تكررت في الآونة الأخيرة أحاديث عن ضرورة إدراج جوانب الذاكرة الوطنية في منظومتي التعليم والتكوين، وأنّه يجب إدراجها ضمن البرامج المدرسية والمناهج التعليمية. فكيف هو يا ترى تصور أو مخطط إدراج جوانب الذاكرة الوطنية في برامج التدريس والتكوين، وما هي منهجية هذا الإدراج التي يمكن أن تسهم في ترسيخ الذاكرة الوطنية لدى المواطن؟ أو في إحيائها في المناهج التعليمية التربوية والتكوينية؟ وما مدى أهمية إدراجها؟ ومدى قدرتها أو فاعليتها في ترسيخ الذاكرة الوطنية؟ وهل المدرسة هي الأداة الأنسب والأهم في الحفاظ على الذاكرة الوطنية في سياق المناهج التعليمية. وإذا كانت كذلك فهي بشكلٍ أو بآخر من أهم قنوات ترسيخ هذه الذاكرة الوطنية باِعتبارها المنهل العلمي الأوّل الّذي يحضن الفرد، فهل يمكن التوكيد من جهةٍ أخرى أنّ مسألة ترسيخ الذاكرة الوطنية مسؤولية الجميع أيضا.
حول هذا الشأن «الذاكرة الوطنية: بين واقعية المناهج التعليمية وضرورة الترسيخ»، كان ملف «كراس الثقافة» لهذا العدد مع مجموعة من الدكاترة والباحثين الأكاديميين المختصين في التاريخ.

استطلاع/ نــوّارة لحــرش

فؤاد شيحي باحث في تاريخ الثورة التحريرية -جامعة البليدة02
تدريس التاريخ يقتضي تحريره
شهدت الكتابة التاريخية في الجزائر في العقود الأخيرة تطوراً مُهمًا من حيث الرواية والمنهج والأسلوب وهو ما أسفر عن خروج التاريخ من دائرة التخصص الضيق للمشتغلين في حقل الدراسات التاريخية وحدهم إلى الاِنفتاح على جمهورٍ عريض سواء من الكُتّاب أو القُراء على حدٍ سواء، وكان ذلك نتيجة تبني الجامعات والمعاهد المُتخصصة في البحث التاريخي بالتعاون مع وزارة المجاهدين بمختلف مراكزها عَقد عِدة ملتقيات وحلقات دراسة مُتخصّصة تُولي عنايةً كبيرةً للتطرق والتعرف على التراث التاريخي والحفاظ على الذاكرة الوطنية.
وبالموازاة مع ذلك، شهدت حركة التأليف في ميدان التاريخ اِنتعاشًا، رافقه تعبير عن رغبة الدولة في تنمية الرّوح الوطنية وحفظ الذاكرة لدى النشء، وهو الأمر الّذي يتطلب إعادة صياغة المناهج التربوية، خاصةً ما تعلق بمادة التاريخ، التي تهدف لحفظ الذاكرة وتنمية الرّوح الوطنية والحس المواطني لدى الأفراد، لكن المُتصفح لمشاريع الإصلاح التربوية في مدارسنا، والمُمارس والمطبق لبرامجها، يجعلنا لا نتفاءل عند تقييمها؛ ذلك لأنّ إصلاح المناهج التربوية يقوم على إعادة النظر في فلسفتها وأهدافها، فمادة التاريخ ورغم ما تمّ إفرازه من كِتابات تاريخية نتيجة الاِنفتاح عليه إلاّ أنّه لا يمكن تحقيق الإصلاح من خلالها، ذلك لأنّ التطوّر الحاصل فيها كان على مستوى المنهج والأسلوب وتغيّر زاوية الدراسة فقط، ولم يشمل مجال المعرفة التاريخيّة، ويرجع سبب ذلك إلى اِندثار الرواية الشفوية التي تعدّ مصدراً مُهماً في الكتابة التاريخية وتكتم أصحابها عن أحداث مهمة، إضافة إلى البيروقراطية التي تضرب مصلحة الأرشيف الوطني فهناك من الباحثين من لم تُتَح لهم فرصة دخوله إن لم أقل معظمهم.
