بقلم: عبد القادر رابحي
- 1 -
ما معنى أن يحنّ المثقف الجزائري الراهن- بعض المثقف طبعا-، بعد ستين سنة من الاستقلال، وبعد معارك ثقافية وتنموية كالحة من أجل بناء صورة واقعية وحقيقية للجزائر المتحررة نهائيا من الهيمنة ومن رموزها، إلى المدينة الحديثة، وإلى الشارع المنظم، وإلى الشاطئ الجميل، وإلى المقهى الحميميّ، وإلى البريد الخدوم، وإلى المدرسة المتنورة، و إلى الجامعة المفتوحة المعرفة؟ ما معنى أن يحرص المثقف على استدعاء الصورة الكولونيالية بوصفها بطاقة بريدية (Carte postale) محيّنة لحالة حنينية موغلة في التأسف على ماض يكاد يحلم المثقفون به -بعضهم طبعا-كحالة مرضية تشبه حالة الإيمان الخرافي بإمكانية ‘العودة إلى المستقبل’؟ وهل يمكن اعتبار ذلك نوعا   من الاستدعاء الخائب للتصوّر النقيض بوصفه مشروعا تنمويا فاشلا على أرض الواقع ولم يُنتِج مثقفوه،  وقد عاشوا في خِضمّه وشاركوا في صياغته، غير ألبوم الصورة القسرية لعشوائيات التفكير الموجه الذي يؤدي بالكثير منهم اليوم إلى السقوط الحنينيّ العاشق في تقليب صفحات الألبوم الكولونيالي؟
لا يتوقف الألبوم الكولونيالي عند بعض البطاقات البريدية التي وُجِدت في خزانة بيت الجدّ الموروثة من عائلة أوروبية عادت إلى وطنها بعد مكوث طويل و هي تطالب اليوم باستعادة ما تعتقد أنه ممتلكاتها، أو في ما وجده مهاجر جزائري شغوف في الأسواق الشعبية لضواحي باريس أو ليون أو مرسيليا المصدرة للكولون المستقبليين   في جزائر القرن التاسع عشر الخالية من أمّتِها تماما كما لا يزال يراها إلى اليوم مخرجٌ فرنسيٌّ مهووسٌ بالتصوير      من علٍ. كما لا يتوقف هذا الألبوم عند ما أصبحت تتيحه الثورة الرقمية الراهنة من ولوج افتراضي إلى الأرشيف الفيلمي، المسموح به فقط، لمشاهدة جزائر بدايات القرن التاسع عشر، حيث تعمل حركة الوافدين الجدد وهم يحثّون الخطى ويعملون على قدم وساق على تثوير آلية المخيال في ذهن المثقف الجزائري الذي تعمد إعطاء ظهره للتاريخ الوطني، لأجل النهل من نوستالجيا العلامات الفارقة بينهم وبين الأنديجان، مثلما لا يتوقف هذا الألبوم عن إتاحته مشاهدة مقاطع (يُشوّك لها اللَّحمُ) من الشوارع البيضاء لجزائر بدايات القرن العشرين المزهوة ظاهرا بمواطنيها البيض وواجهاتها النقية و’ترَامْوايها’ الحديث، مما يمكن أن يفخر به زوار أروقة ‘المعرض العالمي’ نظرا للنجاح المبهر الذي حققه شذّاذ الآفاق و هم يطردون الإنسان الجزائري من أرضه و يحققون فيها، بإمكانات التحديث المتاحة لهم، ما لم يستطع تحقيقه بذراعه طيلة قرون سالفة.
