبَ برهافة شعرية، وقد سرد العربي تجربته مع الحرقة بدايةً من تركيا وصولاً إلى غيطوهات اليونان، وأنا أنصح الجميع بقراءة هذه الشهادة التي كتبها صاحبها بلغة روائية.
طبعًا هناك كُتب أخرى قرأتها، ولا داعي لذكرها هنا، لكن ما أريد أن أركّز عليه، أنّي لا أحب الهرولة في القراءة، إذ أشعر أنّ قراءة الكُتب بسرعة هو قتلٌ لها، كما لو أنّنا نريد التخلّص منها، والحقيقة أنّ في زمن الحجر اِكتشفتُ متعة قراءة الكُتب ببطء، والتلذذ بكلماتها وبجملها وبتفاصيلها الصغيرة، لأنّ الغايةَ في آخر المطاف هي الاِنغماس العميق فيما نقرأ سواء أكان تخييلاً أو معرفة. هذا النوع من القراءة مازال يفتح لي أبوابًا مُشرعة للكتابة، وتقريباً لا أقرأ كتاباً دون أن أكتب عنه مقالاً أو عرضاً، فلا ننسى أنّ مُتعة القراءة تكمن كذلك في مشاركتها مع الآخرين.

 

الرجوع إلى الأعلى