تحت وطأة كلّ هذه الضغوطات، وفي ظل سعي الدولة للحفاظ على الذاكرة وترسيخها لدى النشء، يكون من الضروري تسهيل عملية الوصول للوثائق التاريخية بالنسبة للباحثين بغية تمكينهم من الوصول إلى المادة التاريخية وبالتالي إبراز حقائق تاريخية جديدة، وهو الضمان الأهم لنجاح عملية اِستعادة الذاكرة الوطنية ضمن البرامج والمناهج التربوية، ولن يكون ذلك مُتاحًا إلاّ من خلال: فتح وتحرير مصلحة الأرشيف الوطني وصيانة التراث الأرشيفي مع إقامة ندوات تعريفية بمكنوناتها، تيسير عملية الاِطلاع عليها خاصة للأغراض العلمية أو الثقافية من أجل تفادي الطرح الكلاسيكي القائم على الرواية الرسمية والمرور إلى دراسات رصينة قائمة على وثائق أرشيفية جديدة أو كما يسميها «جاك لوقوف»: «تموين التاريخ» وبهذا يُصبح الباحث أو المُؤرخ من خلال تحصله على الوثيقة الأرشيفية أو الرواية الشفوية هو نفسه المُنتج للفكرة أو المصدر.
رغم تبني وزارة التربية لمبدأ الكفايات في إعداد المقررات الدراسية بهدف تحقيق مبدأ المقاربة، إلاّ أنّها لم تسع إلى تجديد المناهج لفتح أفق الإبداع للطالب والتلميذ، مِمَّا أفرز رؤية موحدة لمادة التاريخ على أنّها مادة جامدة اِجترارية مكررة المعلومات بين المستوى المتوسط والثانوي، لذلك، فمن الضروري فتح المناهج على تاريخ ما بعد الاِستقلال أو ما يُسمى بالتاريخ القريب، بل يمكن تجاوز التاريخ الماضي ومحاولة الخوض في تاريخ الزمن الراهن، الاِبتعاد وتجاوز طابع التعليم التلقيني المُبسط للمعارف التاريخية الّذي يقوم على حفظ المصنفات واستعمال الذاكرة (النقل) لنصل إلى التعليم الاِستنباطي الّذي يسهم في إعمال العقل ويُساعد على بروز نخبة عقلية تُزاوج بين المنقول والمعقول وبدمج الأوّل والثاني ينشأ لنا «مجتمع» يصل ذروة المعرفة. إنّ خطة الولوج للحفاظ على الذاكرة الوطنية عبر المدرسة مطلب مهم جداً إذا ما توفرت شروطه وذلك بتحيين المناهج التربوية الخاصة بمادة التاريخ وتجديد رؤية التعامل مع الأحداث اِنطلاقًا من معطى مصدري مِمَّا يؤدي إلى تفاعل محكم بين المعلم والمتعلم وينتج في خضم ذلك حفظ الذاكرة.
ضرورة العودة إلى الأسطوغرافيا المحلية المُتخصصة في مجال التربية للاِستفادة منها في عملية تحيين وتطوير المناهج التربوية، إنّ الهدف من هذه السطور هو محاولة توصيف واقع ونظرة المُتعلم لمادة التاريخ في ظل السعي لحفظ الذاكرة من خلال المدرسة، فإنّه يتوجب علينا تدارس كيفية الاِستفادة من البحوث النظرية ومحاولة تجسيدها ميدانيًا.

كمال خليل أستاذ التاريخ المعاصر–جامعة سطيف2
كل جهد يستثني المدرسة في الحفاظ على الذاكرة يبقى ناقصاً
لقد شكل موضوع الذاكرة الوطنية ميدانًا خصبًا ومحوريًا، ومشروعًا هامًا اِهتمت به الجزائر منذ اِستقلالها، من خلال الاِهتمام بمختلف الفئات الفاعلة في فلكه، من مجاهدين وعوائل الشهداء، وأصدقاء الثورة، بغية نقل رسالة الشهداء إلى العالم، لكن قبل ذلك لجيل ما بعد الاِستقلال. كما اِهتمت الجزائر بترسيخ الذاكرة الجماعية للشعب الجزائري من خلال إقامة متاحف المجاهد وجمع شتات الرواية والمعلومة الشفوية وحمايتها من الزوال والاِندثار، وتدعيم أعمال ومجهودات مراكز البحث الخاصة والعامة والجامعات المنتشرة في كامل التراب الوطني.
