لا يمكن للمثقف أن يستقيل من دوره في المجتمع
يرى  الكاتب و  الإعلامي مراد بوكرزازة، بأن المثقف  يجب  ألا يستقيل من أداء دوره الجوهري في الإضاءة على بعض القضايا المهمة التي تشكل منعرجات كبيرة في مسار الأمّة، لأنه  ملزم أخلاقياً بذلك، مشيرا إلى أن علاقة الكاتب بأرضه، يجب أن تكون غير مشروطة كحبّ من طرف واحد يجتهد فيه المحبّ لإرضاء محبوبه، و هي تحديداً طريقة عشقه لمدينته  قسنطينة، التي قال، بأنه يرتبط بها بشكل مرضي ويعاني رهاب البعد عنها، حتى وإن شحّت فيها الفرص، فالإبداع، حسبه، لا يحتكم للجغرافيا وإن كان النّجاح مرتبطاً بعواصم في الشّرق و الغرب، بدليل أنه القاصُّ الذي غادر أرض القصّة، ليكتب الرواية البوليسية، و يثـري المتن العربي و الجزائري و يحاول فهم أسباب الجريمة بنيّة تقديم الحلول.  مراد بوكرزازة الكاتب بالكلمات والصوت، يتحدث في هذا الحوار أيضا، عن معضلة الإعلام التقليدي، في ظل المتغيرات التي أفرزتها سطوة مواقع التواصل.
حاورته : هدى طابي
أعاني رهاب البعد عن قسنطينة

ـ  النصر: تنقلت بين مدن كثيرة، لكنّك عدت إلى حضن قسنطينة المدينة العجوز شحيحة الفرص، ما سر هذا الارتباط هل هو وفاء أم عقاب ؟
ـ مراد بوكرزازة:  لقد دخلت الكثير من المدن، دون أن أقرأ عنها أو أن أسمع عنها، وكانت رغبتي كبيرة في اكتشافها، وهو ما حدث فعلا، عناق جميل مثلا، حدث بيني وبين باريس من العالم الغربي ودبي من العالم الشرقي، لكنني بقيت على وفائي لقسنطينة، ربما يعود ذلك لخصوصيتها العالية، ثم أنها تنتمي لهذه المدن التي لا تنصفك، و بالمقابل لا تخلي سبيلك، لهذا كنت كلما غادرتها أعيش فوبيا النوستالجيا بشكل كبير، فأعود سريعا إليها، كسمكة لا يمكن أن تعيش خارج مياهها الإقليمية.
حتى وإن شحّت الفرص بها، إلا أني أرتبط بها بشكل مرضي، ولا يمكن لي العيش خارج أسوارها، ثم إني لا أنتظر شيئاً من هذا الحب من طرف واحد، يكفي أن أجتهد كل مرة في الاحتفاء بها، في نص أو دراسة تاريخية أو سبر لأغوارها من الداخل، وقد تحولت مع الوقت لامرأة أعطيها أجمل ما أملك، ولا أنتظر منها أي مقابل، فحين نحب نجتهد في إرضاء وإسعاد الآخر، لأن سعادتنا تكمن في قدرتنا على العطاء و بسخاء كبير.
ـ هل يمكن لجسورها أن توصلك إلى أرض النجاح و الفرص، ألا تعتقد أن الاستقرار في مدينة انغلقت على نفسها كثيرا، انتحار بطيء لكاتب و إعلامي بمثل أهميتك؟
ـ النجاح لا يقاس برقعة جغرافية معينة، حتى و إن كان مرتبطا بعاصمتين الأولى بالشرق « بيروت» والثانية بالغرب، وخارجها يكون تحقيقه صعبا، ربما خير دليل على ذلك هو تجربة أحلام مستغانمي من بيروت، و ياسمينة خضرا من باريس وغيرهما من النماذج التي نجحت خارج الديار، لأنها وجدت دعما على جميع الجبهات من الكثير من المؤسسات بكل ترساناتها فالنجاح مرتبط بعدة عوامل، انطلاقا من الناشر إلى مجموعة علاقات بالوسط الإعلامي، وصولا  إلى موزع جيد يتكفل بإيصال صوتك للقارئ، حتى وإن كان في آخر الدنيا.
لكنني مؤمن بالمقابل، أن الكاتب كلما توغل في محليته ودافع عن خصوصية جذوره، وتوفرت له عوامل أخرى، يمكنه أن ينجح في عالم صارت فيه المعلومة، مهما كان شكلها، تصل في ثوان إلى أقصى حدود العالم.
