الفلسفة لا تتنكّر للحياة اليومية  وتتغيّر بتغيّر الواقع
* الرواية هي أقرب إلى حقيقة الإنسان وطبيعته من أيّ نوع آخر
في هذا الحوار، يتحدث المفكر والباحث، الدكتور محمّد شوقي الزين، عن مكانة وأهمية الفلسفة ومدى الحاجة إليها وإلى التأمّل الفلسفي لمواجهة الأزمات المتعدّدة التي نمر بها. وعن مدى اِستعاب الفلسفة أو الدراسات الفلسفيّة لوعاء التغيّرات الحياتيّة واليوميّة، واِندماجها وانغماسها في الواقع والراهن ومتتاليّات الأحداث والمُتغيّرات والتحوّلات الفردية والجمعية. كما يتحدث صاحب كِتاب «سياسات العقل»، عن العلاقة الراهنة بين الذات والآخر في ظل ما يحدث من تغيّرات وإرباكات متلاحقة. وعن الترجمة التي يقول أنّه يعمل بها كهواية وتجربة وخبرة تمتحن قدرة اللّغة في الكشف عن طاقتها ومكامنها وفي قدرتها على تبيان عبقريتها ومهارتها.
* حاورته/ نـوّارة لحــرش
غالباً ما تهتم الدراسات الفلسفية بالتغيّرات الحياتيّة واليوميّة للوقوف على حقيقتها
rاِحتفل العالم منذ أيام باليوم العالمي للفلسفة، مع تأكيد مدى الحاجة وأكثر من أي وقتٍ مضى إلى التأمّل الفلسفي لمواجهة الأزمات المتعدّدة التي نمر بها. فهل الفلسفة، أو الدراسات الفلسفيّة تستوعب دائمًا وعاء التغيّرات الحياتيّة واليوميّة؟
محمد شوقي الزين: ليس غالباً ما تهتم الدراسات الفلسفية بالتغيّرات الحياتيّة واليوميّة التي تنفرد بها بالأحرى السوسيولوجيات (عِلم الاِجتماع) وتخصّص مساحة واسعة، في الأمكنة (مراكز البحث) والأزمنة (المسح الاِجتماعي، التقارير، الملاحظات والتجارب..)، للوقوف على حقيقتها. هل معنى ذلك أنّ الفلسفة هي نخبوية في جوهرها؟ هذا السؤال هو سؤال عقيم إذا اِكتفينا بالفصل بين النخبوي والعامّي، والفيلسوف لا ينقطع عن واقعه الحيّ وحياته اليومية التي يحيا فيها ويتحرّك، فيما هو يفكّر فيها بالمفاهيم والمقولات. فقط تنفرد الفلسفة بخطاب خاصّ يعتمد على التجريد وإكساب الوقائع أغلفة نظرية ومفهومية يتداولها الفلاسفة لتكون معاجم خاصّة.
يمكن القول أنّ الفلسفة لا تتنكّر للحياة اليوميّة ولكن لها نظرة تجريدية لها، رؤية عامّة وشاملة. هذا إذا اِكتفت الفلسفة بخطابها الذاتي الّذي يُؤسّس لها مجال وحقل ونظام ومدرسة ومذهب. لكن إذا تقاطعت أطروحاتها مع الأطروحات السوسيولوجية والنفسية والقانونية والسّياسيّة والفنّية، فإنّها تتواصل مع هذه الفروع المعرفية بجسور «التخاصص» interdisciplinarité فتستفيد من المعجم السوسيولوجي أو السيكولوجي أو السياسي بقدر ما تطعّمه بمصطلحاتها وتثريه بمقولاتها وأفكارها. فلا يمكن اليوم الحديث عن الحياة اليوميّة في أوجهها المتنوّعة وأبعادها الإنسانية والتراجيدية ومعطياتها الواقعية والموضوعية دون تسخير أدوات مفهومية نستخلصها من شتّى المعارف