كما كانت النية صادقة من خلال عقد الندوات والمؤتمرات المختلفة حول تاريخ الجزائر والثورة التحريرية 1954-1962، والتشجيع على فتح التخصصات في التاريخ المُعاصر التي تهتم بتاريخ الثورة الجزائرية. وما يُؤكد الاِهتمام البالغ بالذاكرة التاريخية هو السعي لاِسترجاع جزء منها، كرفات الأمير عبد القادر من سوريا سنة 1966، أو شهداء مقاومات القرن التاسع عشر سنة 2020.
مع مجيء الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى سدة الحكم في ديسمبر 2019، تعهد بالعودة إلى ملف الذاكرة وإعطائه حيّزاً هامًا من اِنشغالاته، حيث أفرد له منصبًا خاصًا لدى رئاسة الجمهورية مرتبط بالأرشيف والذاكرة الوطنية، وحث على العمل لاِسترجاع رفات شهداء المقاومة والأرشيف الوطني من فرنسا.
كلّ هذه الجهود التي تقوم بها الجزائر، ورغم أهميتها، إلاّ أنّها تبقى غير كافية، ما دمنا لا نكرس هذا الملف لدى أبنائنا وطلبتنا وجيل المستقبل في المدارس والجامعات والمعاهد المختلفة. لذلك يجب إدراج هذا الملف ضمن البرامج المدرسية لتعريف الناشئة بتاريخ الآباء والأجداد، ووضع دروس محدّدة وفق محاور مضبوطة تخدم هذا الشأن والتوجه بشكلٍ مُباشر، كما تعطى هذه المهمة إلى أساتذة وأكاديميين ومفتشين يسهرون على تطبيقها في مختلف مواد التدريس، كالاِهتمام بجغرافية الجزائر وربطها بتاريخ البلد، حتّى يستطيع المتعلم ربط مجاله الجغرافي بتاريخه الوطني ويدرك قيمة التضحيات التي قدمها الأسلاف منذ دخول الاِستعمار أرض الوطن، كما يستحسن إدخال الشِّعر الشعبي المُخلد لمختلف محطات تاريخ الجزائر سواء الّذي تغنى بأمجاد الأمير عبد القادر أو مختلف المحطات والمقاومات ونشاطات بعض الجمعيات والأحزاب، كنجم شمال إفريقيا، والتي تحوّلت فيما بعد إلى أناشيد وطنية رفعها الجزائريون سواء في مظاهرات 8 ماي 1945 أو أثناء الثورة التحريرية.
ومن هذا المنطلق، يكون من الضروري والمُستعجل إخراج التاريخ من علب الأرشيف، وأسوار الجامعات والمراكز البحثية، ونقل موضوع الذاكرة إلى المجتمع لأنّه مهمة الجميع، وخاصة إلى المدرسة، وذلك من خلال: -إخراج التلميذ والمتعلم من فضاء القسم والمدرسة، وتلقي التاريخ النظري، إلى المتاحف والمراكز المتخصصة بالحفاظ على الذاكرة حتّى يعيش الواقع الّذي درس عنه، ويُلامس بكلّ جوارحه تلك اللحظات التي ستساهم حتمًا في إثراء رصيده العلمي والحياتي. -تنظيم الرحلات والزيارات إلى الأماكن التاريخية، ومواقع المعارك وانتشار المجاهدين كجبال منطقة القبائل ومكان اِنعقاد مؤتمر الصومام1956، أو جبال الأوراس قاعدة الولاية الأولى واندلاع الثورة التحريرية، والتعرف على المسالك والدروب التي كان يقطعها المجاهدون بين الحدود الشرقية والغربية لجلب السلاح ودعم الثورة. -إقامة المحاضرات والندوات الفكرية والتاريخية وربط الجامعة بالمدرسة، عبر الطرح الأكاديمي للأحداث، وإخراج المدرسة من التاريخ الأسطوري إلى القراءة الواقعية للأحداث حتّى لا يصطدم المُتعلم مُستقبلاً بأشياء جديدة تُفقده الثقة فيما تعلم أو تلقى سابقًا. -ربط جيل المستقبل بآبائه وأجداده من خلال اِستضافة الفاعلين في الثورة من المجاهدين والمجاهدات، وفتح نقاشات هادئة بينهما للتواصل، حتّى يدرك المُتعلم أنّه مسؤول على الحفاظ على الذاكرة الخاصة بمحيطه، ثمّ الذاكرة العامة الجامعة التي تضم كامل وطنه.