أما إعلاميا، فأعتقد أني حققت نجاحا كبيرا، حتى ولو انطلقت من قسنطينة، لأنه في السنوات التي مضت، كان صوتي يصل للوطن العربي كله، و منه كانت تصلني مئات الرسائل الجميلة والمحفزة.
ثم إني لا أبحث عن النجاح الصاخب الذي سرعان ما ينطفئ مع الوقت، وإنما أتبع حكمة الفلاح في زراعة أرضه و التريث في انتظار موسم الحصاد.
محليا، أعطتني إذاعة قسنطينة، ما لم تعطني أية جهة أخرى، يحبني الناس و يحترمونني، وأجد محبة في أعينهم، وفي ذاكرتهم، لن أجدها في مكان آخر.
كما أني أعاني من فوبيا الزحام و أفضل أن أمضي في هدوء الوقت وجمال الساعات، على أن أدخل منطقة الضوء الكبير.

لا أبحث عن النجاح الصاخب
ـ أية رشوة قدمتها لك هذه المدينة، هل احتفاؤك الدائم بها مستحق، أم هو مجرد حنين لفكرة قديمة و ذكريات مراد الطفل؟
ـ قسنطينة أكبر من مدينة و أكبر من فضاء مكاني، هي أرض تغفو على التاريخ وعلى الحقائق، و يكفي اليوم أن ينصت إليها فنان بشكل مختلف، لتفيض بآلاف الأشياء الجميلة.
فإذا دخلنا بيوت السويقة مثلا، فإننا سنصطدم بهذه الحجارة الثرثارة التي تروي سيرة أولئك الذين عبروها و دجّجوا ساعاتها بآلاف الحكايا.
قسنطينة هي مدينة القائد الكبير ماسينيسا و هي مدينة الحصان البربري، الحائز على أربع ميداليات ذهبية في ألعاب أثينا القديمة، هي أيضا مدينة كل الحضارات التي تعاقبت عليها تباعا بدءًا من الوندال إلى  البيزنطيين و الفينيقيين ثم الفاطميين، وصولا للعثمانيين والفرنسيين، هي المدينة التي أنجبت الحائز على جائزة نوبل في الطب ومدينة  antonin le pieux، مدينة العيون المتدفقة و الخرافة والأساطير، هي المدينة الواضحة في الأعلى والغامضة التي تخبئ  أسرارها في الأسفل.
لهذا فنحن هنا لا نتحدث عن مدينة عادية تسلم مفاتيحها للوهلة الأولى، وإنما هي مدينة غامضة وعصية على الفهم.
الإعلام التقليدي تراجع مقابل الوسائط الاجتماعية
ـ هل تعتقد أن الأثير لا يزال يحتفظ بسحره، و أن الإذاعة قادرة على أداء دورها كاملا و الحفاظ على خصوصيتها التثقيفية في ظل الانفجار التكنولوجي؟
ـ لقد تراجع اليوم دور وسائل الاتصال التقليدية « الجريدة و الإذاعة والتلفزيون» بشكل لافت، ولم يعد الناس يشترون الجريدة مع قهوة الصباح، و لا عادوا يفتحون الإذاعة كذلك، كما لم يعودوا يشاهدون التلفزيون في آخر المساء.
صرنا اليوم في مواجهة العائلة الإلكترونية، التي أفرزتها سطوة  الهواتف الذكية التي يملكها كل الأفراد، الوسائط الجديدة على غرار فيسبوك و تويتر و انستغرام و يوتيوب، قدمت بدائل مختلفة فر الناس إليها بشكل كبير.
مع ذلك و رغم التطور التكنولوجي الكبير، فإن الإذاعة يمكنها أن تنهض من جديد، كبقية وسائل الاتصال التقليدية، و ذلك إذا وضعت نصب عينيها العناصر التالية:  الخطاب العصري المحترف، الموسيقى والأغاني الجديدة والمحتويات الفكرية و التثقيفية و الترفيهية الجديدة، والأهم من كل ذلك، أن تعرف المتلقي الذي تتوجه إليه،  ماذا يثيره، ما هي اهتماماته و تطلعاته و انشغالاته و  إذا ما تحقق الشرط الأخير، نستطيع أن نعيد لوسائلنا الاتصالية القديمة بريقها المفقود.
ـ هل يتطلّب التكيف مع التحولات المجتمعية الحاصلة ارتداء الإذاعة لثوب جديد؟
ـ نحن مجبرون على الإنصات للآخر، و هو المتلقي الذي يعد رأسمال كل وسيلة إعلامية، علينا في هذه الحالة أن نكون لصيقين بهمومه وانشغالاته اليومية، كما أن عنصر الشباب مهم جدا في كل معادلة إعلامية.