والفنون. يُقال في الغالب أنّ تاريخ الفلسفة هو الفلسفة ذاتها كما ذهب هيغل مثلاً، وعلّل البعض ذلك بكون الفلسفة يكمن مجالها في شرح النصوص وتفسير المذاهب وتعليل الوجود، وأنّ متغيّرات الواقع لا تدخل في نطاق اِهتمامها سوى لإدراك هذه المتغيّرات كثوابت مفهومية. ويفسّر هذا الأمر لماذا نعت هيغل الفلسفة كبومة منيرفا «لا تبدأ في الطيران إلاّ بعد أن يرخي الليل سدوله»، بمعنى أنّ التفكير الفلسفي يأتي في نهاية النهار، بعد ضجيج الوجود، بعد التغيّرات والتحوّلات ليتأمّل فيها ليلاً تحت وطأة الاِستبطان والهدوء وضوء القمر. يمكن بالفعل نعت الفلسفة كتأمّل بعدي لوقائع قبلية، فتقوم بجمع شتات الحياة اليومية ولمّ المتفرّقات وربط الأوصال لتمنحها صيغة مجرّدة، خطابية، مفهومية، نسقية، تثبّتها بالنص. لكن، في حقيقة الأمر، تتغيّر الفلسفة مع تغيّر الواقع، لأنّ كلّ قراءة لهذا الواقع، بالمقولات الموروثة والمصطلحات الموضوعة، يُؤثّر في نمط القراءة، فلا تتغيّر المصطلحات في ذاتها ولا المفاهيم في جوهرها، ولكن أرضية القراءة هي التي تتغيّر وزاوية القراءة هي التي تتعدّل، وبالتالي تُؤثّر في الخطاب الفلسفي الّذي يتطوّر ويغتني بأُطر نظرية جديدة وتأويلات فكرية نوعية.
منذ أن اِرتبطت الفلسفة بالأدب والرواية ومنذ أن تواصلت بالحق والقانون أصبحت واقعية
rالمُلاحظ أنّ الدراسات الفلسفية الحديثة اِنزاحت قليلاً عن المثالية والأفلاطونية واندمجت وانغمست في الواقع والراهن ومتتاليّات الأحداث والمُتغيّرات والتحوّلات الفردية والجمعية؟
محمد شوقي الزين: نعم، يمكن القول بأنّه منذ أن أصبحت الفلسفة «لغوية» و»تداولية» أي منذ أن اِفتتح فتغنشتاين الفلسفة على اللّغة وفتحها نيتشه على المجاز وهايدغر على الإمكان، ومنذ أن اِرتبطت بالأدب والرواية، ومنذ أن تواصلت بالحق والقانون، أصبحت واقعية. يتعلّق الأمر بالاِنتقال من المذهبية أو النسقية، التي تكفي ذاتها بذاتها في شكل نسق دوري ترتبط فيه العناصر ببعضها البعض، إلى الاِبتكار النظري والاِشتغال العملي على الوقائع بقراءتها بالمفاتيح المفهومية تجدّد هذه الوقائع بقدر ما تتجدّد بها، لأنّ الاِشتغال على الموضوع هو أيضاً الاِشتغال على الذات. عندما يشتغل الباحث في الفلسفة أو أيّ فرع معرفي آخر فإنّه يشتغل على ذاته بإكسابها المهارة في التحليل والرَويّة في التنظير ويرتقي بذلك إلى رؤى جديدة وتصوّرات نوعية ومتنوّعة. فهو يتغيّر في ذاته بمقدار تغيير رؤيته النظرية وتعديل عُدّته النقدية. اِبتدأ هذا الاِهتمام بالواقع مع فلاسفة أمريكان بحُكم التركة البراغماتية والواقعية في تاريخهم الثقافي والسياسي وأذكر على وجه الخصوص رالف والدو إيميرسون Ralph W. Emerson من القرن التاسع عشر وستانلي كافل Stanley Cavell من القرن