اِنتشر الفضاء الإلكتروني بشكلٍ كبير وشاسع وبغير حدود أو ضوابط، وبالموازاة مع اِنتشاره وتطوراته المتسارعة، اِكتسح الحياة الاِجتماعيّة والسّياسيّة على حد سواء وبشكلٍ لم يحدث من قبل مع مختلف الفضاءات العموميّة التقليديّة، هذا التطوّر الاِلكتروني قلّص من مكانة الفضاء العمومي ومن دوره في توجيه المجتمع والتأثير عليه من مختلف الجوانب. وكما هو ملاحظ ومعلوم فإنّ لهذا الفضاء الاِلكتروني أو الرقمي تأثيراته الكثيرة السلبيّة والاِيجابيّة على حياة الأفراد وعلى الحياة الاِجتماعيّة والسّياسيّة بشكلٍ عام.
استطلاع/ نــوّارة لحــرش
وهذا ما يدفع إلى محاولة تحديد آثار اِنتشار الفضاء الإلكتروني على الحياة الاِجتماعية والسّياسيّة للفرد وعلى المُجتمع ككلّ، مع ضرورة مُواكبة متطلبات وتحوّلات «المجتمع الإلكتروني»، أو «مجتمع المعلومات» باِعتباره ذلك المُجتمع القائم على توظيف التكنولوجيا عمومًا وتكنولوجيا المعلومات على وجه التحديد في كلّ المجالات الاِقتصادية والسّياسيّة والاِجتماعية وصولاً إلى ما يُمكن تعريفه بــ»مجتمع المعرفة».  «كراس الثقافة» لهذا العدد، يفتح ملف «الفضاء الاِلكتروني وتأثيره على الحياة الاِجتماعيّة والسّياسيّة»، مع مجموعة من الأساتذة والباحثين الأكاديميين المختصين في العلوم السّياسيّة، الذين خاضوا في هذا الشأن من جوانب مختلفة لكنّها تلتقي تقريبًا في نفس السياق التحليلي، خاصة وأنّ الاِهتمام بتأثير الفضاء الرقمي على حياة الأفراد والمجتمعات، تتشاركه وتتقاسمه معظم المجتمعات والدول في العالم.

نبيل دحماني: أستاذ العلوم السّياسيّة -جامعة الصالح بوبنيدر. قسنطينة 03
الفضاء الرقمي قلّص دور الفضاء الواقعي
عرفت العقود الأخيرة تزايد الاِهتمام بتأثير الفضاء الرقمي على حياة الأفراد والمجتمعات، في ظل الطفرة المعلوماتيّة والتكنولوجيّة الهائلة منذ بداية تسعينيات القرن الماضي وهي الفترة التي عرفت تفكك الاِتحاد السوفياتي وبروز الولايات المتحدة كقوة عالميّة وحيدة مُهيمنة، وذلك اِنطلاقًا من محطتين أساسيتين؛ تتمثّل الأولى في: ظاهرة تفجر المعلومات، فكلّما تعقدت أساليب الحياة كلّما تراكمت المعلومات واتسع نطاق اِستخدامها، مِمَّا سيزيد من حاجة الأفراد للمعلومة قصد اِتخاذ القرارات السليمة.
أمّا الثانية: فتتمثل في اللحظة التي عرفت اِندماج ثلاث وسائل اِتصال في جهاز واحد الهاتف والتلفاز والراديو أو وسائط المُهاتفة والسمعي بصري والاِتصال بالإنترنت من خلال الهاتف الذكي أو الحاسب الذكي المحمول واللوحات الاِلكترونية بتطبيقاتها المُختلفة، فقد حلت المواقع الاِلكترونية محلّ الصحافة الورقية والتلفزيون والراديو والبريد العادي ودور السينما والمسارح وحتّى المقاهي والنوادي، هذا الاِندماج النوعي في الوسائط يُطلق عليه تسمية: Telematique Funication، حيث اعتبر كلّ من (سيمون نورا) و(إلين ماين) ذلك بأنّه ثورة اِتصالية غير مسبوقة وستؤدي إلى خلق فضاء عام الكتروني يُؤثر ويتأثر بشتى مناحي حياة الناس على أساس كوني يتجاوز كلّ الحواجز والحدود التقليدية، ويعدُ حسب (ريتشارد مينش) بمثابة القناة فوق القوميّة، التي تتوجه لمواطن عالمي بغض النظر عن الخصوصيات الثقافيّة واللغويّة، وعدها (دانيال بيل) ثورةً رابعة من ثورات التفاعل الاِجتماعي في تاريخ المجتمعات الإنسانيّة، بعد كلّ من ثورات الكلام والكتابة والطباعة، فيما ينظر إليها البعض على أنّها ثورة اِتصاليّة خامسة. بعد كلّ من ثورة تطوّر اللّغة، ثورة التدوين، ثورة اِختراع الطابعات في منتصف القرن الخامس عشر، ثورة اِكتشاف الكهرباء والموجات الكهرومغناطيسية والتليغراف والهاتف، ثورة التصوير الفوتوغرافي والسينما، وظهور الإذاعة والتلفزيون.