سفيان لوصيف أستاذ وباحث في التاريخ المعاصر-جامعة سطيف2
التاريخ المدرسي مجالٌ فعّال لاِستيعاب مقومات الذاكرة الوطنية
يُعتبر التاريخ المدرسي مادة أساسيّة في التكوين الفكري والمعرفي للمُتعلم، وذلك بتنمية ذكائه الاِجتماعي وحسه النقدي، وتزويده بالأدوات المعرفيّة والمنهجيّة لإدراك أهمية الماضي في فهم الحاضر والتطلع إلى المُستقبل، والمحتوى الدراسي مجال اِستيعاب مقومات الذاكرة الوطنية بمفهومها العام، كما أنّه يُساهم في التكوين الفكري للإنسان بتنمية الحس النقدي بالنسبة للأحداث الاِجتماعية وتكوين العقل لتحليل الوضعيات. يُساهم التاريخ المدرسي في التكوين الشخصي للإنسان بتلقينه ذاكرة جماعية تتسع من المجتمع المحلي إلى الوطن ثمّ إلى الاِنتماء القومي، كما يمده بالمعالم الأساسيّة لفهم العالم والتنظيم المُعقلن للماضي والحاضر.
تُمثل مادة التاريخ القناة الأساسيّة التي من خلالها تتم عملية بناء نظرة المُتعلم إلى ذاته وذاكرته ومن ثمّ حاضره ومستقبله، لذا فهذه المادة بمضامينها تجعل المُتعلم يتعرف على هويته من خلال المُساهمة في اِستمراريتها. هدف التاريخ الأوّل الإسهام في خلق الرّوح الوطنية وتدعيمها، وإشاعة حب الوطن ببيان ظروف ولادته وتطوّره وبيان الصعوبات التي واجهها في الدفاع عن كيانه واستقلاله والتعريف بمراحل مقاومته، فمن خلال التاريخ يقرأ ذاكرة وطنه فيعتز بأيّام قوّته ونشاطه ويأسى لأيّام ضعفه وخموده، ذلك أنّ تاريخ الوطن يمس الوجدان أكثر مِمَّا يمس العقل.
لقد برزت كتابات قيمة بعد اِستقلال الجزائر تُنادي بإعادة كتابة تاريخ الجزائر بمناهج ورؤى جديدة يكون فيها للذاكرة الحيّز الأكبر، تعمل على دحض مُجمل الكِتابات الكولونيالية اللاموضوعية، والتي اِحتكرت كتابة تاريخ الجزائر لمدة طويلة، كان الهدف الأساسيّ منها تركيز سيطرة المُستعمر، وإضفاء صفة الشرعية على عمله الدبلوماسي والعسكري.
واليوم نرى أنّ تجديد التاريخ تربويًا وأكاديميًا ورسميًا ضرورة مُلحة لتعزيز الذاكرة وتفعيلها في الوسط الطلابي، بهدف تطوير الذهنية وفتح «آفاق» حقيقيّة لتغيير الواقع نحو الأفضل، وانطلاقًا من هذه الرؤية، يكون التفكير في إعادة موضعة الذاكرة الوطنية في البرامج والمناهج التربوية في مختلف المواد التعليمية وبخاصة في مادة التاريخ ضرورة مُلحة، تستدعيها ظروفٌ كثيرة، منها ما هو مُرتبط بالعملية التربوية في حد ذاتها، ومنها ما هو مُرتبط بالذاكرة الوطنية من حيث كونها إطارا يجمع أبناء الوطن الواحد، خاصة وأنّ المناهج التعليمية وفي مختلف بلدان العالم تعرف تَغيّراً وتعديلاً كبيرين في العقود الأخيرة، تعطي الأهمية للذاكرة والتي تُدَرس بطُرق تربوية علمية تُمكِن من نشر المعرفة التاريخيّة وفي مختلف الأوساط الاِجتماعية.
