من تخصص الحقوق والعلوم الإدارية إلى عالم الأدب والكتابة، خطوة واحدة كانت كافية لتقلب عالمه رأسا على عقب ويوجهه قدره صوب القصة القصيرة التي بدا بارعا فيها منذ البداية. جاءت قصصه عامرة بالفراشات والأمل الكبير، فيها غصة عالقة بالحلق وشوكة تؤرق النوم والتفكير السليم، تحرض على الثورة وعدم الاستسلام كي تعود في النهاية مبشرة بالأمل القادم والمحبة الباقية. قصصه إنسانية في أبعادها، غيرية في هندستها ومسالمة في غائيتها وغايتها.
*  عبد السلام يخلف
يعيش مراد الحياة بزخمها وتفاصيلها وهو ليس من صنف الذين يهربون من الواقع ويختبئون من التفاصيل المؤلمة. في عز سنوات العشرية السوداء كنت ألقاه في وسط قسنطينة وفي أطرافها، حتى في بعض الزوايا المظلمة منها ليلا، مدخّنٌ نهم، بيده سيجارة مشتعلة يتسلل دخانها مع أنفاسه حين يتوقف كي يتأكد من أنها هناك ليواسيها، يتجوّل بكل هدوء كمن يريد امتصاص قطعة من المدينة مع كل سيجارة يحرقها في صمت وهو يدفع الخطى، الواحدة بعد الأخرى، مراوغا العيون القليلة التي قد تتعرف عليه وتسأله عن حاله مدمرة الهدوء المنشود، وباليد الأخرى قفص كناري أو رزمة كتب يوضب لها أمسيات دافئة، مستسلما للقدر غير محاول ردّ شيء لا يعنيه. يختصر لحظة من اليوم الموالي في رواية «شرفات الكلام» على لسان رشيد:  «أجلس في المقاهي الشعبیة ...ألتقى الناس البسطاء ...أتحدث عن هموم المواطن العادي وإني أملك همومي الكبیرة والصغیرة كأي إنسان یقیم في غرفة واحدة ضیقة ...ینام ویشرب فیها، یكتب نصوصه ویحضر برامجه على مائدة في زاویة من المطبخ». المرآة التي ترينا الملهاة والمأساة كقطعتي قطن تتجاذبان الفضاء وتتبادلان الأدوار دون أن ينتبه أحد لكن مراد يشير إليها بالأصبع، تلك المرآة التي تريد أن تحكي فيدفعها كي تحكي أكثر دون أن يضع تاجا على رأسه، دون أي قناع.
طوله بطول حزن المدينة وهي تشكو أساها للصمت لكن مراد ينحني دوما كي يضمد جراحها وهي تئن. يعرف زواياها المؤلمة ويعرف فقراءها ومطربيها، يعرف سائقي الطاكسيات وبعض رجال الأمن من شرطة ودرك، يعرف المشردين ، بحكم عمله كصحفي في إذاعة قسنطينة وتقديمه للكثير من البرامج الاجتماعية والثقافية التي كان يعدّها (مثل: من حكايا الليل) واتصال المئات من المستمعين به على المباشر أصبح يعرف نداءات الساهرين وحوائجهم والأسى الذي يصيب الأرواح المحتاجة للفضفضة. مراد يصغي بجد ويواسي الصوت المخنوق في الطرف الآخر من الهاتف ويزرع الفرحة في القلوب بلغته العارفة التي تتدفق منها مباهج الروح التي تزيل الحيرة وتهدئ من روع العصافير التي تنام في الصدر. إذاعة قسنطينة تلونت منذ 1989 بصوت مراد الذي أشّر للطريق ومستوى العمل الإذاعي وكيفية أدائه. قد نقلّد صوته لكننا لن نستطيع مجاراة طريقته في تزيين اللغة وسلاستها وسهولة تعامله معها، تأتيه من كل جانب في شكل صفوف من الكلمات، تصّاعد إلى الميكروفون وتبلغ أسماع المتلهفين لسماع صوته. يقرأ أشعار وقصص الآخرين، وكم من كاتب مبتدئ كان صوت مراد هو فاتحة دخوله إلى عتبات الكتابة. لم يُقص أحدا ولم يبخل على كل من أراد لصوته أن يُسمع على موجات «سيرتا أف أم» حتى أولئك الذين كان يختصر سلوكهم الدنيء في جملته الشهيرة «أولئك الذين يشربون دمي ثم ينصرفون».