غير أنّ هذا التطوّر قلّص من الفضاء العمومي ومن دوره في توجيه المجتمع والتأثير عليه، بعدما حلّ الفضاء الرقمي محله، فحسب (يورغن هبرماس) يُمثل الفضاء العمومي مجالا حيويًا من خلال النوادي والمسارح ودُور العرض والمعارض والمقاهي والساحات العامة التي كان يلتقي فيها الأفراد من أجل مناقشة شتى المواضيع الحياتيّة والثقافيّة والفنيّة والرياضيّة كالشِّعر والمسرح والرواية والرسم، والقضايا الاِجتماعية الأخرى كالزواج والطلاق والمستوى المعيشي، في هامش من الحرية والديمقراطية.
بيد أنّه مع بداية القرن الحادي والعشرين حل الفضاء الرقمي محل الفضاء العمومي الواقعي، وأصبحت جل تلك المواضيع السابقة تُثار اِلكترونيًا، فتوارت النُّخب عن الفضاءات العامة وانطوت خلف هواتفها النقالة وحواسيبها، واكتفى الكُتّاب والشعراء والفنانون، وحتّى الساسة ورجال الدين، بنشر أفكارهم ومُناقشتها ومُحاججتها عبر مواقع التواصل الاِجتماعي والمدونات الاِلكترونية ومواقع التخزين السمعي البصري. مُفلتةً بذلك من أيّ رقابة سابقة، ومستعينة بمظاهر التواصل الرقمي القائم على السرعة
 واللا تماثليّة في الاِتصال.
وإذا كان لا يختف اِثنان في قدرة الفضاء الرقمي اليوم في التأثير البالغ والكثيف على حياة الأفراد غير أنّه قلّص من فعّاليّة الاِحتكاك الإنساني واختزل الجغرافيا البشريّة في زاوية تفاعل حادّة، لا تسمح إلاّ بنشر قيم مُعينة تُوجهه منظومة عولميّة واحدة لا تهتم للخصوصيات الثقافيّة والعرقيّة بقدر اِهتمامها بتوحيد القيم ودمجها في منظومة واحدة معولمة.

عبد القادر دندن: أستاذ العلاقات الدولية -جامعة عنابة
الأخبار الكاذبة في الفضاء الإلكتروني تلاعبٌ بالحقيقة ضحيته الوعي
عندما تقف أمام اِختراع بعض الشعوب لعادات وأعياد تتعلق بالكذب، مثل كذبة إبريل ومهرجان الكذِب، يتبادر للذهن أهم تساؤل حول ما إذا كان الكذب مُفتقدا في حياتنا لدرجة أصبحنا نبحث فيها عن مساحات لمُمارسته علنًا؟ بينما نحن في واقع الأمر أمسّ ما نكون للحقيقة من أيِّ شيءٍ آخر في زمن أضحت فيه الحقيقة أكبر ضحايانا، ولا يتعلق الأمر هنا بماضينا وتاريخنا وما فيه من أحداث سابقة فحسب، بل اِمتدَ إلى حاضرنا، وصدق من قال: «كيف نثق في التاريخ إذا كان الحاضر يُزيف أمام أعيننا؟». الكَذِب وتزييف الحقائق ونشر الشائعات المُعراة من الصِدق ليس أمرا جديدا في تاريخ البشرية، إلى الحد الّذي يبدو معه أنّه حقيقة من حقائق التاريخ والسلوك الإنساني.