دعوني أعيد طرح بعض الأسئلة وأنا أحاول الإجابة عن هذا السؤال: كيف هو متلقي اليوم، هل يملك هوسا بالقراءة، بالفن بشكل عام، هل شكلته وسائط الاتصال الاجتماعي، وخلقت منه نموذجا يعشق التتفيه، ويركض خلف «السكوب» و»البروباغندا»، هل هو متلقي استهلاكي يبحث عن مادة حتى و إن كانت فارغة يستهلكها،  ثم يمضي سريعا لغاياته؟
من المهم جدا أن نعرف لمن نتوجه بخطابنا، حتى نستعمل لاحقا الأدوات اللازمة للتعامل معه.
والإذاعة تحاول جاهدة أن تفعل ذلك، لكنها لن تتمكن من القيام بهذا العمل» الكبير»، دون تورط و تواطؤ بقية الأطراف التي تشكل الوعي الجمعي لدى الناس.
أحصد اليوم ثمار سنوات من البذر
أنت قليل الكلام لكنك صوت المدينة الأشهر إذاعيا، صوتك بمثابة أفيون تدمنه الكثير من النساء، فهل يغريك ذلك وهل يلهمك؟
ـ أستطيع أن أدعي أن البرامج، خاصة الليلية منها، حقّقت نجاحاً كبيرا، لكن لأكون صريحا، لم يكن يهمني الحصاد يوما، بقدر ما كانت تهمني الزراعة، كنت ألقي ببذور المحبة في كل مكان أعبره، وفي داخلي صوت يقول أن الحقول ستغني يوما لك.
بعد كل تلك السنوات صرت أكتشف أن الناس يكرمونني في كل مكان على طريقتهم الخاصة، من خلال التفاتات بسيطة، لكنها بمعاني عميقة.

برامجنا الليلية خففت جراح الحروب
ـ ألا تحن إلى ذلك الزمن الجميل قبل الانفتاح الإعلامي و ثورة الفيسبوك، عندما كانت برامجك الليلية عابرة للحدود الجغرافية ، ذكرنا بعناوينها و اذكر لنا بعضا مما يعلق في ذاكرتك بخصوصها، أي أثر تركته فيك و لما غابت؟
ـ طبعا، أحن جدا لذلك الزمن البهي، الذي كانت تصلني فيه رسائل المستمعين، لم تكن الرسالة مجرد ورقة، بل كانت كيانا عامرا بملامح شخصيتها، بأناقة الخط و بصدق الحروف في الاحتفاء الإنساني.
في بداية تسعينيات القرن الماضي، كنت أنشط عدة برامج ليلية على غرار «حكايا الليل» و «رومنسيات» و «الوجه الآخر للحياة»، وقد وصل صدى هذه البرامج لكل الوطن العربي تقريبا، وكانت تصلني مئات الرسائل من لبنان، تونس، المغرب، الأردن، السعودية، العراق وسوريا.
طالب سوري مثلا،  يقول إن برامجنا كانت تساعده على تجاوز محنة الحرب في «قروزني» آنذاك، مستمعتان من العراق، تقولان أن موسيقانا و أغانينا ونصوصنا تجعل الحرب تخجل من نفسها، حرب الخليج آنذاك والقصف الأمريكي.
كل تجربة إنسانية كنت أعيشها حينها ، تؤتي أكلها ولو بعد حين، لكن البارز أننا كنا نفتح المغرب بأصواتنا، حيث تصلني أسبوعيا أزيد من ألف رسالة من المغرب، ومن كل مدنه.
أنا كاتب بالكلمات و الصوت
ـ  بين الصوت و القلم، أين تجد نفسك أكثـر و أيهما قد تختار إن خيرت يوما و لماذا؟
ـ أنا أكتب بالكلمات و بالصوت أيضا،  وهو مجموع كلمات في حد ذاته، لكن أعتقد أن الكاتب ساهم بشكل كبير في بناء مجد المنشط الإذاعي، لأني كنت أملك هوسا غير معقول بالقراء، ولا يزال هوسي حيا إلى الآن.
منشط يقرأ و يتابع عن كثب ما يحدث في العالم وحوله، هو منشط سيفيد المتلقي بشكل أو بآخر، لأن كل كتاب هو اختصار لحياة بأكملها، فليس أجمل من كتاب نقدمه بكل زخمه و جمالياته للآخر.
وهذا ربما ما أعيبه على الجيل الحالي، إذ لا يكاد يقرأ ويعتمد أكثر على الاستهلاكي « الآني» على حساب، الرؤية البعيدة للعمل الإذاعي ككل.