كان كل ذلك جزء من التجربة التي تخمرت وامتدت وتمددت في الذاكرة الرهيبة التي يتمتع بها مراد ثم تحولت إلى نصوص تقرأ الذات الإنسانية وتحولات المجتمع الجزائري في مراحل كثيرة من تاريخه. التفاصيل تروي الحكاية ومراد يتقن جدا التحكم في وصف التفاصيل وحركة الشخصيات وسيكولوجيتها وصراعها الداخلي وتجليات المواقف وانعكاساتها على الناس والمحيط الذي يتحركون بداخله. يتقن وضع أناس كثيرين داخل قوقعة صغيرة ويحركهم كما يشاء. هو كما قال مالك حداد: «لا أدين لأحد بشيء، الذين أدين لهم ربما بشيء هم أبطال رواياتي» الذين أحركهم كما يحلو لي وقد أكون قد قتلتهم داخل الكتابة.
شارك مراد في جملة من الملتقيات الأدبية التي كان دوما ساحرها وصوتها الإذاعي الذي يغطي الجلسات ويجري الحوارات مع الشعراء والكتاب والفنانين من كل المجالات وهذا منذ التسعينيات ونشر الكثير من القصص في الجرائد الوطنية ومجموعة قصصية بعنوان «الربيع يخجل من العصافير» لكنه رأى في لحظة من سنة 2000 / هذا الرقم السري والسحري/ أن لغته المسترسلة التي تريد أن «تحكي أكثر» لم تعد تجد ضالتها في الحجم الصغير الذي تمنحه القصة كما أن تجربته المتراكمة كانت مهمازا لقول الحكايات التي هي جزء من ذاته ومن ذوات الآخرين سواء الذين يعيش إلى جانبهم أو الذين وصلته أخبارهم ومآسيهم وأراد أن يجمع القطع الإنسانية في رواية واحدة تختصر العالم بشكل مسترسل.
«ليل الغريب» كانت أول رواية قال فيها حكاية من سنوات العشرية السوداء بطريقة مأساوية جارحة. تمزقت الأسرة من الداخل بسبب الانقسامات التي زرعتها الإيديولوجيات التي جاءتها من الخارج وأدت إلى كارثة لا زال المجتمع الجزائري يعيشها وستستمر معه إلى عشريات قادمة. كانت الرواية مسحا للمآسي الكثيرة التي ستتكرر في أماكن أخرى بنفس النبرة ونداء الموت الآسن. قصة رشيد عياد الصحفي مع أخيه رضوان الإرهابي والهروب من مدينة قسنطينة والعودة إليها من باريس في زمن الرصاص والموت لتبدأ مغامرة مأساوية. إنها قطعة دموية من تاريخ الجزائر يرويها مراد بكثير من الألم ولكن بكثير من الشعرية أيضا التي لا تغادر لغته الآثمة.
منذ تعرفت عليه في بداية التسعينيات وبالضبط في سبتمبر 1993 حين أقمت معرضا للصورة الفوتوغرافية بقاعة ايسياخم/ قسنطينة دخل مراد القاعة ووقعت عيناه على صورة لعنكبوت بخلفية بنّية تشبه العوالم الساحرة للتصوف والكتابة بالحبر المصنوع من صوف الأغنام كانت تحمل عنوان «صلاة العنكبوت». تقدم مني وسألني: «هل تكتب أدبا؟» ومن حينها بدأت صداقة غامرة ما زالت تمد حبالها في الروح للأبد. لقاءاتنا كانت في طريق سطيف بمقهى بيروت. كلما دخلت المقهى إلا ورأيت مراد يقرأ شيئا أو يكتب على ورقة شيئا ما يحوله بعد حين إلى قصة أو نص مفتوح يقرؤه في الإذاعة وكانت تلك الكتابات نابعة من قراءات كثيرة استلهم منها روح الإنسان وطعّمها باليوميات الباذخة مع طيور الكناري الكثيرة التي كانت تملأ غرفته. يناجيها ويتتبع العلاقات بينها والفراخ التي تولد وتكبر وهو يمنحها أسماء تليق بريشها الفاخر وألوانها المطرّزة بإحكام. لا ينام حتى يرافقها إلى المساء ويطمئن على راحتها وأحلامها ثم يتمتع بقراءة أورهان باموق أو عبد العزيز غرمول أو فضيلة الفاروق أو بعض ما ينعش الروح ويطرح الأسئلة العارفة. يحب غادة السمان وغابريال غارسيا ماركيز ونزار قباني وخاصة باولو كويلو الذي ربما فسح له الطريق واسعا أمام كتابة الرواية البوليسية بأسلوب خفيف ولغة لا تتطلب الكثير من الحفر باعتبار أن الأحداث كما تجري في المجتمع تحدث بشكل بسيط وتحتاج إلى قراء من كل الأعمار والفئات التعليمية. كل ما يحتاجه مراد للكتابة هو الحياة كما هي بناسها وأشيائها الصغيرة، بوجوهها الزاهية والعبوسة حتى أنه يختصرها في أحد نصوصه بجملة حين يقول: « أيّها الجمر أتّقد أكثر لتستمر الحياة».
