الناقد الغربي قتل الناقد-السلطة وعلينا في الثقافة العربية قتل الناقد الفقيه
في هذا الحوار، يتحدث الكاتب والناقد الأكاديمي، الدكتور محمّد خطّاب. عن النقد وبعض النظريات أو المقولات والدراسات التي اِلتصقت به وأُلحقت عليه، منها فكرة ومقولة «موت الناقد»، و»موت المؤلف»، كما يتحدث عن ظاهرة تكاد تختص بها الثقافة العربية، هي ظاهرة، إقصاء المثقف/ أو الكاتب، لزميله المثقف والكاتب، ما جعل خِطاب المُثقف/الكاتب لا يخلو من نزعة الإقصاء للآخر. كما تشعب الحديث إلى النّخب، وكيف هو تصوره لها؟ وكيف يرى خطابها، وما الأسئلة التي يمكن أن تنطلق منها، أو التي يمكن أن تطرحها؟
حاورته/ نـوّارة لحــرش
لديك الكثير من الدراسات والمقاربات والأبحاث النقدية. في وقت اِنتشرت فيه فكرة ومقولة «موت الناقد»، وهي نفسها عنوان لكتاب صدر للكاتب البريطاني رونان ماكدونالد وترجمه إلى العربية الكاتب والمترجم الأردني فخري صالح؟ وقبلها «موت المؤلف». كناقد كيف تقرأ هذه النظريات؟ ومن أي زاوية أو سياق؟
* محمّد خطّاب: إنّ مشكلة موت الناقد ليست غريبة على الثقافة الحية التي تنهض على النقد الذاتي والسؤال الحقيقي المُلِح. يمكن للمسألة أن تكون مثيرة في ظل وجود ثقافة نقدية فقهية والتي تنتمي إلى بيئة يستولي فيها القاضي على المركز لكي تبقى جميع الأسئلة الحقيقية مؤجلة، إنّ الثقافة التقليدية التي نشأ عليها القارئ العربي جعلته يستقبل إشكالاً مثل «موت المؤلف» ثمّ بعدها «موت الناقد» بنوع من الاِستياء والفهم المُستعجل لكي يدخل فيما بعد في معرفة لا تعبر سوى عن ردود أفعال فجة وسطحية. لا يمكن البناء على مثل هذه الثقافة. لنوجه المشكلة وجهةً أخرى لها صلة بواقعنا الحقيقي: هل موت الناقد سؤال متجذر في عُمق اِهتماماتنا النقدية؟ هل يُشكل السؤال هاجسًا ودافعًا لعملية مراجعة حقيقية لكلّ أشكال التفاهة التي تُغطي ما ورثناه وما نمارسه في شكل كُتب ومقالات ومحاضرات لا تُضيف إلى العقل والمخيلة الإنسانية سوى المزيد من الخيبات؟ لقد أسأنا قبل سنوات فهم مشكلة «موت المؤلف» لكي تأتي المشكلة الجديدة فتفضح جهلنا مرّة أخرى.
إنّ سؤال الموت المُتصل تارةً بالمُؤلف وتارةً أخرى بالناقد يعني الغياب المُؤجل الّذي يسمح برؤية مُمكنة لاِحتمالات النص العاري من النسبة والمجهول والضارب في عُمق التاريخ. إنّ الموت هو في الحقيقة حتمية الوقوف لمراقبة الثقافة في جوهرها ومُساءلة الواقع الّذي جعل من الأدب وما يُحيطُ به قيمة تجارية خاضعة لمضاربة السوق والإشهار. فِعل الثقافة يُواجه الظاهرة في إعادة قلبها على ظهرها لكي يُستبان منها كلّ الزوايا الخفية. لقد فهم النقد العربي مشكلة الموت فهمًا أخلاقيًا ولم يُعنَ بالمشكلات الثقافية التي تحيطُ بها. لعلّ الحرص التقليدي على التركة القديمة هو الّذي جعل من فهمنا قاصرا ويختزل المشكلات الحقيقية الدنيوية فيما له علاقة بالدين، فأضحت تفسيراتنا قائمة على أساس أنّ «رولان بارت» مثلا كان يُعاني فراغًا دينيًا ومُصاب بالشذوذ الجنسي ولحق به ميشال فوكو الّذي قال بموت الإنسان تبعًا لفكرة موت الإله عند نيتشه. أمرٌ غريب حقًا أن نختزل بذهنيتنا المشكلات الفلسفية في مجرّد الدين، ولكن هذا يُنبئ على حالة من الهذيان الثقافي الّذي لا يجرؤ على طرح المشكلات.
