*  الطيب صالح طهوري
إلى روح عمي الشاوش عمر
في غيابك يسمونك عِمر المرة.. في حضورك ينادونك الشاوش عِمر أو عمي عِمر.. بعضهم يتعمدون الإشارة إلى أصولك فيقولون عِمر القِبايْلي.. في غيابهم تبتسم وأنتَ تعرف كيف يسمونك.. في حضورهم تبتسم.. دائمًا تبتسم.. تأتي مسعودة بنت ساعد بدلوها المائي.. ترش أرض الغرفة متأفّفة.. فطيمة بنت عْمر تأتي بالطاولة.. تضعها أمامك ولا تنبس ببنت لسان.. مسعودة وفطيمة زوجتاك.. لم تنجب لك فطيمة.. مسعودة أنجبت طفلاً ومات.. أنجبت طفلة وهي الآن زوجة اِبن عمها الحركاتي.. قالوا: حين مات طفلها وحيدها، غافلت الجميع وتوجهت مُسرعة إلى المقبرة.. حفرت القبر وأخرجت جثته.. اِحتضنت الجثة بدودها الّذي كان يتناثر وراحت كالناقة تنوح..
مسعودة شقراء.. عيناها خضراوان وشعرها ذهبي شمسي..
فطيمة بيضاء.. عيناها سوداوان وشعرها مثلهما.. لكنّها لا تستحم أبداً.. منذ سنوات لم تستحم.. إذا اِستحمت تمرض، عشقتك يا “الشاوش” فتاة اِسمها الريم، أرادت أن تكون لك، هي وحدها.. ولك وحدك.. كتبَ لها الشيخ سي النوي أو الشيخ سي أحمد في الريشة.. اِختلف النّاس في أيّهما الكاتب الحقيقي.. في طريق فطيمة وضعتها.. طارت الرّيح بالريشة وطارت فطيمة معها.. جُنت.. حين اِستعادت عقلها كان الشرط أن لا تغتسل أبداً.. هكذا حكوا لنا..
نجلس أمامك، على الطاولة الخشبية قصيرة الأرجل تضع الدومينو لعبتك المفضلة، تختار رفيقك. أنت رفيقي، تقول لي.. من يلعب معنا؟ تسأل.. أنا أنا، يصرخون كلهم دفعةً واحدة.. بالدالة، ترد عليهم.. تختار اِثنين ونلعب.. ونغلب.. أنا وأنت، يا الطيب نفوز دائمًا، تقول لي مبتسمًا. أحيانًا نلعب السبق..
حين نترك اللعبة تأمرني بالإتيان بصندوق من صناديقك الخشبيّة الثلاثة التي تضعها في الزّاوية الشّرقيّة لغرفة الضيوف حيث نحن.. تفتح الصندوق.. تختار كِتابًا ما وتحكي لنا عنه.. هذا الكِتاب جئتَ به من ليبيا عام كذا.. عام الشام أو عام شعبة الآخرة أو عام.. هذا جئت به من تونس.. ذاك من المغرب.. تفتحه وتقرأ لنا صفحةً أو صفحتين.. نستمع إليك.. لكنّنا لا نفقه شيئًا مِمَّا تقرأ.. تغلق دفتي الكِتاب وتعود إلينا تحكي لنا..
تستدرك: سأترك لك هذه الكُتب يا الطيب.. سأوصي اِبنتي معيوفة بذلك..
تلتفت إليهم وتحكي.. مررت بجماعة من أولاد سحنون.. ألقيت السلام عليهم وجلست.. ردوا علي السلام ونظروا إلي بعين خبيثة.. خبيثة، تقول وتضحك. كانوا يوزعون لحم عنزات ذبحوها. أشركوني معكم، قلت لهم.. ولم يجيبوني.. عيونهم تغامزت علي.. كانت رؤوس العنزات مبعثرة حواليهم.. أخرجت كيسًا خيشيًا كان معي ورحت أجمعها فيه متظاهرا بتسهيل الأمر عليهم.. وضعت الكيس على الأرض ورحت أتابع ما يفعلون.. حين رأيت أنّهم قد غفلوا عني حملت الكيس على ظهري وأعطيت رجلي للرّيح.. ولما اِنتبهوا كنت بعيدا.. خلفي راحوا يجرون.. لكنّني عِمر المرة.. حين أدركوا اِستحالة اللحاق بي عادوا إلى لحمهم..
