التاريخ تحوّل إلى وسيلة إقناع سياسي ونضال إيديولوجي وتوجيه ثقافي
* نصيب الشباب المُؤرخ من محاولة مأسسة البحث التاريخي في الجزائر يبقى ضئيلا
يتحدث الأستاذ والباحث الأكاديمي المختص في التاريخ وشؤونه، الدكتور محمّد بن ساعو، في حواره هذا، عن الجيل الجديد من الباحثين الشباب المُشتغلين في حقل التاريخ، وكيف كتب هذا الجيل تاريخ الجزائر بما فيه تاريخ الثورة، وهل اِستقل هذا الجيل بأسلوبه وطريقته ومناهجه، أم أنّه لم يخرج من عباءة التاريخ الرّسمي وعباءة المؤرخين الأوائل التقليديين؟ كما تحدث بن ساعو، في ذات السياق عن ما مدى أهمية المذكرات والسِيَر الذاتية والشهادات الشفوية في كتابة التاريخ، وهل هي حقا بمثابة مصادر مُهمة في كتابة التاريخ. بعيدا عن المُبالغة أو التزييف الّذي يمس بحقائق تاريخية معينة. كما تطرق من جهة أخرى إلى ما يُسمى بالتهاون في محاولات التأسيس لكتابة تاريخية جديدة، وهل يرجع هذا التهاون إلى كون المؤرخ الشاب ظلّ عاجزا عن اِستنطاق الوثائق التي كثيرا ما يقوم بقراءتها قراءةً آلية دون تمحيص واِستنطاق. مؤكدا في هذا التفصيل بالذات، أنّ المؤرخ الشاب تُواجهه عراقيلٌ كثيرة مُرتبطة بأدوات وآليات التأريخ وعراقيل أخرى متعلقة بالمحيط السياسيّ والثقافيّ، لذلك وفي ظل اِستمرار هذه الظروف يكون من العسير عليه تحقيق النقلة المرجوة والمأمولة. ومع هذا فهو –أي المؤرخ الشاب- بحاجة مُلِحة إلى تجديد كتابته منهجًا ومضمونًا.
* حاورته/ نـوّارة لحــرش
للإشارة الدكتور محمّد بن ساعو، باحثٌ جزائري في التاريخ، وأستاذ التاريخ الوسيط بقسم التاريخ والآثار بكلية العلوم الإنسانية والاِجتماعية -جامعة سطيف2. كما يشتغل أيضا على التاريخ الاِقتصادي في العصور الوسطى، ومهتمٌ بالفلسفة وفلسفة التاريخ وقضايا اللّغة والهوية والمنظومة التربوية. من أبحاثه ومؤلفاته المنشورة: «الهوية والاِنتماء القومي بين التاريخ والحداثة عند قسطنطين زريق» عام 2016. «المرأة التاجرة في المغرب الإسلامي» عام 2016. «المرأة اللاجئة خلال الثورة التحريرية من خلال كتابات الألمانية اِيفه بريستسر» عام 2015. و»التاريخ الثقافي لمنطقة سطيف: المجال، الإنسان، التاريخ» عام 2019./ كتاب مشترك مع الدكتور والأديب اليامين بن تومي.
* أنت من الباحثين الشباب المُشتغلين في حقل التاريخ. اِنطلاقا من تجربتك في هذا المجال، كيف كَتبَ الجيل الجديد من المؤرخين الشباب تاريخ الجزائر بما فيه تاريخ الثورة؟ وهل حقا هذا الجيل لم يستطع أن يخرج من عباءة التاريخ الرّسمي وعباءة المؤرخين الأوائل؟
محمّد بن ساعو: خضعت الكتابات التاريخية بعد الاِستقلال على قلتها لتوجيهات إيديولوجية وميولات سياسية، فتحوّل التاريخ إلى وسيلة إقناع سياسي ونضال إيديولوجي وتوجيه ثقافي، ورغم ظهور كِتابات نضاليّة نقديّة إلاّ أنّها لم تنسلخ من العباءة الإيديولوجية. ليبدأ الاِنفراج قليلا مع الاِنخراط في ما يُسمى بالتعدديّة، فأصبح الإنتاج التاريخي في الجزائر يتناول قضايا التاريخ الوطني بنظرة أكثر موضوعية -إلى حدٍ ما-، ومع ذلك فإنّ الكتابات الأكاديمية الجادة بقيت إلى وقتٍ غير بعيد مُحاصرة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
أراد المؤرخ الجزائري تنقية التاريخ الوطني من القراءة الكولونيالية، لكنّه وجد نفسه مُكبلا بشباك التاريخ الرسمي. وفي ظل هذا الوضع يجد الجيل الجديد من المؤرخين الشباب أنفسهم أمام مهمة في غاية الصعوبة: كيف لهم أن يتجاوزوا التقاليد المكرّسة في كتابة وتناول التاريخ الوطني؟ الناظر في الإنتاج التاريخي للمؤرخين الشباب خاصة ما تعلّق بالثورة التحريرية (1954-1962)، يبدو له بأنّهم لم يقدموا الجهد الكافي بمقارنتهم مع الطرف الفرنسي، غير أنّ هذا الحكم لا ينفي وجود أقلام شابة تحاول التأسيس لكتابة تاريخية برؤى جديدة، من خلال اِمتلاك الأدوات والآليات الكفيلة بذلك.