عدم الاِكتراث في السياسة التربوية الجزائرية بمسألة الذاكرة وما يجري من تغيير في مناهجنا التاريخيّة، وما يحدث من إسقاط لأهم موضوعاتها أوجد خللاً يتحمله الجميع لاسيما النّخبة والسياسيين، فلم تأخذ الذاكرة في مقررات التاريخ المدرسي حظها من العناية، والاِهتمام اللازم، فالمُتتبع للمقررات الدراسية في مدارسنا يجد أنّها تتجهُ من سيءٍ إلى أسوأ، وبتفحص ما ورد بكُتب التاريخ من أخطاء، وما وقع فيه مؤلفوها يلاحظ التركيز على مواضيع هامشيّة وإهمال عناصر هامة تُكرس وحدة الشعب الجزائري وتغوص في الإرث الثقافي للجزائر. إدراج الذاكرة الوطنية في النسق التربوي يتطلب النظر إلى الأحداث الوطنية بنظرة عالمية، وتجاوز الذّاتية في التناول.

عبد القادر عميري أستاذ وباحث في التاريخ -جامعة الجزائر2
علينا اعتماد منظور جديد في تدريس التاريخ
النظام التربوي الّذي تبنّته الجزائر منذ الاِستقلال كان وفق مناهج مُتعدّدة، ومع ذلك ظلّت قضية الذاكرة الوطنية مسألةً مثار جدل، رغم اِعتماد مقاربات تعليمية عديدة من التدريس بالأهداف إلى المقاربة بالكفاءات، وللأسف بقيّت نوعية المناهج التربوية تُؤثر على إقبال المُتعلم على المادة التاريخية في مختلف الأطوار التعليمية، الأمر الّذي أصبح يستوجب إعادة النظر في هذه المناهج، وإدراج جوانب الذاكرة الوطنية فيها خصوصًا إذا ما علمنا أنّ المناهج التي تتبناها الكثير من الدول الوطنية كان لها منظور جديد لتدريس التاريخ، ومنها ألمانيا، ويتضح ذلك في مقولة «فون أتون بيسمارك» زعيم الوحدة الألمانية حينما يقول: «لو تَعَلَّم الجيل التاريخ حسب فلسفته الجديدة أو منظوره الجديد لتخرَّج وعُمره الفكري يُقاس بعمر شعبه، إن لم يكن يُقاس بعمر البشرية جمعاء».
حتّى تتحقّق أهداف تدريس التاريخ ذات الأبعاد المختلفة الوطنية، الثقافيّة، والاِجتماعية، يجب ربطها بالذاكرة، وتحقيق الوطنية الإيجابية التي يتمرس فيها المُتعلم على ربط الأحداث الوطنية بالذاكرة الاِجتماعية للشعب، ويُنمي فكرة النقد لاِستجلاء الماضي بالحاضر، ويخلق التوازن في حياة المُواطن، وهو الأمر الّذي يحميه من الاِنسلاخ والذوبان في مجتمعات أخرى.
على هذا الأساس، أصبح لزامًا على المهتمين بالشأن التربوي هندسة مناهج جديدة خاصة في مادة التاريخ تعتمد على تفعيل الأحداث التاريخية الوطنية للحفاظ على الذاكرة الوطنية وذلك عن طريق التعديل في مكونات هندسة المنهج ومنها: أوّلا -تخطيط المنهج: Curriculum Planning هي العملية التي تنتج منهجًا يشمل مجموعة من العمليات التي تُؤلف جسم المنهج وكلّ ما يحتوي عليه من بيانات ومعلومات مهمة، بحيث تعتمد هذه البيانات على حقائق تاريخية بعيدة عن التناقضات والاِختلافات، كما يعتمد فيها على مقررات خاصة بالتاريخ المحلي الّذي من شأنه تنشئة المُتمدرسين وفق بُعدٍ جهوي تنموي يقوم على أساس الاِهتمام بالذاكرة الوطنية، ويسهم في تفاعل المُتعلم مع محيطه الاِجتماعي القريب.