ومِنْ الواضح أنّ الكَذِب خصوصًا في شقه السياسيّ يتطور في أشكاله ومضامينه وأدواته تماشيًا مع تطورات العصر، فمن قُصاصات «الباسكوندي» التي كان يكتبها أحد الشعراء الإيطاليين في القرن السادس عشر، ينشر فيها الأخبار المُشينة وكثيرٌ منها كاذب عن المرشحين المُنافسين لآل ميديتشي في الاِنتخابات البابوية آنذاك، إلى منشورات «الكانارد» في فرنسا غداة الثورة الفرنسية، والتي كثيرا ما حملت أخبارا كاذبة ساهمت في تأجيج الغضب الشعبي ضدّ العائلة المالكة، وصولا إلى «البروباغوندا» التي خيمت على أجواء الحرب الباردة واتخذت من البث الإذاعي ثمّ التلفزي والصُحف الورقية فضاءً لنشر إشاعاتها، غير أنّ الكذب يعيش أزهى أيّامه في زمن التكنولوجيا الرقميّة التي تلعب دور الراعي الرسمي لكلّ ما هو زائف.
سمحت التكنولوجيا الحديثة وخلقها لفضاءٍ تفاعليّ مائع ومرن ومُتاح للجميع وأكثر اِستعصاءً على الرقابة مقارنة بالآليات التقليديّة الرسميّة، باِنتشار ما يُعرف بالأخبار الكاذبة أو المُزيفة (Fake News) عبر الإنترنيت والمواقع التي تشغلها ووسائط التواصل الاِجتماعي، بحيث أضحى من الشائع التلاعب بالصور، وترجمة الخطابات الرسميّة، ونشر تغريدات باِسم حسابات شخصيات شهيرة سياسيًا وفنيًا ورياضيًا، وتقديم مقاطع فيديو على أنّها تخص حدثا مُعينًا بينما هي في الحقيقة قديمة وتتعلق بأحداثٍ أخرى، مع اِصطناع اِستطلاعات رأي إلكترونية حول قضيةٍ ما، والتلاعب بنتائجها بِمَّا يخدم مصالح جهة ما، والأخطر أنّ هذه الأعمال لم تعد تقتصر على تصرفاتٍ معزولة لأفراد بعينهم، بل تبنتها هيئاتٌ وجهاتٌ ذات نفوذ ومصالح وإمكانات مادية كبيرة، ووجدت العديد من الدول في ذلك فرصةً لتجنيد وكلاء يُروجون لأكاذيب وأخبار تخدم توجهاتها وتُشوه صورة مُنافسيها وأعدائها، سواء كان المقصود بذلك مؤسسات أو دول أو مُعارضين بارزين.
لقد أصبح الكَذِب صناعةً تستثمرُ فيها الدول والمُؤسسات المُختلفة أموالاً طائلة، لتشكيل جيوش اِفتراضية تخوض حروبًا من نوعٍ آخر، يبرز فيها الخبر الكاذب ويتوارى صانع الخبر في غُرفٍ مُظلمة، وأصبح من الشائع سماع مُصطلحات من قَبِيل الذباب الإلكتروني، وما ينجر عنه من نشر للفتن وعوامل الاِنقسام والتحريض، ومحاولات تشويه طرف ما، وبُمقابل ذلك شرعت عِدة دول في تطوير آليات مُضادة للأخبار الكاذبة على المُستويين المحليّ والدوليّ، ولكن الأمر مُعقد والتحكم فيه يزدادُ صعوبة بقدر تعقد الفضاء الإلكتروني والفرص التي يُتيحها لمحترفي هذا النوع من الأخبار، غير أنّ حَبل الكَذِب سيبقى قصيرا مَهمَّا بدَا أنّه يتطور ويطول.

إكرام بخوش: أستاذة وباحثة في العلوم السّياسيّة والعلاقات الدولية -جامعة بسكرة
فضاء يسهّل الحياة ويهدّدها في آن
تجدرُ الإشارة إلى أنّ عصرنا اليوم هو عصر الرقمنة والتكنولوجيات الحديثة، حيث ساهمت الأخيرة في الانِتقال إلى عصر تحكمه «أدوات» جديدة لم تكن موجودة في السابق، وهذا ما أثر على الحياة الاِجتماعية والسّياسيّة عامة ومجال العلاقات الدولية بشكلٍ خاص، وأدى إلى بروز بعض الأنواع الجديدة من القوة الممنوحة  للدول في إدارة شؤونها السّياسيّة سواء الداخلية أو حتّى الخارجية، وهي قوة الفضاء الاِلكتروني التي عرّفها جوزيف ناي بأنّها «القدرة على تحقيق الأهداف المرجوة من خلال اِستخدام مصادر المعلومات المرتبطة بالفضاء الالكتروني».