مواقع التواصل صنعت ظواهر كتابية آنية
ـ هل تعتقد أن غياب الكاتب عن مواقع التواصل الاجتماعي يلغيه؟  ألا تظن أيضا أن هذه المنصات صنعت فقاعات أدبيّة و ميّعت الكتابة؟
ـ أنا ضد غياب المثقف عن منصات التواصل، لكن بالمقابل يجب أن يكون حضوره ذكيا، من خلال فتح باب النقاشات العميقة التي تضيف للمشهد الثقافي والفكري، هذه المنصات ميعت فعلا الكثير من الأدوار الحياتية وحتى مجال الكتابة، إذ نعثر يوميا على عشرات الظواهر الآنية التي تلمع بسرعة، لكنها تنطفئ بسرعة أكبر، كما صنعت هذه المنصات مجموعة من المراهقين الذين يقيمون في مجد وهمي، باعتبار أن النشر متاح للجميع.
قبل اليوم كنا ننتظر سنة بأكملها لتنشر لنا الجرائد الوطنية نصا قصصيا، وفق معايير قاسية، لكن اليوم الكلام الفارغ له في الغالب أتباع ومريدون كثر.
المنصات التفاعلية عرت النزعات الإيديولوجية لبعض المثقفين
ـ هل فضحت هذه المواقع زيف بعض المثقفين ؟
ـ  من الخطأ، أن نتوقع تدخل المثقف في كل كبيرة وصغيرة، كأن يتحول صوته لحقيقة ، لا غبار عليها، لكنه بالمقابل ملزم « أخلاقيا» برؤية الأشياء بشكل مختلف، لأن إضاءته مهمة جدا في المنعرجات الكبيرة التي تعرفها الأمة.
لكن للأسف الشديد، فإن هذه المنصات فضحت الكثير من الأسماء التي تتخذ الإيديولجيات مطية لها.  فكلما تعلق الأمر ببعض القضايا البسيطة، نجدهم يصولون ويجولون، لكنهم يلتزمون الصمت الكبير حين يتدخل الجميع و يستقيلون هم عن لعب دورهم الجوهري.

 بدأت كقاص،  لماذا انصرفت عن القصة نحو الرواية؟
ـ كنت للقصة وفيا على مدار خمس وعشرين سنة، لكنني مع الوقت، اكتشفت أن صدر القصة يضيع مع انفجار الينابيع والتفاصيل، لهذا جاءت مغامرتي الأولى باتجاه الرواية، حيث أصدرت سنة 2001 روايتي «شرفات الكلام»، بعد أن غادرت أرض الرواية الأولى، وجدتني مغرما بهذا الشكل التعبيري، وحتى وإن أصدرت حتى الآن أكثر من 10 أعمال روائية، إلا أنني لا أزال أتوق للمغامرة والتجريب في هذا اللون.
الكتابة البوليسية ليست بذخا
ـ لا ترتبط الرواية البوليسية بتقاليدنا الأدبية عموما، فما الذي أخذك إلى أرضها؟ لماذا  فضلت هذا اللون  رغم أن الرواية بمفهومها الكلاسيكي  تعتبر «بريستيج» العصر؟
ـ يفتقر المتن العربي والجزائري، إلى الرواية البوليسية ولأني مهووس بعالم الجريمة، خاصة مع تزايد حالات العنف بكل أشكاله المادية والمعنوية، وتزايد حالات اختطاف وقتل الأطفال، وجدتني أقرأ عشرات الكتب في علم النفس، خاصة تلك التي تحاول فهم القاتل» الجاني» والظروف الاجتماعية والنفسية والاقتصادية التي تؤثر على مناخات الجريمة، ثم انتقلت للحصص الخاصة بالجرائم لأدخل بعدها عالم الرواية البوليسية، من خلال عملي الأول»الأيادي السوداء».
لاحظت أن هناك فئة من القراء بين  12إلى20 سنة، لا أحد يكتب لها، فقررت إتمام المغامرة في هذا الاتجاه، وهكذا أصدرت ستة أعمال حتى الآن، و أنتظر انفراج الوضع العالمي لأصدر ثلاثة أعمال بوليسية أخرى، منها ما هو بالعربية ومنها ما هو مترجم للفرنسية.
من جهة ثانية، أعتقد أنه من الخطأ القول، بأن الكتابة البوليسية بذخ، بالعكس هي سفر مضن في نفسيات كثيرة، وهي شاهد على ما يحدث من اختلالات في عصرها.