ثانيًا: تنفيذ المنهج:  Curriculum Implementationهي العملية التي تتمثل في الوظائف والعمليات الأساسيّة التي من شأنها المُحافظة على اِستمرارية النظام المنهجي ووضع هذا المنهج في حيّز التنفيذ، والتي تتطلب تثمين مشاريع المتعلمين فيما يخص التاريخ الوطني، والاِهتمام بالدراسات الميدانية، وفتح المجال أمام المُتعلمين للبحوث وفتح جوائز وطنية للبحث المدرسي الخاص بالذاكرة الوطنية، وتفعيل التاريخ الوطني من خلال تجاوز إشكاليّته لدى المتعلمين، كما يستوجب تحقيق ذلك مُراجعة محتوى الكِتاب المدرسي للمادة التاريخية، التي تُعتبر اليوم مُنفصلة عن بعضها في مختلف الأطوار، بعيدة عن التسلسل الزمني، مركزة على شخصيات ومغيبة لبعضها.
ثالثًا: تقويم المنهج: Curriculum Evaluation هي العملية التي من خلالها يتم تقدير فعّاليّة وكفاءة نظام المنهج، وهذا التقويم يتطلب متابعة تحقيق أهداف الذاكرة الوطنية. ولتحقيق هندسة المناهج التي تُحقّق التلقي الإيجابي للذاكرة الوطنية، ينبغي التركيز على عديد المستويات. من بينها:
الحقل الأكاديمي وطبيعة المعرفة: يستوجب اِعتماد الأحداث الوطنية في معرفة المُتعلمين، فلابدّ أن تحتوي هذه المناهج الجديدة على التاريخ الوطني بمختلف أبعاده ودراسة الموروث الثقافي والتراث الثقافي المادي وغير المادي للمجتمع الجزائري بتنوع ميولاته وثقافاته، عاداته وتقاليده.
دراسة سيكولوجية المتعلمين: فعند معرفة الخصائص المُتعلّقة بتطوّر المُتعلمين وحاجاتهم وميولهم واستعداداتهم واهتماماتهم، بالإضافة لمستويات نضجهم، وبناءً على ذلك يتمّ اِختيار المحتويات وخبرات التعلّم في المناهج حسب كلّ مرحلة تعليميّة.
دراسة الحياة المُعاصرة خارج المؤسسة التعليميّة: وهو بعدٌ مهم يلعب دوراً بارزا في هندسة المنهج، إذ يجب على مهندسي المناهج مراعاة كلّ المُتغيرات الاِجتماعيّة، والسياسيّة، والثقافية للمجتمعات التي يعيشها المتعلمون، ومراعاة اِختيار كلّ ما هو مقبول فكرياً واجتماعياً؛ حيث يتفق مع نظام المُجتمع وسياسته، ثمّ تقديمه للمتعلمين في المنهج لتجنّب أن يكون هناك فصل بين المؤسسة التعليميّة والحياة المعاصرة خارج المؤسسة.
تحليل ودراسة الفلسفة التربوية: أيّ مجتمع له فلسفة تربوية يسير وفقها ويتمسك بها ويُدافع عنها، وتشتق منها أهداف المجتمع وغاياته، فلذلك يجب على مهندسي المنهج مراعاتها عند التخطيط، والتنفيذ، والتقويم.

