يعدّ سوق الترجمة من أكبر أسواق المعرفة في العالم، حقق سنة 2018 ستة وأربعين مليار دولار، استحوذت السوق الأوروبية لوحدها على أكثر من ثلاثة وخمسين بالمئة منها. رقم أعمال سوق الترجمة يفسر عدد الوظائف المتاحة في المجال عالميا المقدر بستمئة وأربعين ألف مشتغل بالترجمة أكثر من ربعهم لا ينتمون لأي مؤسسة رسمية. والحقيقة أن العولمة وانفتاح الأسواق على بعضها بالأساس قد لعبا دورا كبيرا في مضاعفة حجم سوق الترجمة، حيث تحصي اليونسكو ما يقارب الستة آلاف لغة حول العالم.
تغيب الاحصائيات الدقيقة عن واقع سوق الترجمة في الجزائر، ويعود آخر ظهور لها في مؤشر المنظمة العالمية للثقافة والفنون إلى سنة 2007، أي إلى ما يقارب الثلاثة عشر عاما. الترجمة هي أكثر الأفعال إنسانية في عالم زائل الحدود، تسافر فيه المعرفة بأضعف القيود الممكنة وتتكيف مع كل المستجدات، تنمو هنا، ولا يعار لها اهتمام هناك. إن الترجمة تأخذ بعدا مختلفا تماما في الجزائر حيث تخوض اللغة حروبا أيديولوجية منذ عقود، تلعب دور الوسيط في قطبية ثنائية لا تزال تحاول السيطرة على المشهد العام على الرغم من ظهور أجيال جديدة تتجاوز اهتماماتها التخندق الأيديولوجي الموروث عن حقبة ما بعد الاستقلال وامتداداته السياسية والثقافية.
من سنتين تفاجأت باكتشاف مجموعة ثقافية غير رسمية تنشط داخل الجامعة حيث أدرس تدور اهتماماتها حول الثقافة الكورية، تتحدث عضواتها (وهن طالبات حصرا) اللغة الكورية بطلاقة، تجتمعن بانتظام، ولا تتواصلن سوى باللغة الكورية فيما بينهن. كانت المسلسلات والأغاني إضافة إلى موقع اليوتيوب وسيلتهن في التعرف إلى هذه الثقافة والتمكن من اللغة. ولا تشكل اللغة الكورية استثناءً، بل أن الانفتاح والتواجد اللغوي هو أحد المظاهر البدائية لظاهرة بحجم وتأثير العولمة. فقد أصبح العثور على متحدثين للغات كانت إلى وقت غير بعيد غير معروفة أمرا منتشرا ومألوفا، خصوصا في ضوء انتشار الوسائل التكنولوجية المتعددة والربط الاجتماعي العالمي. كما أن الإقبال على تعلم اللغات يأخذ حيزا لا بأس به داخل سوق التكوين الجزائرية، وأصبح يطرح تشكيلة من اللغات للتعلم تعرف إقبالا كبيرا عليها، خاصة وأن مؤسسات التعليم الرسمية لا تزال تقترح برامجا أقل ما يقال عنها أنها تقليدية، لا تخرج عن ثلاثية لغوية لم تتدعم منذ سبعينات القرن الماضي.
 تسيطر اللغة الإنجليزية على سوق الترجمة العالمي، فثمانون بالمئة مما يؤلف بها يترجم، في حين لا يشكل المترجم إليها من لغات العالم الأخرى غير ثلاثة بالمئة من حجم السوق الناطق بالإنجليزية. وهي اللغة المسيطرة على عموم الإنتاج العلمي في العالم. وعلى الرغم من انتشارها المتزايد في الجزائر خصوصا بوجود مؤسسات اقتصادية من جنسيات كثيرة، إلا أن الجزائر كغيرها من البلدان تعرف تراجعا في التمكن من اللغات عموما حتى العربية ويكفي للوقوف على ذلك الاطلاع على النصوص التي ينتجها الطلبة في التخصصات التي تدرس باللغة الفرنسية أو العربية في الجامعات. تتنوع الأسباب وتتشابه وتبقى التكنولوجيات الحديثة بمخرجاتها الثقافية وقدرتها على التأقلم كما سرعة التبني التي تحظى بها العلة الأساس.
يعد الشأن اللغوي من المداخل الأساسية لفهم الإشكالات التي تعاني منها الجامعة الجزائرية. فقد ظلت لسنوات طويلة مسرحا للصراع الأيديولوجي بجميع تياراته. إلا أن الخصوصية الجزائرية أن التعليم في التخصصات الاجتماعية والإنسانية والاقتصادية يتم باللغة العربية، في حين تدرس التخصصات العلمية الدقيقة باللغة الفرنسية. تعرف المدارس الوطنية والعليا استثناءً من خلال سعيها الدؤوب لتوفير مناهج وصفوف تشجع استخدام اللغة الإنجليزية وإنتاج بحوث علمية بها، سعيا لتحقيق مزيد من المرئية للإنتاج العلمي الجزائري، وكذا تحقيقا لتنوع لغوي على مستوى مؤسسات ريادية.
والحقيقة أن المشكل يتفاقم في الجامعات خصوصا تلك الحديثة نسبيا، حيث لا توجد تقاليد علمية متوارثة، إضافة إلى الأعداد الهائلة من الطلبة التي يتم استقبالها سنويا، ما يجعل مهمة تطوير المهارات اللغوية أمرا من الصعوبة بمكان، خصوصا في التخصصات الإنسانية والاجتماعية، التي يتم تدريسها استثناءً باللغة العربية في جل الكليات، ليصطدم الطلبة بضعف أو غياب لمصادر ومراجع تحمل معارف محيّنة في مجال الاختصاص، ما يصعب من مهمة انتاج بحوث في ضوء براديغمات حديثة، أو حتى تحيين المعطيات المقدمة للطلبة. إن الترجمة العلمية تختلف عن الترجمة في فهمها الواسع كونها تتطلب معارفا دقيقة باللغات المترجم منها وإليها إضافة إلى معرفة موثوقة بمجال البحث، ولكنها اليوم تغدو حتمية بل وسيلة أساسية وجب تطوير استراتيجيات حولها، إضافة لوضع مؤسسات مرجعية معيارية إذا ما توفرت إرادة حقيقية لاستغلال أمثل لمخرجات الجامعة وخصوصا العنصر البشري كمورد رئيس.

الرجوع إلى الأعلى