العشرين. عمل هذا الصنف من الفلاسفة على تشكيل صورة عن الإنسان اِنطلاقاً من معيشه اليومي وطبعه وسلوكه. ويتمّ ذلك باللجوء إلى الرواية والسرد أي ربط الفلسفة بالأدب، لأنّ الرواية هي أقرب إلى حقيقة الإنسان وطبيعته من أيّ نوع آخر. هناك بالطبع السوسيولوجيات الواقعية التي تعكف على دراسة الإنسان في حياته اليومية، لكن ميولها الموضوعي الصارم وخطابها التجريدي الجافّ يُفقد الإنسان واقعيته ويجعله مجرّد فكرة مجرّدة. لهذا السبب اِنشقّت بعض التيّارات عن السوسيولوجيا الرسمية مثل الإثنوميتودولوجيا أو التفاعلية الرمزية لتمنح للإنسان رواية حياته بنفسه وسرد وقائعه بذاته كتجربة حيّة مباشرة يمكن إدراكها في الخطاب وبالوصف الواعي والحصيف لأفعاله وسلوكياته دون إضافة نظرية زائدة من لدن المُلاحظ وهو الباحث العلمي. لكن هل يمكن بالفعل إدراك الواقع في خصوصيته وفرادته دون وسائط؟ هل يمكن اِقتناصه في حقيقته دون خطاب زائد؟ تبدو محاولة ستانلي كافل مُثمرة لأنّها لا تدعو إلى تعويض الخطاب العامّي والعفوي بالخطاب العلمي والمنهجي، ولكن أخذ هذا الخطاب اليومي والحيّ كظاهرة بارزة لا نضيف إليها تأويلات ولكن بالأحرى تحليلات في شكل تقارير وخبرات وكتابات لها هي الأخرى قوانينها الداخلية ومضامينها الرمزية والتأويلية ولا تتطابق مع الموضوع الّذي تصفه.
لا آخذ الترجمة كحِرفة أمتهنها لكن أعمل بها كهواية وتجربة وخبرة تمتحن قدرة اللّغة
rتشتغل في الفكر والبحث والفلسفة وباللغتين، العربية والفرنسية، كما تشتغل على الترجمة من وإلى اللغتين. ماذا عن كلّ هذه الاِشتغالات، وماذا عن الترجمة؟
محمد شوقي الزين: إنّ اِهتمامي مُتعدّد الأوجه، مُتنوّع المصادر، بحكم تخصّصي أوّلاً لأنّني حامل شاهدتين في الدكتوراه، الأولى في الدراسات العربية الإسلامية والثانية في الفلسفة. فالتخصّص المزدوج وإتقان اللغات الأخرى مكّنني من توسيع آفاق البحث وتمديد مجالات التفكير. أستعمل ثنائية شهيرة عند ميشال دو سارتو لأنعت بها نمط اِشتغالي الفكري: «الإستراتيجية» و»التكتيكية». فالإستراتيجية هي كلّ ما هو صلب وثابت ونتاج تراكمات وبناءات وحوصلة تركيبات، فهي تخصّ أنظمة السياسة والاِعتقاد والبحث العلمي وتتجسّد في هياكل أو مؤسّسات، والتكتيكية هي كلّ ما هو مرن وعفوي، سائل وسائر، يتخلّل الأبنية ويتسلّل في الأوعية كما تعبّر عنه الحركة الدؤوبة في الحياة اليومية. مثلاً اللّغة كأبجدية هي إستراتيجية بقواعدها النحوية وأنماطها البيانية والبلاغية وتصبح تكتيكية عندما تندرج فيها أساليب مجازية وصور اِستعارية، فتزيح تركيبتها الثابتة والمنطقية وتفتحها على الخيال والإبداع والاِبتكار. أحاول أن أضع نفسي في الخط الفاصل/الواصل بين الضرورة المنهجية والأكاديمية والإمكان المعرفي والفكري.