برأيك أي مقصد تحمله مقولة «موت الناقد»؟ وهل هي بمثابة شكل من أشكال إعادة موقعة النقد والناقد معًا؟
* محمّد خطّاب: موت الناقد بكلّ ما تحمل من مقاصد هي شكلٌ من أشكال إعادة موقعة النقد في عصر سادته التيارات المُتضاربة وغلبت عليه الثقافة السريعة والشكلية، أتذكر ما كان يُنادي به الناقد والشاعر ت. س. إليوت بأنّ النقد يمر بأزمة حقيقيّة لأنّه اِفتقد حقًا إلى شخصية القارئ الّذي تشكل له النصوص الأدبية الكُبرى مادةً للحياة وللاِمتداد في هذا الوجود بطُرق رمزية مُختلفة.
لعلّ المقصود من كلّ ذلك هو إعادة الاِعتبار للنقد من حيث هو تجربة حية يُعانيها الناقد كإنسان مثله مثل الفنان، وعليه أن يكتشف لغته التي تضمن له البقاء في عالم الكثافة. لقد اِستطاع الناقد الغربي أن يقتل الناقد/السلطة لكي يستعيد عافيته ويُواجه العالم بأدوات متجدّدة. وعلينا نحن في الثقافة العربية أن نقتل الناقد الفقيه أو القاضي الّذي لا يعرف من النقد سوى الحُكم: حكم القيمة وكأنّه هو المُوزع الوحيد للفضائل التي يحيا بها المُجتمع. علينا أن نُعيد اِكتشاف ثقافتنا وفق تموقع جديد يرى إلى نصوص الهامش التي جنت عليه سلطة النقد الفقهي، نصوص اِستطاعت أن تغني الذاكرة الإنسانية فيما قتلناها نحن بمنظومتنا الفقهية المتزمتة.
في الثقافة العربية ربّما أكـثـر ما يُجيده ويُتقنه المُثقف العربي هو محاولة إقصاء زميله المثقف. لماذا برأيك ظل خِطاب هذا المثقف، لا يخلو من نزعة اِقصائية للآخر، «الآخر» المثقف، زميله وشريكه في الفضاء الثقافي والأدبي؟ ما منبع هذه النزعة الإقصائية المتعالية والنرجسية في آن؟
* محمّد خطّاب:أبدأ بالحديث عن المثقف قبل الحديث عن الخصومة أو الإقصاء، الخصومة دليل غِنى ونماء للوعي بمعنى معين. ولكن المثقف هو ما يعنيني في هذا المقام، ممارسة الوعي ظاهرة نادرة في العالم العربي، وهذا يدعو للسؤال عن جدوى الكُتب والجامعات والمعارض ودور الثقافة. لِمَ هذا الغياب الّذي يملأ الوجود؟ أتذكر مقولة لسكير معبرا عن طبيعة العالم العربي: «نحن في مجتمع يتحرك ولكنّه غير موجود». لكي نتحدث عن الوجود يلزمنا الكثير من الممارسات الواعية للعقل وللرّوح أيضا.
تأتي الخصومة لكي تُعبِر عن حالة الفراغ والغياب المُطلق للثقافة الواعية. الآن أتحدث عن الخصومة بالمعنى السلبي. هي ليست خصومة بين ذهنيات تشترك في مبدأ الفِعل الثقافي الكبير ولكنّها خصومة بين أنوات مريضة تشتغل بفعل العُقد ومركبات النقص. ولأنّ الوعي لم يكتمل عليه أن يكون ديكورا جميلا للذات، فلا بدّ من لقب واسم ونياشين: أستاذ، دكتور، شاعر، روائي، ناقد. هذه كلها ألقاب مملكة الضعف والترهل حينما تصبح العلاقة مع الآخر محكومة بالإلغاء والقتل المعنوي. والسبب كله في الفراغ الموجود في الذات، وفي طبيعة الخلفيات الثقافية التي لا تتغذى إلاّ بِمَا ينتمي إلى القشور. بعض المثقفين لا يزال حبيس تراث جاهز لا يقبل جديدا ولا يتمتع بِمَا هو معاصر فيلغي كلّ ما عداه لأنّه يشرب من مورد ضحل محكوم بحده الصلب، وبعضهم مِمَن يعشق المعاصرة في تطرفها المريض فيلغي بدوره كلّ من يختلف معه في الرأي والتصور. القليل بل الندرة مِمَن تشتغل في صمت وأخلاق عالية ومحبة في التواصل وإشراك الآخر لأنّها تحفر في اِتجاه لم يلتفت إليه أحد.