لقد أحدث هذا الفضاء ثورةً في طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم ونمط الاِتصال بينهما، وعرفت المؤسسات السّياسيّة في الدول تحوّلا في طبيعة عملها، وهو ما يُؤثر على قوة الدول واستقرارها السياسيّ، وإعادة تشكيل القوة والثروة بين أطراف المُجتمع المحليّ، وبالتالي إعادة تشكيل العلاقة بين الأدوار الداخلية لأي دولة وأدوارها الخارجية في مجال العلاقات الدولية.
من هنا تحديدًا يمكن القول بأنّ الفضاء الاِلكتروني تبلور كمجالٍ خامس جديد في العلاقات الدولية، حيث أصبحت التفاعلات الدولية اليوم ترتكز عليه كثيرا، مِمَّا جعل الدول تتجه نحوه بشكلٍ كبير جدا عبر تبني ما يُعرف بالحكومات الذكية، ووصل الأمر في بعض الأحيان إلى بناء «مُدن ذكية» أيضا، وهذا يرجع أساسًا إلى سهولة اِستخدام هذا الفضاء من جهة وكذا رُخص تكلفة اِستخدامه من جهةٍ أخرى، حيث تُشير الإحصائيات إلى أنّه مع حلول سنة 2018 وصل عدد مستخدمي الإنترنت إلى 3.6 مليار مستخدم، وهي نسبة تُعادل نصف سكان العالم. كلّ هذا جعله أحد فواعل العلاقات الدولية في شكلها غير التقليدي، من خلال قدرته في التأثير على قوة وسيادة الدول، لاسيما مع اِرتفاع حالة الاِنكشاف الداخلي وسهولة التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية للدول.
لقد وصلت قُدرة هذا الفضاء في التأثير على الشعوب وأفكارهم من قِبل قِوى جديدة عابرة للحدود، وهذا ما كشف عن مطالب واِحتياجات الشعوب بشكلٍ حقيقي دون أيِّ مُزايدات، وهي اِحتياجات تفوق في بعض الأحيان قدرات النظام السياسي، مِمَّا كشف عن عجز بعض الأنظمة السّياسيّة وبالتالي هذا يُوَّلِدُ بعض الإحباط المُنتج للعُنف لدى الأفراد، ومن جانبٍ آخر يُؤثر على أمن الدول عبر وجود شبكات الاِستخبارات الدولية الناشطة إلكترونيًا من جهة، وسيطرة الشركات الدولية مُتعدّدة الجنسيات على البُنى التحتية للتكنولوجيا من جهةٍ أخرى، وعليه وكنتيجة للتوسع في اِستخدام هذا الفضاء في مجال العلاقات الدولية فقد كان من الطبيعي دخوله إلى ميادين الحروب المُعاصرة عبر اِستخدامه في بث الرعب لدى المدنيين، بالإضافة إلى أنّه يتمُّ من خلاله الاِطلاع أو حتّى سرقة المعلومات والبيانات العسكرية أو التلاعب بها، عبر اِختراق الشبكات الخاصة بالمؤسسات الأمنية، وذلك بهدف الإِطلاع على الاِستراتيجيات الأمنية والعسكرية أو حتّى خرائط أنظمة التسلح أو التصميمات الخاصة بالمُعدات العسكرية.
كما يبرز أيضا دور الجماعات الإرهابية في الفضاء الاِلكتروني، حيث سعت هذه الجماعات إلى الاِستفادة من تكنولوجيا الإنترنت لتحقيق الاِتصال والتواصل وتبادل المعلومات بينهم، وكذا للوصول إلى العالم الخارجي لتمرير رسائلهم إلى المُجتمع الدولي، عبر شبكات التواصل الاِجتماعي على مختلف أنواعها، ثمّ تطور الأمر إلى أن أصبحت الجماعات الإرهابية تبثُ عملياتها بشكلٍ مُباشر لبث الرُعب لدى العالم الخارجي. إنّ تأثير الفضاء الاِلكتروني على الحياة السّياسيّة عمومًا والعلاقات الدولية خصوصًا كان له جانبان أحدهما اِيجابيّ والآخر سلبيّ، يُساهم الجانب الأوّل في تقريب الشعوب وتعزيز العلاقات الدولية وتبادل التكنولوجيات والتطبيقات الحديثة بين الدول، خاصة الاِستفادة من نقل التكنولوجيات الحديثة من الدول المُتقدّمة إلى الدول النامية أو السائِرة في طريق النمو، بحيث تُساهم تلك التقنيات في تقليص الفجوة الرقمية وتحفيز النمو الاِقتصادي وبالتالي تحقيق التنمية المُستدامة، أمّا الجانب السلبيّ فيتجلى في مُساهمة تلك التكنولوجيات الحديثة خاصة وسائل التواصل الاِجتماعي والمدوّنات في إسقاط بعض الأنظمة السّياسيّة وكشف أسرار أمن الدول، بالإضافة إلى اِختراق البُنى الأمنية والعسكرية بهدف التجسس في بعض الأحيان.