نشر مراد مجموعة من الروايات مثل «شرفات الكلام» قال فيها الإنسان والنقاش الأبدي لعلاقته مع الآخرين والأسئلة الوجودية التي تحمله إما على الانكفاء على ذاته أو التمرد على الوضع. نشر جملة من الروايات البوليسية ويبدو أنه سيستمر في القيام بذلك لمدة طويلة لسببين، الأول هو كل الحكايات التي استمع إليها من خلال تواصله مع المستمعين وعابري السبيل ومرتادي المقاهي ورجال الأمن والمحامين وقدرته الهائلة على تذكر التفاصيل وحبك الرواية بأحداث تمنحها التشويق والإثارة والتفاعل الضروري كي تمنح القتل وتجارة المخدرات والإجهاض وتكوين جمعيات الأشرار بعدا يتعرف عليه القارئ ويطرح على نفسه الأسئلة الجارحة التي تدفعه سواء إلى التساؤل والصمت أو اللجوء إلى تغيير الواقع من خلال أخذ زمام الأمور باليد وعدم السقوط في الفخاخ التي تؤدي إلى المآسي التي يحدد مراد معالمها من خلال مثلا روايتي «ميراث الأحقاد» (2018) التي يتساءل فيها «هل يمكن أن تختصر حبة حلوى مدينة بكاملها؟» لكن الرواية ليست حول الحلوى بل حول القتل والرصاص وشوارع باريس وزواياها المظلمة/ و»الخواتم القاتلة» (2018) التي تتحرك بها مجموعة مرحة من الأصدقاء وتتحول الرواية إلى القتل بأعصاب باردة يقول فيها «لم أعبر الحياة بشكل جدي، باكرا، باكرا جدا كنت اكتشف أن الدنيا نكتة، نكتة عابرة لهذا لم أكن أعطي لكل المواقف أكثر من حجمها إلى أن انتهيت إلى ثلاجة بمصلحة حفظ الجثث. كانت ليلتي باردة، باردة جدا بعيدا عن ابتسامة أمي الحانية» (ص95)/ أو الأغنية المبتورة (2019) التي تتمحور حول البطلة سهيلة التي تقول الرواية أنها «دخلت الحياة خفية ومن بابها الخلفي» الذي قادها إلى جريمة انتقام من امرأة أخرى تقاطع قدرها معها.
السبب الثاني هو اللغة التي اكتسبها من خلال العمل الإذاعي الذي منحه فرصة للتحدث بطلاقة دون تعثر أو تردد وإيجاد الجواب لكل حالة مهما كانت درجة تعقيدها وهذا ما يستعمله مراد في طريقة السرد التي فيها الاطراد أحيانا والاختصار في أحايين كثيرة. له قدرة هائلة على الانتقال من مشهد لآخر في بضعة جمل، ومن الفرح إلى الموت في جملة أسطر. إن تخصصه الجامعي في مجال الحقوق منحه أيضا فرصة لمعرفة كيفية قراءة تقارير الشرطة وعمل مختلف المصالح والهيئات داخل المحاكم الجنائية ومراحل التحقيق ومجريات الدفاع واستعمال ذلك في الرواية حتى أن تقارير الشرطة أصبحت جزء لا يتجزأ من المتن وكأنها كتبت من طرف رجل درك أو شرطي تحقيق. لقد جاءت مجموعة روايات مراد البوليسية لسد فراغ موجود في هذا النوع من الروايات التي لم تصبح هواية وهوية الكثير من الكتاب ليس لنقص في القضايا بل في قلة الاهتمام بهذا النوع.