إنّ شكل الحوار الّذي وجب أن يتأسس بين المثقفين يعلو على التفاهة التي تتخطاها الثقافة الحقيقية. فالمُثقف ضمنًا يحتوي على كائن يعرف صناعة الحوار مع الآخر والتعايش معه ولو اِختلف عنه رؤيةً وتصوراً للوجود والإنسان والأشياء. ولكن عادة الثقافة في عالمنا هي عادة الجيران المحكومين بأبدية الخصام على اللاشيء. وتبدأ الحياة حياة المُثقف في التنازل لكي يجد نفسه قد تاه في الفراغ من دون أن يملأ ذاته الفارغة طيلة سنوات من الخصومة مع الآخر. المطلوب الاِبتعاد عن الأنا المُتفخمة والمُنتفخة بدورها ووظيفتها. وعادةً ما يكون المُثقف محكومًا بخطاب المؤسسة، فالأستاذ الجامعي مثلاً خاضع بالقوّة إلى سلطة معنوية لا تعني أي شيء في الأخير، ولكنّه بفعل الوظيفة يعتقد أنّه الأفضل والأكثر جاهزية للحديث بدل الآخرين فضلاً عن معاني الاِحتقار الضمني الّذي يُوجه عبيد المؤسسة. لقد أساء فهم ما تعنيه المؤسسة وهي هنا الجامعة، إنّها موطن البحث واللقاء مع الآخر والاِستفادة منه بكلّ تواضع والاِهتمام المُستمر بكلّ جديد. إنّ الحرية الفعلية تكفل للمثقف أن يُعيد صياغة حياته وفق مضمون أخلاقي يكفل له اِحترام الآخر وفق قواعد العلاقة التي تربط بين الذوات والأشخاص المحكومين بقواعد الحوار والكلام.
مِن جهتي أرى أنّ المُثقف لم ينتبه فعلاً لِمَا تعنيه كلمات مثل الصمت والعزلة والنقد الذاتي والتربية والاِنتباه وحسن الاِستماع والتريث. لم يعرف معنى العمل الدؤوب الّذي يغرس فيه كلّ مظاهر التكتم والسرية والاِنتباه للآخر واجترار الكلام. هناك عبارة لنيتشه على المثقف أن يتعلم منها كثيرا ومعناها هو أنّ الإنسان المُعاصر يفتقد إلى إحدى عبقريات البقر وهي الاِجترار، عليه أن يُبقي الكلام حبيس الوعي يجتره بصمت وعُمق لكي يحسم أمره فيما بعد ويُشكل به خطابًا مُنفتحًا وعميقًا يحتوي الآخر بكلّ محبة.
هذا الخطاب المنفتح والعميق الّذي يحتوي الآخر بكلّ محبة، يقودنا إلى السؤال عن النّخب/ أوالنّخبة. كيف هو تصورك لهذه النّخبة؟ وكيف ترى خطابها، وما الأسئلة التي يمكن أن تنطلق منها، أو التي يمكن أن تطرحها؟
* محمّد خطّاب: النّخبة هي تصوّر تراتبي وطبقي في العُمق، لأنّه بدءاً يخضع لتقسيمات في المجتمع، وهذا سيجعل من الخِطاب نفسه خاضعًا لهيمنة اللّغة وسلطة البلاغة. النّخبة والسيئة منها خصوصًا تبدأ من هذا التمايز المجتمعي والبلاغي، فتجد نفسها محصورة في سلطة واهمة أنّها ضمن الترتيب الّذي يخوّل لها السلطة على المعنى والهيمنة على المفهوم، ثمّ يجعلها هذا العنف المتمايز داخل إطار غير صحي للغة، فتختبئ وراء المصطلحات والمفاهيم. هذا الأمر يخلق المسافة بين شكل الخطاب وطبيعة المشكلات التي تظهر في المجتمع الّذي له قوانينه الخاصة المتحكمة فيه.