لا يتوقف الألبوم الكولونيالي عند كلّ هذا أو عند غيره من الصور والأفلام والوثائق والكتب فحسب وهي تقفز إلى واقع المثقف الجزائري بفضل وسائل التواصل الحديثة لتثير فيه شجنا وحنينا عارمين وهو يكتشف عالما آخر لجزائر لا يراها في واقعه اليومي، و إنما يتمثل هذا الألبوم كذلك- و هذا أعمق تأثيرا لأنه الأكثر حضورا في الوعي الجمعي لأجيال كاملة من مثقفي الاستقلال- في ما تتركه صورة المثقف الكولونيالي القادم من بعيد  أو المولود على عجالة في مدينة جزائرية، بكل ما يحمله من تصورات وقناعات وأفكار، من أثر لا يُمْحى في البنية التكوينية العميقة للمثقف الجزائري الراهن- ليس كل المثقف طبعا- وهو ينسج عوالم تخييلية ضاربة في الحنين  إلى ما كتبه كامو عن وهران لأجل استدعاء وهران الماضي، وإلى ما كتبه بيير بورديو عن القبائل لأجل استدعاء قبائل الماضي، وإلى ما رسمه إتيان دينه عن بوسعادة لأجل استدعاء بوسعادة الماضي، وإلى ما توجسه ماركس   و هو يتصور في شوارع العاصمة لأجل استدعاء عاصمة الماضي، وإلى ما كتبته إيزابيل إبرهادرت عن الوادي  والعين الصفراء لأجل استدعاء صورتهما الماضية، وإلى ما رسمه أوجين دو لا كروا عن نساء الجزائر و هنّ  في بيتهن لأجل إعادة تشكيل البيت الكولونيالي في متحف الحنين الطافح بالتوجسات الثقافية الراهنة التي تتصارع فيها ثنائيات الاستعمار والتحرر، والتنمية والتخلف، الحرية والتأصيل، الحضور والديمقراطية، والوطن والغربة.
- 2 -
     تعج العديد من أدبيات الأجيال المثقفة الجديدة – ليس كلّها طبعا- بفائض الحنين المتخفي في اللغة        وفي الموضوعة وفي المخيال وفي الرؤى وفي التصورات المضمرة والمعلنة، محيلةً، في ما أنتجته وتنتجه من خطابات فكرية و إبداعية، إلى ما يمكن أن يصبح صورةً مشابهةً، حتى لا نقول طبق الأصل، لحالة التحديث التي وصلت إليها الهيمنة الكولونيالية قبيل انتشار الوعي التحرري و تمت محاولة تقويض بعدها الاستيلائي من طرف المدّ الثوري، وكذلك إلى ما لعبته من دور فاعل باعتبارها درعا واقيا للوجود الكولونيالي و جدارا فاصلا ، يكاد يكون عنصريا في العديد من حالاته،  بين الذات المثقفة المُستعمَرة الثائرة التي كانت تطمح إلى تحرير الوعي من العلامات الكولونيالية المهيمنة، وبين الذات المثقفة المتحررة الراهنة التي تعجز عن إنتاج علامات و رموز مشابهة أو علامات و رموز مناوئة، أو علامات و رموز مخالفة للعلامات و الرموز الكولونيالية.
 إنه الألبوم الكامل لحالة كولونيالية بما يمكن أن يوقظه في ذهن المثقف/المتلقي الراهن من حسٍّ ظاهرٍ تجاه ما تنتجه هذه العلامات و الرموز من جمالياتِ انسجام أو تناقض، وبما يمكن أن تنتجه كذلك من ممكنات تحريك لآلية النقد الواعي وفق مستجدات الهيمنة الثقافية والإيديولوجية الجديدة، أو من ممكنات تحريك لآليةٍ حنينية ضاربة في عمق التصوّر الراهن لمشكلة الحرية والتحديث والمشروع المجتمعي. وهي الحالة التي لا تزال تعبث بالوعي النقدي للعديد من المثقفين الجزائريين- ليس كل المثقفين طبعا-، وتكشف عن حالة تعلّق غير متحررة تماما، رغم الفارق الزمني الذي يفصل الأجيال الجديدة عن الاستعمار، من عوالق الكولونيالية بوصفها نسقا متنقلا عبر الهيمنة التي تمارسها اللغة الأخرى، لغة المستعمِر، على المخيال الجمعي من خلال ما تنتجه من فيض ‘نوستالجيا’ مضمر يتجلى في العديد من الخطابات الفكرية والإبداعية، وينمّ، في بعض مكنوناته، عن حالة تبعية فكرية تعمل على استبعاد جميع العلامات و الرموز الفاصلة التي بُنِيتْ عليها نضالات الأمة الجزائرية في معاركها المصيرية مع المستعمر الفرنسي(اللغة، الدين، التاريخ، الهوية، الأرض، المصير)، والإصرار على استبدالها بحالة شغور وجودية تستنجد بالعلامات و الرموز  الكولونيالية عن طريق استدعاء فائض الحنينيّة التي تضمن هيمنة الحضور الكولونيالي داخل النسق الثقافي الشاغر نظرا لقوّة ما يقترحه من مشروع تحديث بإنتاجية مستديمة قادرة على فرض واقعها داخل هذه الخطابات عبر اللغة بوصفها أداة إبهار للمخيال ومنهجَ تقنين لطرائق التفكير، و وكرَ تخزينٍ و تعشيشٍ و تفقيصٍ للمحمولات الفكرية و الثقافية لهذه العلامات والرموز .