* لكن يبدو أنّ هناك بعض التهاون في محاولات التأسيس لكتابة تاريخية جديدة أو متجدّدة؟
محمّد بن ساعو: لا يَخفى أنّ عديد الأعمال التاريخية حول الثورة تندرج ضمن متطلبات نيل درجات علمية، وهو ما يؤدي بالباحث إلى تطويق نفسه بجملة من المحاذير حتى ينأى بنفسه عن الدخول في سجالات قد تؤثر على مسيرته العلمية، وهذا الاِعتبار واحد من التفسيرات التي تُقدّم حول طبيعة الكِتابات التاريخية للباحثين الشباب. لكن، وقبل إصدار أي حكم بعجز المؤرخين الشباب أو تهاونهم في التأسيس لكتابة تاريخية تـنتقل من النصّ الكلاسيكي والتاريخ الرسمي نحو التجديد المنهجي والموضوعي، يجب أن نكون على وعيٍ بالعراقيل التي تواجههم وتعقّد من مهمتهم، وفي مقدمتها صعوبة الحصول على الوثيقة، فبعض الأرشيف غير مُتاح للاِستغلال والبعض الآخر يُسيّر بطريقة بدائية. إلى جانب قلة المذكرات والشهادات الشفوية وصعوبة التعامل معها، لأنّ عددا منها تحوّل إلى بيوغرافيات ميثولوجية تستبيح الحقيقة التاريخية لبناء مجد ذاتي وهمي، وبعضها موجه لتصفية حسابات وتخوين أطراف معينة.
كما أنّ نصيب الشباب المُؤرخ من محاولة مأسسة البحث التاريخي في الجزائر يبقى ضئيلا، فالمراكز والمخابر البحثية تبقى أبوابها مُوصدة أمام الشباب الباحث، إذ يستحوذ عليها الجيل القديم ممن لا يعوّل عليهم كثيرا في تفعيلها بسبب ضبابية تسييرها، فأصبحت لا تقوم بدورها رغم توّفر الأطر والهياكل والدعم المادي السخي. لكن السؤال المطروح هنا ونحن نتحدث عن مؤسسات حكومية للبحث التاريخي: هل يمكن التعويل على السلطة في كتابة التاريخ؟، وهل الحقيقة التاريخية فعلا من اِهتمامات السلطة؟ الأكيد أنّ رغبة السلطة في كتابة تاريخ وطني وليس تاريخ رسمي تبقى مؤجلة إلى حين، لكن من الضروري أن تعمل على توفير المناخ المُلائم للمؤرخين خاصة الشباب منهم.
ومن جهة أخرى، تأثر المؤرخون الشباب –بما أنّهم منتوج الجامعة الجزائرية- بمستوى التأطير الّذي يشهد تراجعًا رهيبًا في مستوى التكوين، دون أن ننسى أنّهم كانوا قبل ذلك ضحية التعريب الفوضوي والسياسة العرجاء في تعليم اللغات الأجنبية التي يتطلب البحث التاريخي إتقانها. وبِمَا أنّ هؤلاء الباحثين يمارسون وظائف حكومية تطرح إشكالية «المثقف الموظف»، حيث يجد هذا المؤرخ نفسه في كثير من الأحيان أمام ضرورة الاِنخراط في الخِطاب التاريخي الرسميّ، وحينها يصبح التاريخ ترجمان السياسة. هذا الأمر يهدّد بأن نصبح كائنات لا تفرق بين التاريخ والماضي، وشتان بينهما.