هناك دائماً «رأسمال» نظري نشتغل عليه ونتوجّه به ويُشكّل النواة الصلبة التي تدور عليها بحوثنا وانشغالاتنا النظرية، لكن هناك «صفقات» تزجّ بهذا الرأسمال في مواطن التحويل والتصريف والتنويع. هناك من جهة «الكتابة النسقية» (الإستراتيجية) التي هي نخبوية، موثّقة، متبحّرة تأخذ في الحسبان نمط البيان وصيغة البرهان وتُتعلّل بالحجج والأفكار وهذا ما قُمت به في بعض الأعمال مثل «تأويلات وتفكيكات: فصول في الفكر الغربي المعاصر» (2002)، «تأويلات وتفكيكات2: الإزاحة والاِحتمال» (2008)، «تأويلات وتفكيكات3: صراع الحق والحقيقة في التاريخ الفكري الإنساني». وهناك من جهة أخرى «الكتابة العفوية» (التكتيكية) التي هي استكشافية، مجازية، موزَّعة، تحيد عن المعرفة المقنَّنة لتنفتح على الذاكرة والفنّ والإيقاع والنُظم والمعلومة الحيّة، وفي هذا تنخرط بعض كتاباتي مثل «إزاحات فكرية» (2008) و«الذات والآخر» (2012). لكن، في الحقيقة، لا يوجد تعارض بين الاستراتيجي والتكتيكي، أي بين الأكاديمي والصحفي، بين المفهومي والمجازي، بين البرهاني والسردي من حيث أنّ أحدهما يمهّد للآخر ويؤول إليه وينعطف عليه، فقد تكون الاِستعارة ساخنة تلتف حول الوقائع الحامية (مثلاً الثورات) ثمّ تبرد وتتحوّل إلى مفهوم يتمّ التنظير له وعرضه بلغة منسّقة ومتراصّة كالتي نألفها في الدروس الجامعية أو الأعراف القانونية والقضائية. والعكس صحيح، قد يكون المفهوم الأكاديمي بارداً، يابساً، صلباً، فيتحوّل تحت وطأة الحرارة العفوية والشعلة الذهنية إلى مجاز إذا أحسنّا ربطه بالواقع الحيّ ونافورة التجارب. والغرض هو أن يأتي المشروع الفكري متكاملاً، له وجه إلى المفهوم ووجه إلى المجاز، بين البرهان والبيان، بين الجدّي والمتجدّد، بين الخبرة والاِختبار. ولا شكّ أنّ معظم الفلاسفة كانت لهم هذه الطريقة في الجمع بين المدرسي الأكاديمي (مثلاً ميشال فوكو مع أعماله الأولى «الكلمات والأشياء»، «المراقبة والمعاقبة»..) والعفوي الصحافي (مثلاً حوارات ومقالات ومحاضرات فوكو المجموعة في أربع مجلّدات تحت عنوان «أقوال وكتابات»، بالإضافة إلى محاضرات الكوليج دو فرانس).
تنخرط الترجمة أيضاً في هذه العلاقة المتداخلة بين الاِستراتيجي والتكتيكي. قرأتُ ما كتبه الدكتور طه عبد الرحمن عن الفلسفة والترجمة والّذي يُشكّل مشروعه الفلسفي البارز. لكن عندي رؤية أخرى للترجمة تعتمد على العلاقة بين الحدّين: النسقي-الاستراتيجي والعفوي-التكتيكي. لا آخذ الترجمة كحِرفة أمتهنها وهناك معاهد وبروتوكولات ومنظومات في هذا السياق أي كقواعد وقوانين ينبغي السير وُفقها لتكون الترجمة صحيحة ومعترف بها كما هو الحال مع الترجمات الرسمية ذات السند القانوني والقضائي، لكن أعمل بها كهواية، كتجربة وخبرة تمتحن قدرة اللّغة في الكشف عن طاقتها ومكامنها وفي قدرتها على تبيان عبقريتها ومهارتها إذا تعلّق الأمر بالترجمة إليها أو اِنطلاقاً منها. ويبدو لي أنّ الترجمة تتجلّى في مهارتها العملية في التنظير والمفهمة والتحليل والتركيب أكثر من نتائجها النهائية في تطابق اللغات أو الاِنسجام الحرفي بين النصوص.