مسعود حساني: أستاذ وباحث -جامعة محمّد خيضر بسكرة
الفضاءات الإلكترونية التهمت الحياة الاجتماعية
أضحى الفضاء الإلكتروني وجهة العام والخاص في المُجتمع العالمي بشكلٍ عام، والمُجتمع الجزائري بشكلٍ خاص بصفته أحد مكونات هذا الأخير، وقد أصبح في الأوساط الشعبيّة شعار من ليس لديه هاتفٌ نقال متطور يتواصل من خلاله عبر الانترنت كالجاهل الّذي لا يقرأ ولا يكتب، بل تعدى ذلك إلى منافسة بين أفراد المجتمع في نوعية الهواتف والحواسيب وأيضا عدد العضويات والبرامج الاِلكترونية والمواقع والصفحات المُعجب والمُتابع لها. وحسب دراسات علمية فقد أخذت مواقع التواصل الاِجتماعي عبر شبكة الإنترنت مساحة كبيرة من ناحية الاِستخدام، هذا ما أدى إلى تأثير اِستخدام الفضاء الاِلكتروني على المواطن أولا في الحياة السّياسيّة من خلال عدة محاور، بدءا من نشر الوعي السياسيّ ومحاولة اِستمالة الشباب نحو الاِنخراط في الأحزاب السّياسيّة، وهذا ما نشاهده خلال السنوات الأخيرة من إنشاء مواقع اِلكترونية وصفحات عبر مختلف مواقع التواصل الاِجتماعي.
والعلاقة الثانية هي بالحياة الاِجتماعية حيث أنّ الشائع في اِستخدام الفضاء الاِلكتروني للتواصل والدردشة ونشر التحديثات المُختلفة، إلاّ أنّ درجات الوعي والمسؤولية الاِجتماعية أصبحت واضحة المعالم مع جيل التكنولوجيا من خلال مختلف الحملات التطوعية المُنظمة التي يشرف عليها الشباب وتكون في أغلبها ناجحة. كذلك نجد أنّ المدونات والصفحات الشخصيّة أصبحت وجهة الكثير من أطياف المجتمع للمتابعة والتفاعل بمختلف أعمارهم وهي تُساهم في صنع الرأي العام ونقل الأفكار والتوجهات وبالتالي قد تُساهم في صنع المواقف، حيث من خلال الفضاء الاِلكتروني يُتابع المواطن مُختلف المنشورات المُتعلقة بالحياة اليوميّة، والاِطلاع على المُستجدات التي تخص الشأن العام والخاص لحظةً بلحظة من قلب الحدث، حيث نرى اليوم الصفحات الرسميّة لمختلف المؤسسات الحكومية تنشر الإعلانات الرسمية والاستدعاءات والإعلان عن مُختلف المشاريع والمُناقصات والمزايدات... إلخ، ونجد حتّى المحلات والمتاجر تعرض سلعها وتُباع عن بُعد عبر التسويق للمُنتجات والسلع المُختلفة، لقد اِنتقلنا بكلّ هذا الزخم لتقريب الحياة اليوميّة للمواطن (السّياسيّة والاِجتماعية) إلى الفضاء الإلكتروني، إلا أنّ الفضاءات الإلكترونية أثرت سلبًا على المجتمع، وأصبحت الجلسات العائليّة جامدة من الحوار والنقاش، وأصبحنا نُشاهد مظاهر اِستخدام الهواتف الذكيّة في جلساتنا، وأصبحت المحاكم تُعالج قضايا الطلاق لأسباب ذات صلة، وقضايا الاِبتزاز والتعدي على الأشخاص والحريات العامة...إلخ.