* هل يمكن القول أنّ المؤرخ الشاب ظلّ عاجزا عن اِستنطاق الوثائق التي كثيرا ما يقوم بقراءتها قراءةً آلية دون تمحيص واِستنطاق؟
محمّد بن ساعو: تأسيـسًا على ما سبق، يتّضح أنّ المؤرخ الشاب تُواجهه عراقيلٌ كثيرة مُرتبطة بأدوات وآليات التأريخ وعراقيل أخرى متعلقة بالمحيط السياسيّ والثقافيّ، لذلك وفي ظل اِستمرار هذه الظروف يكون من العسير عليه تحقيق النقلة المرجوة، وإن سلّمنا بأنّ الإنتاج التاريخي في الجزائر يتطوّر، لكن هذا التطور في عمومه ليس سوى كمّيًا، ومع ذلك يبقى التراكم ضروريًا في التأسيس لأي مشروع، مع وجوب تبني الباحثين الشباب لمعايير علمية في الكتابة التاريخية لتنزع نحو الأبعاد الفلسفية التي تغيب في الكثير من الدراسات التاريخية، وكأنّ عملية التدوين التاريخي مجرّد حشد وتجميع للمصادر والمراجع ثمّ وصل وتركيب. وفي نهاية المطاف نجد أنفسنا أمام كتابات ملحمية رسمية، هي أقرب إلى التاريخ العبء منها إلى التاريخ الحافز وفق منظور «قسطنطين زريق».
اِنطلاقا من هذه المسؤولية، يتضح أنّ المؤرخ الشاب بحاجة إلى تجديد كتابته منهجًا ومضمونًا، فإذا كان التاريخ في فترة سابقة بحاجة إلى تصفيته من الاِستعمار، فإنّه اليوم بحاجة لتنقيته من الإيديولوجية والرسمية والخطاب الملحمي المناسباتي الّذي يملأ الأرجاء.
* الموضوع يتشعب إلى أسئلة أخرى. مثلا. ما مدى أهمية المذكرات والسِيَر الذاتية والشهادات الشفوية في كتابة التاريخ؟ وهل بإمكان المذكرات والسِيَر الذاتية والشهادات الشفوية أن تكتب التاريخ؟ وهل تشكلُ أداة أو وسيلة يمكن أن تُوظف أو تُساهم في كتابته إذا ما أحسن المُؤرخ اِستغلالها وِفْقَ المنهجية العلمية التي يتطلبها منهج البحث التاريخي؟
محمّد بن ساعو: يُحيلنا موضوع توظيف الشهادات والروايات الشفوية في الكتابة التاريخية إلى النقاشات التي لازمت لعقود الباحثين في التاريخ، وتتعلق أساسًا بمسألة المُفاضلة بين الرواية الشفوية والوثيقة المكتوبة والرسمية. لقد اِستهلك هذا النقاش جهدا كبيرا ووقتا طويلا –ولا يزال يُثار أحيانًا-، لكنّه اِستطاع أن يفرز مخرجات على غاية من الأهمية، إذ وبعد هيمنة تصورات المدرسة الوضعانية التي رسّخت مبدأ تقديس الوثيقة في الكتابة التاريخية لمدة من الزمن، راح المؤرخون يُعيدون النظر في طبيعة المظانّ التاريخيّة، خاصة مع اِنفتاح مدرسة الحوليات الفرنسية على مواضيع جديدة في الدراسات التاريخية والجُهد الّذي قدّمه السوسيولوجيون في الولايات المتحدة الأمريكية، وظهرت معها الحاجة لتوظيف مصادر متنوعة تستجيب لضرورة توظيف أدوات جديدة.
* تُعدّ الرواية الشفهية في اِرتباطها بالتأريخ غالبًا صوتًا للبسطاء، وبالتالي فقد تُمثل قراءة ثانية أو قراءة من زاوية أخرى للتاريخ؛ لكن السؤال المطروح: هل يمكن بناء تاريخ المجموعات الإنسانية والثورات والأحداث الكُبرى من خلال الرواية الشفوية؟
محمّد بن ساعو:  يُقرّ «آرثر مارويك»Arthur Marwick  صاحب كِتاب The Nature of History أنّ التاريخ القائم حصريًا على مصادر غير وثائقية، هو في الغالب تاريخٌ أكثر سطحية وأقل إرضاءً من التاريخ المُستمد من الوثائق، ولكنّه تاريخٌ على أيّة حال. هذا القبول على مضض لتبني تاريخ مؤسس على الشفوي والّذي يُبديه قطاعٌ مُهم من المشتغلين على التاريخ دفع «يان فانسينا» Jan Vansina إلى التأكيد على أنّ العلاقة بين المصادر الشفهية والمكتوبة ليست هي العلاقة بين المغنية الأولى في الأوبرا وبديلتها: عندما لا تستطيع النجمة أن تغني تظهر البديلة.