 

- 3 -
 هل كان الكولون الوافد يشعر بالغربة و هو يحاول أن يرسخ هذه العلامات في أرض ليست له؟ و كيف لمثقف جزائري - ليس الكلّ طبعا- أن يشعر بالحنين إلى هذه العلامات التي أراد الكولون أن يقطع بها علاقته الجغرافية مع وطنه الأصلي من خلال سعيه إلى تثبيتٍ قصريّ لتصور ثقافيّ ناجز طالما دعا له بكل ثقة و إيمان مثقفو (لالجيريانيزم) على حساب المحو المنهجي للثقاقة الجزائرية الأصلية؟
إن أقصى ما يمكن أن يفرح له المستعمِر السابق بنشوة لا نظير لها، هو أن يرى المثقف المابعد كولونيالي  في البلاد المستعمرة سابقا يحن حنين النوق إلى وضعية ما قبل الدولة الوطنية، من خلال ممارسته عبر الكتابة لعادة الاستحضار الشّبقي للعلامات الكبرى التي أسست للقناعة الأنديحينية، بحكم نموذج التحديث المفروض  على ما صار يسمى آنئذٍ بــ’السُكَّان المحليين’، و ذلك بممارسة سطوة الحضور الوجودي للوافدين الجدد، من خلال التعالي بالصورة وباللباس وبالبشرة وباللغة وبالحديث وباللكنة وباللون وبالذوق و بالحاسة وبالأكل وبالشرب وبغيرها، والتي تنسج مجتمعةً هالة الحضور التي تحيل، في ذهن المثقف المابعد كولونيالي، إلى صورة ‘التحضّر’ التي تستدعي نقيضها في الواقع الأنديجيني المُستعاد في الراهن بسبب الفشل الذريع لمشاريع الدولة الوطنية،  وتؤصل في نفسيته لتراتبيّة القيم من منظور سُفلي يتحرى فيه المثقف الراهن نمط الحياة والوجود والموت في حركات          وسكنات الوافد الجديد الذي بإمكانه أن يغادر الأرض عنوةً، و لكنه لا يغادر المخيال بالسهولة التي كان يتصورها المثقفون الثوريون من خلال استيلائهم البطولي على سلاح المستعمِر من أجل محاربة المستعمِر و تحرير الأرض ثم اعتباره ‘غنيمة حرب’ بعد الانتهاء من معركة التحرير !
هكذا يتحوّل الوعي الاستكشافي للمثقف الراهن و هو يُقلّب الألبوم الكولونيالي إلى وعي تبريريّ، بما يواجهه من مفارقة سببها استمرار طغيان هالة الآخر الحاضر بعلاماته المهيمنة نظرا لحداثتها، والتي تنتهي به إلى الحلم بالذات بوصفها آخر، أو الحلم بها عن طريق الآخر، ناهيك عن محاولته تحقيقها به أو عن طريقه.  ولعلها المفارقة التي ستترسّخ في الأنساق الإيديولوجية والثقافية للمثقف المابعد كولونيالي، والذي يسعى إلى تثبيت بُعْدَ الحنينيّة في مضمرات ما سيُنْتِجُه من خطابات غير قادرة على تحمّل ثقل الفارق الوجودي والزمني بين التحديث بوصفه نمط تفكير غربيٍّ مُتَسارعٍ وغير مستعدّ لانتظار أحد، و التحديث بوصفه حلما تراجيديا متوقفا في الغياب، يشاهده المثقف الراهن أمامه في واقع الآخر وعن طريقه، ولكن لا يستطيع أن يعيشه، مما تؤدي به إلى ‘فرمطة’ المقاربات التي يحملها عن هذا النمط، وتتويجه صورةً ثابتة في اللاوعي الجمعي لمثقفي المجتمع المستعمَر سابقا.