بعد فتح مجال العالم الافتراضي ووسائل التواصل الاجتماعي استغلها مراد بطريقة جيدة بحيث راح ينشر الكثير من النصوص القصيرة ويقول يومياته كأي مواطن يتعرض لضغط المحيط وتفاهات الحياة اليومية وروتينها القاتل. يتحدث كأنه يكتب رواية مفتوحة، كل يوم، قطعة وراء قطعة وما على القارئ سوى تجميع القطع و رسم صورة كبيرة لمراد ومواقفه والمجتمع الذي يعيش فيه. كأنه ينتظر مغافلة اليوميات البائسة كي يحوّلها بلمسة ساحر إلى أجنحة يتسلق بها المدائح ومأدبة الفرح والحنين. يقول الحقائق الجارحة ويحكي بعض ذاك الذي عاشه أو مشى إلى جانبه بلغة واثقة كما في منشور على صفحته بالفايسبوك: « لم أنل شيئا في طفولتي ولا حققت أمنية واحدة، لكني كنت أنام سعيدا ،كل ليلة كأني أملك العالم».
هذا قنديل يشتعل في الظلمة للباحثين عن يد تمتد كي تنقذهم من وحشية العالم، هذا دعاء التائهين، وما أكثرهم، الذين يرفعون أياديهم للسماء بصلاة متلهفة لاستغاثة تسقط مع أولى نقاط المطر، هذه مأساة عارمة يحوّلها مراد إلى ملهاة بعضها نشيد للأموات وبعضها الآخر أغنية للرقص كي يقول لنا في النهاية أن الحياة كل هذا بالدليل والبديل الذي ينتظر في آخر السطر وما علينا سوى الصبر قليلا.
نحس بعد قراءة مؤلفات مراد أن الكتابة هي منقذة العالم من أهواله ووحشية البشر، هي المساحة النظيفة التي يستطيع الكاتب أن يمارس فيها تجليات روحه النقية ومعاتبة الأقرباء والأحبة دون حقد أو تعنت ومخاطبة البلاد التي يكون قد ضاع في تضاريسها الوعرة وسقط دون انتباه منه في قعر ثقب كبير يقود إلى جهنم، رغم ذلك يقول مراد على لسان أحدى الشخصيات الرئيسية في روايته «ميراث الأحقاد»: «وهل كانت الجزائر رحيمة بأغنياتي؟ يجب أن أقول بأن هذا البلد ما فهم يوما سر هشاشتي و لا قدر الألوان التي كانت تفيض من روحي لكني لم أحقد يوما عليه، هل يمكن للمرء أن يحقد على أمه؟». أحيانا يغضب مراد كما نفعل جميعا لكنه الوحيد من بيننا الذي يسامح في كل من الحياة و في الكتابة لأنه لا يبحث عن الخلود أو البهرج بل همه الوحيد يقوله في أحد النصوص: « في دفاتري الآن -ومن ألف عام- نص أريد أن أقبض عليه».
الكتابة عند مراد بوكرزازة متحررة جدا فهي شاعرية في اللحظات التي تحتاج لذلك مستعملة التشبيه والتكرار كطريقة فنية لتأكيد الفكرة وشد الانتباه والتركيز على الفعل كذا من مرة كي لا يفلت من القارئ. يلجأ في كثير من اللحظات والمواقف إلى استعمال لغات أخرى كالفرنسية والدارجة لنقل الحدث بلغته الأصلية مما يعطي الرواية بعدها الواقعي بكثير من المصداقية لصورة النسق الاجتماعي الجزائري والمحيط الثقافي الذي تحدث فيه الأشياء. إن السرد لديه يحفر في الأحداث الآنية ثم يستعمل الفلاشباك كتقنية لاستعادة البدايات التي تقود إلى التوتر أو الانهيار أو القتل أو الموت. نقول له بعد كل الذي كتبه: مرحى أيها الدليل- إنّا نرى ما تراه وأنت تبني المصائر ثم تهدمها. تلك هي الرواية.

الرجوع إلى الأعلى