إنّنا أمام تحديات كبيرة وخاصة للأجيال القادمة من خلال اِستخدام الفضاء الإلكتروني والتكنولوجيا بشكلٍ عام في الحياة السّياسيّة والاِجتماعيّة. والواجب على الآباء والأساتذة والأئمة والجمعيات والمنظمات والطبقة المُثقفة والمسؤولة أن تُساهم في التوعيّة والنُصح بمخاطر اِستخدام التكنولوجيا فهي سلاحٌ ذو حدين، وعلينا أن نصل إلى درجة الوعي الكافي والضروري بكلّ هذا.

موسى بن قاصير: أستاذ العلوم السّياسيّة -جامعة الصالح بوبنيدر. قسنطينة 03
شكلٌ للاِستعمار الحضاري الجديد
لطالما كانت الاِختراعات العلميّة والاِكتشافات نتاج فكر الإنسان، فهي تحمل قيمًا والكثير من المعاني، وليست مجرّد أدوات سهلت حياة الإنسان ونقلته من عصر الزراعة والصيد إلى عصر ما بعد المعلومات. عبر ثورات صناعيّة مُتتالية اِنتهت إلى عصر التكنولوجيا الرقمية وانترنت الأشياء، أين أصبح هذا الفضاء الجديد ساحةً للصراع وساحة لنشر الأفكار وفضاءات تعبير عن مستوى تقدم علمي لحضارة غربية وصلت إلى أقصى حدود التطوّر التقني، الّذي يتطلع إلى تطوير الذكاء الاِصطناعي والمُدن الذكية. في نفس الوقت تبحث مجتمعات أخرى عن اللحاق بركب التطوّر تقنيًا، بينما بقيت مجتمعات أخرى تتلقى وتستورد هذه التقنيات مكتفية باِستعمالها مسايرة لسرعة العوالم المتقدمة. لكن علينا أن نقف موقف متأمل حيّال هذه القضية. هل طورت هذه التقنيات من أجل الترف الفكري؟ هل بقيت مراكز التحكم فيها في الدول المتقدمة خاصة الولايات المتحدة الأمريكية لمجرّد سبب تاريخي أم هي مقصودة في إطار العولمة والأمركة العابرة للحدود في إطار القرية الكونية الماكلوهانية؟ وإلى أي مدى يستعمل هذا الفضاء من قِبل حضارة أخرى لنشر أفكار وأنماط حياة تُجسد مُعتقداتهم لسلخ مجتمعات أخرى عن أصولها عبر ما يُنشر عبرها؟
لم تكن البدايات الأولى لهذه الشبكة العنكبوتيّة إلاّ مجرّد رد فعل على تهديد عسكري، لكن بالوصول إلى بداية التسعينيات أصبحت الشبكة تحمل أبعادا سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة وحضاريّة. بعدما اخترع تيم برنارز_لي www.هنا بدأت المجتمعات غير الغربية خاصة العربيّة والإسلاميّة تواجه خطرا مجتمعيًا، لأنّ الهدف الخفي لدورها حتى وإن لم تُعلن عنه حكومات ومخابر الفكر الغربيّة أصبح جليًا لكلّ لبيب ومُتابع لما يُنشر عبرها. فهي تنتشر تحت مسميات الاِنفتاح العالمي ومُسايرة العصرنة، إلاّ أنّه بالعودة إلى حقيقة الصراع الحضاري بين المجتمعات المحافظة وخاصة الإسلامية والعربية من جهة والحضارة الغربية الصليبية من جهة أخرى، يكشف لنا كيف أصبحت سلاحًا فتاكًا اِستطاعت عبره هذه المراكز الاِستغناء عن جيوش جرارة، حيث أنّ سهولة الولوج إلى هذا الفضاء مكَّنَ من إيجاد أدوات تأثير منها ما هو طويل الأمد ومنها ما هو بعيد الأمد ويمكن ملاحظته من خلال: نشر أفكار متعلقة بحقوق الإنسان والأقليات تحت مسميات الحرية والمساواة لكن الهدف منها لم يكن الإنسان ولن يكون بقدر ما هو إيجاد منفذ لخلق نعرات تُفرق أكثر من أن تجمع أبناء الدين الواحد، حتّى تسهل السيطرة والاِستغلال.