إنه النمط الذي بإمكانه أن يستيقظ في أيّ لحظة، بعد بياتٍ شتويٍّ طويل لظروف سيعتبرها قسرية، ليستدعي هذه العلامات التي لا تزال حيَّة في اللاوعي، تنتظر أول فرصة للنطّ في مرآة الراهن والتجمهر الرمزي داخل كل أنواع الخطابات الفكرية والإبداعية كأيقونات قابلة لاستدعاء ما يتخفّى خلفها من حنين إلى حالة التحديث التي عايش جزءا منها، أو ورث بعضها عن عائلته، أو اطلع عليها في كتب التاريخ، أو شاهدها على الشاشات، على الرغم ممّا طالها من تخريبٍ في واقع الدولة المستقلة، نظرا لأسباب تاريخية و سياسية وإيديولوجية لعبت دورا حاسما في استغلال عفوية البعد الثوري للمجتمعات التائقة إلى التحرّر، للانتقام من واقعية كولونيالية تحوّلت مع الوقت إلى رصيد حنينيّ من جهة، و للتخلص، من جهة أخرى، من خيبة حلم ثوريّ أصبح كابوسا مزعجا نظرا لتحويله إلى أداة انتقام من الحاضر بوصفه صورةً سلبيةً لتاريخ صنعه بنفسه ليتحرّر من سطوة الشرط الكولونيالي المهمين الذِي زرعه المستعمر السابق في طريقه، وتعمّد برمجةَ إيقاظهِ، كلما دعت الضرورة، باستعمال سلاح العلامات والرموز المدسوسة في الباحة الخلفية للتاريخ الوطني لأجل توظيفها في تقويض كل محاولة تحديث حقيقية باستعمال العلامات والرموز التي مكّنت المثقف الثوري من التحرّر من الإيديولوجية الكولونيالية في معركته الفاصلة مع الاستعمار.

- 4 -
لقد لعبت اللغة دورا حاسما في توجيه معركة سدّ كلّ الآفاق الحقيقية التي بإمكانها أن تحرر المثقف المابعد كولونيالي من سطوة الحنينية، بسبب قدرتها على توجيه الأطر الفكرية و الإيديولوجية من داخل التصورات الثقافية الوطنية، وذلك بالعمل على ترسيخ محمولين لغويين أو أكثر بدل محمول واحد داخل المخيال الإبداعي الواحد    وفي واقع الممارسة الثقافية للفضاء الوجودي الواحد، وذلك للتأكيد على أهمية ترسيخ محتوى الحنينية داخل الخطابات الثقافية والبرامج التعليمية والمقررات التوجيهية بوصفها ميدانا خصبا لتفتّق سطوة الماضي الكولونيالي في هشاشة الحاضر المتحرر. و يتمّ ذلك كلّه في إطار ما تمليه إكراهات التأقلم مع اللحظة العولمية الراهنة بوصفها لحظة خاضعة لتصورات كانت ولا تزال أفقا منتظرا قريب التحقق في معركة الكولونيالية مع كلّ فكر مضاد لتصوراتها، والذي لن يكون في نظرها غير نموذج لفكر ثوري خبرته جيدا في معركة التحرير، ويجب عليها تقويضه من خلال تحيين فعالية أيقونات الماضي المهيمن، بفعل اكتساب آليات التحديث و تقنياته، داخل ما أضحت تقدمه الصورة المضخّمة و المعمّمَة للعولمة، بحكم ما تفرزه الثورة الرقمية من تداعيات، للمدّ التوسعي الغربي الذي تحقق هو الآخر بحكم ما أفرزته الثورة الصناعية من تداعيات وتمت بلورة مفهومه في ما صار يسمى بالكولونيالية.
لقد استثمر المستعْمِر القديم في التركة الكولونيالية بوصفها نسقا توسعيا حيا أو يجب إحياؤه، وفي تحيين أيقوناته الدالة باستعمال فخ التحديث لتحويله إلى إجراء عمليّ سهل التطبيق، نظرا للحاجة الملحة التي يبديها المخيال الأنديجيني الراهن في المستعمرات القديمة إلى الحنين إلى الماضي فيما أضحت تبديه الطبقات المثقفة الجديدة من تعلق بالعلامات والرموز نظرا لدورها النفسي في إيقاظ حلم التحديث بوصفه ‘عودة إلى المستقبل’ نظرا لفشلها في صياغة تصورات واقعية للتحديث بوصفه راهنا اجتماعيا وشرطا تاريخيا نظرا لانفصالها التدريجي، بسبب اللغة وعن طريقها خاصة، عن واقع مجتمعاتها البائس، و كذلك نظرا لفشل الأنظمة السياسية المابعد ثورية في تحقيق تصورات التحديث التي حاولت تطبيقها في واقع مجتمعات لم تتهيأ لها فرصة الخروج العقلاني السليم   من وضعية التبعية القسرية للعلامات الكولونيالية المسلطة عليها، إلى وضعية استحداث علامات تعادلها أو تتفوّق عليها في القيمة و تختلف معها في الجوهر.
سعيدة في 24/09/2020

الرجوع إلى الأعلى