الذات العربية هي الآن أداة يستخدمها الآخر «الغربي»  في صيانة المصالح والاِمتيازات
rاِنطلاقًا من عنوان كتابك «الذات والآخر: تأمّلات في العقل والسياسة والواقع». كيف تقرأ العلاقة الراهنة بين الذات والآخر في ظل ما يحدث من تغيّرات وإرباكات متلاحقة؟
محمد شوقي الزين: ينبغي تجريد العلاقة بين الذات والآخر من طوباويات «حوار الحضارات» وأيضاً من مفازع «صراع الحضارات». ينبغي النظر إليها كعلاقة مركّبة، معقّدة، متداخلة، فيها الحوار تبعاً للمصالح والمواقع وفيها الصراع لذات الأسباب. إذا تحدّثتُ عن الذات العربية فهي في موقع الوهن والعجز على أكثر من صعيد، بينما الآخر (الأوروبي، الأمريكي، الروسي، الآسيوي..) هو في موقع القوّة بِمَا يُنتجه من ثروات وما يبتكره على مستوى الاِقتصاد والسياسة والمعلومة. المشكلة في هذه المعادلة أنّ «الذات العربية» لها الغِنى في الموادّ الخام ولكن تفتقر إلى وسائل تحويل هذه المواد إلى تكنولوجيات وصناعات. فهي تعيش بها وتقتات منها ببيعها إلى «الآخر الغربي» الّذي يصرّفها إلى أدوات ووسائل وأجهزة ويُحرّك بها طاقته الإنتاجية. وبِمَا أنّ الموادّ الخام (المحروقات عموماً) هي متركّزة في الجغرافيا العربية، فإنّ الرهانات والمصالح الجيو إستراتيجية تنصبّ على هذه المنطقة، ويسهل على الآخر إدارة هذه المنطقة بحكم أنّ الذات ليست لها المقوّمات السّياسيّة والإستراتيجية والبراغماتية للاِضطلاع بإدارة نطاقها الجغرافي والقومي.
نعرف أنّ الصراعات العالمية هي اليوم متركّزة في المنطقة العربية منذ اِندلاع الاِنتفاضات في أكثر من بلد عربي، حيث خصّصتُ قسماً من الكِتاب حول هذه الاِنتفاضات. لقد طرحتُ فكرة أنّ هذه الثورات كانت مشروعة ولا أحد يمكنه أن يشكّك في الدافع المفجّر لها: البطالة، الفقر، القلق، القهر، اِنعدام الحريات، اِنسداد الآفاق، إلخ. إذا كانت المنطلقات مشروعة ومفهومة، فإنّ النتائج يمكن أن تكون عكس الأمنيات المرجوّة تبعاً لهذه العلاقة المعقّدة بين الذات والآخر، حيث تحوي «الذات العربية» على ثروات هائلة والآخر له ألف حساب وتقدير لاِستغلال هذه الثروات في عزّ الأزمات الاِقتصادية العالمية، وبالتالي يعمد إلى ترتيب الخريطة السّياسيّة والجغرافية للمنطقة العربية تبعاً لمصالحه القومية. لكن أميل إلى القول بأنّ هذه الذات هي الآن بالأحرى أداة يستخدمها الآخر في صيانة المصالح والاِمتيازات، وهي ليست ذات بالمفرد رغم الاِشتراك في التاريخ والجغرافيا واللّغة والدين، ولكنها ذات ممزّقة ومتفرّقة تبعاً لحساسيات طائفية ومذهبية. ويساعد هذا التشرذم الطائفي، سليل الحساسيات الدّينيّة والألسنية، في إحكام القبضة على الذات. لكن لا أريد أن أهيم في التجريدات اللاواقعية، لأنّ فكرة «الذات والآخر» ليست لها بنية ذريّة ثابتة، بل تتمتّع بتركيبة علائقية، على اِعتبار أنّ الذات هي «ذوات»، هي «نحن» متعدّد الأذواق والتمثّلات والسلوكيات. كذلك، ليس «الآخر» مجرّد كتلة متوحّدة أو منظومة منسجمة، بل هو طبقات متراصّة من الفعل وردّ الفعل، من السياسة الرسمية التي تنتهجها الدول في الحفاظ على مصالحها والسياسات الموازية التي تتبنّاها المنظّمات المستقلّة والجمعيات المعارضة ودينامية المجتمع الغربي نفسه. فالأمور هي أعقد من أن نختزلها في ثنائية (الذات/الآخر) مجرّدة وخالية من الواقعية والتواطؤ.

الرجوع إلى الأعلى