أيضا تسويق أفكار وبرامج مُوجهة للشباب الذين هُم من المفروض عماد قوة المجتمع، حيث أصبحوا يتلقون الأفكار والموضات التي تُبعدهم عن أصولهم أكثر، إذ كلّما تخدر الشباب أُهدرت طاقات الأمة.
كما نجد نشر البرامج الإعلامية المُبرمجة عبر الفايسبوك واليوتيوب..... ساهمت في مسخ شريحة كبيرة من الأجيال الجديدة خاصة وأنّها برامج مدروسة نفسيًا لمجتمعات تُعاني من فراغ روحي وديني. حيث أصبح الشباب من شرق الأمة إلى غربها على شاكلة واحدة ينشدون الحرية في الكلام، في اللباس، في العلاقات الاِجتماعيّة، والعاطفيّة والجنسيّة. وتعدتها لتمس حتّى البرامج التعليميّة. ليتم تعريف المفاهيم بطريقة مُحرفة.اِستعمال هذا الفضاء من قِبل المؤسسات الدّينيّة الغربيّة لتنصير الكثير من الشباب والفئات المحرومة والمُهمشة، خاصة وأنّ هذه المواد تمر دون رقيب ولا حسيب مِمَا يجعل سهولة وصولها إلى الجميع في ظل وجود هاتف محمول مربوط بالشبكة في يد كلّ فرد.
هيمنة المركز المُتطور على إدارة هذه الشبكة يجعل مسألة التجسس وجمع المعلومات والاِطلاع على خصوصية المجتمعات المستهدفة سهلا ومنه دراسته اِجتماعيًا ودينيًا وديمغرافيًا وأنثربولوجيًا في المُتناول لأنّ صناعة الهيمنة الحضاريّة وتهديم أُسس المجتمعات الأخرى ليست قرارا سياسيًا بل مسألة تخطيط علمي مُتقن ويقيني في حالات كثيرة.
الفضاء الإلكتروني ليس مجرّد هيمنة تقنية بقدر ما هو شكلٌ للاِستعمار الحضاري الجديد الّذي يُحارب الخصوصيّة المجتمعيّة تحت دواعي الحداثة المُغربَنة المُغلفة بشغف العِلم. لمُعالجة هذه المُشكلة يستدعي الأمر منا البحث عن القوة التي هي سبب تراجعنا وتقهقرنا وتُمكِن الآخرين منا. بالبحث العلمي وتطوير مناهجنا الدراسية بما يُثّمِن تحررنا العلمي والفكري يُمكننا المحافظة على قيمنا المجتمعيّة التي تعبر عن خصوصيتنا. فالتقنيّة ضرورة لكن ليس باِستيرادها فقط لكن باِختراعها داخل دولنا. ثمّ إعادة الاِعتبار لمؤسسات التنشئة عندنا خاصة الرقابة الأسرية، والمجتمعية والتربوية وتدعيم الجامعات ومراكز البحث لتنتج الإنسان الواعي وتصنع السلاح التكنولوجي الّذي يردع الآخرين عبر هذه الشبكات وإعادة الاِعتبار للقيم عمليًا لا نظريًا. أمّا من الناحية السّياسيّة يستلزم الاِنعتاق من النماذج التقليديّة التي لم تغادر عصر البارود للتفكير في عناصر قوة فاعلة تقف حصنًا منيعًا لحماية المجتمع لأنّ الخِطاب لم يعد يُجدي نفعًا. وإلى غاية اليوم سنبقى في حُكم التابع للأمم التي تسعى إلي الهيمنة وتريد فرض منطقها بالعِلم لا بالأماني. ومن واجب من فهم قواعد الصراع الحضاري بأن يُوصل الفكرة الرئيسة للبقاء الحضاري. بأنّ المسألة صراع وجود لا صراع حدود وموارد.

محمّد الصدّيق بن زعتات: أستاذ العلوم السّياسيّة -جامعة الصالح بوبنيدر- قسنطينة 03
التكنولوجيا صهرت الطبيعة الإنسانية في تركيبة مجتمعية جديدة ومُغايرة
من المُؤكد أنّ الاِنفتاح والتطوّر التكنولوجيين اللذين شهدهما العالم خلال عشريتي القرن الحالي، قد فاقا إلى حدٍ بعيد كلّ التطورات التكنولوجية على مدى الــ60 سنة الماضية من القرن المُنصرم مجتمعةً، حيث تشير التقديرات الدولية حاليًا إلى أنّ مُستخدمي الفضاءات الإلكترونية يتعدى الــ4 مليار نسمة بنسبة تفوق الـ%50 من سُكان الكُرة الأرضية مع تسجيل تزايد سنوي للاِستعمال يُقدر بحوالي %7 سنويًا. وبُمعدل مليون شخص يوميًا مع تسجيل اِرتفاع الاِستخدام الفردي للإنترنيت بمعدل 6 ساعات يوميًا.