بيده اليمنى أمسك يد الذوادي بن سليمان بن الراهم وضغط على زنده.. باليسرى أمسك اليد الأخرى.. تلوَّى الذوادي.. دمعت عيناه.. حاول التملص دون جدوى..
لا تقل مرةً أخرى “مكانش منها” يا الذوادي، قال له وأطلق سراح يديه.. ضحك العمري بن العياشي ومسعود بن لمبارك والجمعي بن محمّد والمبروك بن سليمان والسعيد بن بلقاسم بن خليفة والبوزيدي بن موسى..
واصل: زرت أولاد عدي.. زرتهم على فرسي البيضاء.. كان اليومُ عرسَ أحدهم.. وكان السباق الخيلي.. في كلّ مرّة كانت البيضاء تسبق..
لا يمكن، قالوا.. عار أن تسبق فرسك كلّ خيولنا.. سنعيد الكرة.. لكن، في هذه الجهة.. كانت الجهة غربية وجهتي شرقية.. رأيتهم يتغامزون وأدركت الخطة.. لكنّها البيضاء..
كنا سبعة فرسان وكان السباق على أشده.. وكان الوادي.. ألجموا خيولهم وتركوني.. ولم تخني البيضاء.. كانت وراء الوادي.. ولم أعد إليهم.. كنت هنا..
لم يقل الذوادي هذه المرة مكانش منها.. وافترقنا..
ما تنساوس لْقِراية نتاعكم يا وْلادي، أوصانا..
مَدْ لي عكازْتي يا الطيب.. في يده كانت عكازته السدرية. باليد الأخرى ساعدته على الوقوف.. كانوا قد اِبتعدوا متوجهين إلى منازلهم للغداء..
ما تنساش الطيب.. ارجع ليَ في لْعشية.. ظهري ياكل فيَ وليس لي من يغسله سواك.. كلهم يعافونني كما تعرف.. ذر أولاد الراهم تعرفْهم.. ورفع كفيه إلى السّماء يدعو لي..
***
في العشية كنتُ عنده.. لم أكن وحدي.. أمّي كانت معي.. ولم تكن وحدها.. رفقة خبزة البيض كانت.. وضعت الخبزة على الطاولة قصيرة الأرجل أمامه.. قسّمتها إلى نصفين.. هذا لك يا عمي الشاوش، قالت له.. وهذا لَخَّيَّكْ الشيخ مْحمد..
يعطيك الصحة، يا صحرة.. ديما تتفكرينا.. ورفع كفيه لها بالدعاء..
نادى: أبنت ساعد هاتي الماء.. وكان الماء خلفه.. كان ساخنًا.. رفعت قندورته من خلفه حتّى عنقه.. بلّلت الكتانة ورحت أغسل ظهره.. هنا يا الطيب.. هنا.. كان يحرك ظهره ويشير بأصابعه على كتفيه إلى الهنا والهنا..
حين اِنتهيت من تنظيف ظهره نادى: آمعيوفة، أرواحي.. كان قد سمع صوتها وقد جاءت زائرة..
هاني جايَّة أدادَّا.. وجاءت.. قبلت رأسه ووقفت..
شوفي أبنتي، الكُتب التي في تلك الصناديق كلها للطيب. إذا قدر الله وفارقتُ دنياكم سلميها له.
هيه أدادا، هيه..
ما تنسايش وشْ وصيتك..
ما ننساش أدادا..
وهي تغادرنا سمعتها تقول: نخلِّي أولادي ونعطي الكُتب للطيب نتاعك. والله ما تكون يا الشاوش عِمر.
سمعت.. ولم يسمع الشاوش..
***
كان الوقت ما بين عصره ومغربه حين قفلت راجعًا إلى بيتنا. المسافة لا تتجاوز حدود الـ: ثلاثمئة متر. في الطريق رأيتها أمام باب بيتهم.. بشوق نظرت إلي وابتسمت.. كانت اِبتسامتها حقل ورودي.. رفعت يدها اليمنى ولوحت لي..
أنا الٱخر اِبتسمت مشتاقًا ولوحت لها بيدي اليسرى..
ثلاث سنوات كانت بيننا.. كنت الأكبر.. كانت طفلتي..
وكان قلبي حينها طائراً قزحيًّا يرفرف عاليًا ويغرد اِسمها.

الرجوع إلى الأعلى