غربة النّخبة فيما تقرأ، والجناية الكُبرى في طبيعة تلقيها. يكمن جزء من المشكلة في سيادة ثقافة ذات اِنسجام سطحي وتوافق تافه. هناك نوع من القراءات هي في ذاتها جميلة ولكن وضعها في غير سياقاتها لا يخدم المجتمع مُطلقًا، وخذ مثلاً لخِطاب الحداثة التي جعل النّخبة تتفق على خط واحد داخل نصوص ضاغطة من دون تمحيص واختيار وتَمَّثُل. والتشوه يكون مقلوب القراءة الّذي يثمر فهمًا سطحيًا واستعلائيًا للحداثة وللمفاهيم المُتصلة بها.
هل يمكن القول أنّ المؤسسة قيدت النّخبة أو أثرت عليها وعلى مستوى خطابها؟  
* محمّد خطّاب:تمامًا، لقد قيدت المؤسسة هذه النّخبة وغذّتها بالتطرف الفكري حتّى لو كان تحرّريًّا وحداثيًّا، لأنّها هي نفسها (أي النّخبة) تحوّلت إلى مؤسسة منغلقة، وخطابها هو دليل تطرفها من جهتين: من جهة اِفتقاده إلى بلاغة التوصيل داخل مجتمع يغلي بالمُتغير، ومن جهة اِنغلاقه داخل مفاهيم لا تُخاطب التجربة. صعوبة تَمثُل النّخبة هو هذا البُعد بينها وبين ما تتمثل من تصورات ومفاهيم، وهي تصورات كلها من النصوص وليس من خالص التجربة. حتّى القراءات تكون داخل نصوص غريبة لا علاقة لها بتجربة النّخبة المحكومة بظرف وقيم وفلسفة خاصة. أولى للنّخبة أن تجعل من ذاتها محل تفكير لأنّها من خالص مجتمع تطبعه حالة خاصة. الاِستعارات التي نحيا بها لم تكن كافية بل هي غريبة عن مجال تفكيرنا. كيف يمكن أن أفكر في حراك مثلا، وأنا أضع صورة سارتر أمامي وهو يتظاهر مع فوكو ضدّ الحكومة الفرنسية؟ وحتّى بقية الأيقونات شي غيفارا أو كاسترو، هذه كلها زينة لا فائدة منها أبدا. هي ثقافة نتغذى منها بطريقة خاصة وتتحوّل فينا إلى ميراث للثورة ضدّ القهر والظلم ولكنّها ليست اِستعارة نحيا بها. وهذه نفس ما يجري مع الفلسفة والمعرفة والنصوص والروايات لا تغذي فينا سوى شغفًا أصيلاً وحقيقةً موجودة.
وما الأسئلة التي يمكن أن تنطلق منها أو التي يمكن أن تطرحها؟
* محمّد خطّاب:  النّخبة بالتصور الّذي أراه هي الندرة التي لا تتكلم بعيداً عن حسها بالواقع وتماسها مع التجربة، أوّلاً تجربتها هي مع العالم ثمّ مع الآخر والمجتمع. إذا لم تملك هذه النّخبة سرها مع نفسها لا تتجاوز دائرتها الضيقة. هي تُخاطب نفسها ويتردّد خطابها منها إليها ويرتد منكسرا وضعيفُا لا يملك قوّة التأثير. لننظر في نتاج النّخبة داخل مجتمع يتحرك بعيداً عن مفاهيمها المُغلقة والمُستعارة؟ هو نتاج للجائزة ثمّ للحظوّة الخارجية، ولكن قليلاُ ما يكون النتاج نابعًا من همٍ حقيقي وأصيل وجوهري. وما الّذي يتبقى من آثار ذلك؟ سوى بقايا ما يحفظه التاريخ من اِنكسارات وخيبات ومعارك وهمية لم تكن أصلاً تخدم النّخبة في تجربتها.
لا يمكن لفكر أو خِطاب أن يحيا عميقًا في الوجدان إذا كان صادراً من مجرّد الاِستعارة من الآخر، أقصد من تجربة الآخر الحية. ما نفع نقل حياة إلى نفوس ميتة؟ فلا يعرف أسرار قلوبنا من لم تكن في قلبه الأسرار كما يقول جبران خليل جبران. المُؤكد في تجربة النّخبة أن تنطلق من أسئلتها الحقيقية وأن يكون خطابها جوهريًا وبسيطا وبعيدا عن المفاهيم المستعارة.

الرجوع إلى الأعلى