من جهةٍ أخرى، بلغ عدد مستخدمي وسائل التواصل الاِجتماعي سنة 2018 حوالي 3 مليار نسمة وباِرتفاع سنوي قُدِر بــ%13 في وقتٍ فاق عدد مستعملي الهواتف النقالة الـ5  ملايير نسمة وباِرتفاع سنوي قُدِرَ بــ%4  سنويًا. تحليل المُؤشرات السابقة يُوحي بتحوّل الطبيعة الإنسانية تدريجيًا شيئا فشيئا نحو الاِنصهار داخل تركيبة مجتمعية جديدة ومُغايرة، بمحددات قائمة أساسًا على التحوّل نحو مجتمع بخصائص جديدة مُرتبطة بهذه التطورات الإلكترونية. ما يدفعنا إلى ضرورة تحديد آثار اِنتشار الفضاء الإلكتروني على الحياة الاِجتماعية والسّياسيّة للفرد وعلى المُجتمع ككل من مدخل ضرورة مُواكبة حتمية متطلبات «المجتمع الإلكتروني»، «مجتمع المعرفة» أو «مجتمع المعلومات» باِعتباره ذلك المُجتمع القائم على توظيف التكنولوجيا عمومًا وتكنولوجيا المعلومات على وجه التحديد في كلّ المجالات الاِقتصادية والسّياسيّة والاِجتماعية وصولا إلى ما يُمكن تعريفه بــ»مجتمع المعرفة» كأرقى صور التطورات المجتمعية التي عرفتها البشرية في مقابل التزايد الكبير في حجم المعلومات كمًّا وتدفّقًا، وفضلا عن التراكم المعرفي الناتج عن هذا التزايد والّذي من شأنه أن يرفع من أهمية المعلومات في حياة الفرد والمجتمع على حدٍ سواء بالشكل الّذي يتماشى ومُتطلبات مفهوم «العولمة» في إطاره الشامل القائم على فكرة القرية الكونية أو المدينة العالمية على وجهِ العموم.
من وجهة نظر اِجتماعية عامة، فإنّه من المُؤكد أنّ تطوّر المعلومة من نواحي سرعة اِنتقالها، نشرها والحصول عليها وما تـفرضه هذه المُتغيرات من حرية تستلزم الاِبتعاد عن الهرمية الاِجتماعية في إطارها العام قد ساهم بشكلٍ أو بآخر في ظهور فاعلين جُدد من أفراد وجماعات تُساهم في عملية تشكيل الرأي العام أو حتّى من خلال تقديم أدوات جديدة وبديلة لقياس هذا الرأي العام، وصولا إلى عمليات التعبئة الجماهيرية، وكلّ ذلك بعيدًا عن أيِّ سيطرة مركزية لوسائل الإعلام التابعة للدول من جهة، وذلك عبر تجاوز حدود الدولة القومية ومفهوم السيادة بالمفهوم التقليدي وما ينجرّ عنه من تجاوز للحدود الاِقتصادية  السّياسيّة وحتّى الثقافية للدولة. الأمر الّذي من شأنّه أن يُؤثر على طبيعة قضايا الرأي العام المطروحة داخل الأوساط المجتمعية. خاصّة وأنّ مُميزات هذا التطوّر تتمركز حول سهولة اِنتشار المعلومة، تنوعها، والأهم من ذلك هو اِنخفاض تكلفة إنتاجها ونقلها.
كلّ المُحدَّدات سابقة الذِكر من شأنها تحقيق نوع من التواصل بين العديد من المجتمعات البشرية من كلّ أنحاء العالم حول قضايا ذات طبيعة محلية أو عالمية بغض النظر عن الاِختلافات اللغوية، العرقية، الدّينيّة والثقافيّة. والتي تُعتبر في حد ذاتها سلسلة عُوامِل تُسْهِم في بعض التغيير على أنماط سلوك الناس والمُجتمعات على المستويات الاِقتصادية، الاِجتماعية، السّياسيّة والثقافية.

 

الرجوع إلى الأعلى