جيجيك زروق أستاذ وباحث أكاديمي مختص في التاريخ -جامعة بجاية
المدرسة من أهم قنوات ترسيخ الذاكرة
تعد مسألة ترسيخ الذاكرة الوطنية مسؤولية الجميع، فهي من أهم الأولويات كونها تبرز ثوابت الأمة، فيجب المُحافظة عليها من الزوال والاِندثار، وتقديمها للأجيال اللاحقة والعمل على توفير كلّ السُبل والآليات لأجل تثبيتها لدى الأفراد وخاصة مع التكنولوجيا الحديثة التي أثّرت على توجهات واهتمامات الأفراد وأبعدتهم عن مسائل الهوية والتراث والذاكرة الجماعية بصفة عامة، ما يدفعنا للبحث عن طُرق ترسيخها في المجتمع مع وجود الكثير من الآليات والوسائل.
من أهم قنوات ترسيخ الذاكرة الوطنية: المدرسة، باِعتبارها المنهل العلمي الأوّل الّذي يحتضن الفرد، من خلال المناهج الدراسية الموجهة له، فهي المُسّير والمُوجه الوحيد لتكوين شخصيته، لذلك، كان من الواجب تخصيص مواد تهتم بهذا الموضوع في السنوات الأولى وتكييفها حسب قدرات التلميذ، مع ربط واقعية الذاكرة الوطنية المُتمثلة في التاريخ والرموز، العادات والتقاليد بالواقع المُعاش وذلك من خلال القيام بحصص دراسية تطبيقية وخرجات ميدانية في المتاحف، الأماكن التاريخية، اللقاء بالرموز والشخصيات، دور الثقافة، المكتبات، إشراك الإعلام عبر حصص تخص الذاكرة، هذا كله يؤدي إلى تبسيط وتوضيح الذاكرة الوطنية وجعلها واقعًا مُعاشًا، أو بصورة أخرى: إعادة إنتاجها، مِمَا يُؤدي إلى إخراجها من الجانب النظري إلى التطبيقي، فيسهل تثبيتها في الأذهان.
والمُلاحظ عن المناهج التربوية الحالية التي تعتمد على الطريقة الكلاسيكية، والتي تُؤَسس على الجانب النظري المحض والقائم على تقديم بعض الحصص العلمية التي ترسخ الذاكرة الوطنية والمُتمثلة تحديداً في مادة التاريخ من خلال منهاجها القائم على الإلقاء والتلقي فقط، ما يجعلها مادة علمية جافة لدى المُتلقي بعيدة عن الحادثة التاريخية التي تمثل بحد ذاتها جزءاً من الذاكرة الوطنية، وهو ما يجعل اِستيعابها يكون أقل بكثير مقارنةً في حالة القيام بتقديم نفس الحادثة التاريخية وفق المنهج العلمي التطبيقي الواقعي، فيسهل ترسيخها وتثبيتها.
إنّ الحديث عن الذاكرة هو حديث عن آلام الشعوب وآمالهم باِستذكار الماضي المجيد والعمل على تحقيق طموحاتهم وفق مبادئ وأفكار وطنية، بتوسيع مجال التعريف بها لدى الأوساط المُتعلمة والعامة لخلق مجتمع واع وعارف بماضي بلده يجعله مُعتزاً به ومُفتخراً ببطولات أجداده، فالذاكرة الوطنية ليست مجرّد حديث أو كلام يُلقى من أجل الإلقاء أو خطاب جاف ينتهي مفعوله باِنتهاء إلقائه، إنّما الحديث المُتعلق بالذاكرة هو حديث يُنمي الشعور بالاِنتماء، يُخزن في الصدور والعقول، فالعقل البشري الّذي يحفظ الذاكرة في الصغر يكون من الصّعب عليه نسيانها أو فقدانها ما يجعلها ثابتة، وهذا بفضل تجسيد الآليات العلمية المنهجية التي تنظّر للمناهج الدراسية القائمة على واقعية التعليم والتدريس وربطها بالواقع، فالمدرسة هي المكوّن الأوّل للتلميذ، وتلقيه للأفكار الوطنية فيها يفرز مجتمعًا مُشبعًا بالرّوح الوطنية، وبذلك تكون المدرسة أداة مهمة في الحفاظ على الذاكرة الوطنية في سياق المناهج التعليمية التطبيقية التي تجعل من المُتعلم عنصراً مُؤثراً في الحفاظ على الموروث المُشترك.

 

الرجوع إلى الأعلى