* المذكرات والشهادات هي أيضا بشكلٍ ما تجارب شخصية، تروي أحداث ومُعايشات وآراء أصحابها، وهي مصادر بقدر ما هي مُهمة في كتابة التاريخ إلاّ أنّها ربّما تحمل بعض المُبالغة أو التزييف الّذي يمس بحقائق تاريخية معينة. ما قولك؟
محمّد بن ساعو: لا تتأتى أهمية الرواية الشفهية فيما تقدّمه من معارف ومعلومات تاريخية فحسب، بل أيضًا لِمَا تحمله من تصورات وتمثلات تُتيح خلق تقاطعات معرفية بين الثقافة العامية والثقافة العالمة، غير أنّ مُشكلة الرواية الشفهية تكمن في أنّها تحمل جانبًا من الذاتية والاِنطباعية والاِنفعالية، لأنّها تعكس تصور الناس للأحداث السياسيّة والمظاهر الاِجتماعية، ولأنّها تُعدّ شكلا من أشكال الذاكرة، فهي تتميّز بطغيان الذاتية في طابعها الفردي أو الجماعي، حيثُ تنزع إلى إضفاء نوع من الرمزية على الأحداث، حتّى يحسّ المُؤرخ أنّه أمام بيوغرافيات ميثولوجية لا شهادات تاريخيّة حقيقيّة، وإن كانت هذه المرويات مُقاومةً ضدّ النسيان إلاّ أنّها تُحاط بهالة من التقدير تجعل العامة لا تتقبل نقدها، وهنا يَكمنُ دور المؤرخ الّذي ينبغي له أن ينتصر إلى متطلبات المنهج التاريخي في البحث العلمي، ويكون ملزمًا بتفكيك مستوياتها وتفسير تداخلاتها وقراءة خفاياها، بغية مُعالجتها بالنقد والبرهنة.
* ربّما يستدعي هذا توظيف مناهج البحث العلمي بغية التنزه عن الوقوع في بعض الأخطاء التي من شأنها أن تُؤدي إلى بعض المزالق في الجانب المعرفي، خصوصًا وأنّ الأمر يتعلق بالتأريخ.
محمّد بن ساعو: على مستوى آخر، يمكنُ الحديث عن ضعف إقبال الفاعلين في الجزائر على تسجيل رواياتهم وشهاداتهم التاريخية، ومع ضعف المستوى العلمي لبعضهم فإنّ ذلك أثّر بدوره على مستوى ما يُنشر ويُسجّل، بل حتّى تلك البرامج التسجيلية التي أشرفت عليها متاحف المُجاهد تنقصها الجدّية، وما يُلاحَظ عليها هو عدم الاِستعانة بالباحثين الأكاديميين للحضور أثناء تسجيل الشهادات، لأنّ الحصول على شهادة مُتكاملة تخدم المعرفة التاريخيّة لا يتمّ بمجرّد إجلاس المعني على أريكة فاخرة وتصويب الكاميرا نحوه؛ ثمّ نحن نتساءل عن مصير هذه التسجيلات وآليات إتاحتها للباحثين بما أنّنا بصدّد إنتاج أرشيف جديد؛ وهنا يُمكن أن نُثمّن عملية جمع الأرشيف سريع الزوال «الروايات الشفوية» بالضفة الأخرى من المتوسط، والتي يَقوم بها مجموعة من الباحثين ضمن مشاريع بحث جامعية، وهو ما يزيد من أهمية الجُهد المُوثّق.
كمحصّلة لِمَا ذهبنا إليه، لا ننكر أهمية الروايات الشفوية في الكتابة التاريخية، ولا نرفض التعامل معها، كما أنّنا في الوقت نفسه لا نعتبرها تاريخًا، بل هي مصادر مُكمّلة وبديلة أحيانًا، ذلك أنّها تُساهم في سد الثغرات حتّى في ظل وجود الوثيقة الأرشيفية، غير أنّ الاِعتماد عليها ينبغي أن ينبني على منهجية أكاديمية من خلال إخضاعها للنقد والتمحيص، مع أخذ المُؤرخ لمسافة بينه وبينها حتى لا يتورط في اِستباحة الحقيقة التاريخية.

الرجوع إلى الأعلى