 ـ  يرفض بعض الكتاب فكرة جلسات البيع بالتوقيع و يعتبرون  بأن بها شيئا من الإهانة للعملية الإبداعية عموما و لشخص الكاتب، فهل توافقهم الطرح أم ترى العكس؟
ـ أنا مع جلسات البيع بالإهداء، لكن دون إسراف، أقول هذا الكلام انطلاقا من درايتي باختلال سلسلة الكتاب في الجزائر والوطن العربي عموما، حيث يتحول الكاتب إلى ناشر و موزع و مسوق لعمله، و هو واقع ينسحب ليشمل الصحافة الورقية و الالكترونية كذلك، رغم أنه كان من الأجدر أن يكتفي الكاتب بدوره كمنتج للعمل فقط، لكن أمام معضلة سوء التوزيع والإشهار لعمله، فإنه بات مجبرا على دخول هذه الحلقة.
أنا أحلم بزمن ينتهي فيه دوري، حين أوقع عملي و أسلمه للناشر، مع ذلك فأني أرى في جلسات البيع بالتوقيع، نقطة مضيئة، هي هذا اللقاء المباشر الإنساني مع  القارئ، وهو احتكاك يفتح في الغالب باب نقاشات عميقة، بعيدا عن العمل الإبداعي.

جوكــر قسنطينة


فضيلة الفاروق

عرف أن يختصر لنا قسنطينة في صوته، جذب فئة شاسعة من المستمعين إلى حكاياته الحزينة الدافئة، عشاق الرّاديو، وعشاق الأدب، رسم لنفسه خطّا ميّزه عن غيره، لم ينقطع عن الجامعة رغم تخرجه ومغادرته لها، لم تخفه المواهب الجديدة ظلّ يمد يده السخية لها دون حساب. كتب كثيرا عن طفولة جريحة تشبه طفولتنا جميعا نحن أبناء جيله، والأجيال التي ذاقت الحرمان المبتكر من طرف مجتمعنا.
أن تشتاق لحضن والدك ولا تجده سوى في قصّة يكتبها ويقرأها مراد بوكرزازة في برنامج بعد منتصف الليل، فذاك يعني أن خساراتك في الواقع يرقعها الأدب وينقذك منها.
أن تطمح لتحقيق أحلام كبيرة فتجد من يقص أجنحتك ويحرق أحلامك، ولا تجد سوى أجنحة الأدب الليلية التي يحوكها بوكرزازة بصوته، يعيرك إياها ويمنحك فرصة الطيران إلى حيث كل الأحلام تتحقق، فذاك يعني أنك  على الأقل أنقذت أحلامك من الموت، وأن الأدب والصوت المنساب عبر الأثير مصحوبا بموسيقى كالصلاة هي كل ما يمكن أن يمنح حياة ثانية لأحلامك.
أن تخلو حياتك من كل الأشياء الجميلة، ثم تكتشف ذلك الصوت القادم من إذاعة قسنطينة الجهوية، وهو يعيد صياغة تعاساتك بلغة مبهرة فهذا هو سحر الأدب.
كثيرة هي الأشياء التي كانت مُرّة وصعبة ومؤلمة، ولكنّ وقعها أصبح أخف علينا، حين وجدنا ملاذا لنا، عبر الرّاديو، حين كان مراد بوكرزازة بين كل نجوم الراديو يومها متميزا بخياره.
خيار أن يهمس لنا بما يداوي جراحاتنا العميقة، فلم يكن مراد نصا أدبيا جميلا، كان الأجمل على الإطلاق لأننا كنّا نسمعه بصوته، محاطا بهالة من الرّهبة، مرتبطة ارتباطا وثيقا بطبيعة صوته. صحيح أنّه لم يأخذ حقه كما يجب، لكن جمهوره العريض توّجه له بالكثير من المحبة والإمتنان. ولا يزال إلى اليوم الأجمل على الإطلاق بين كل الأصوات التي مرت على راديو الجزائر من مشرقها إلى مغربها. أقول ذلك لأني مازلت عاشقة للراديو، وبين الحين والآخر أدخل تطبيقا أحبه يحملني إلى كل إذاعات الجزائر عبر الأنترنت، فيخيب أملي فكل تلك الأصوات كأنها لشخص واحد، يهرس اللغة هرسا، ويقدم أي كلام.
لا مقارنة إذن بين مراد بوكرزازة وكل الأصوات التي شغلت المحطات الإذاعية الجهوية والوطنية على مدى ثلاثين عاما، فهو يبقى خارج تلك المنافسة  التي غادرها فائزا فيما علقت كل الأصوات في المتاهة نفسها.
إنه بالضبط كتلك الأصوات التي حفرت في ذاكرتنا صورا ساحرة للتقديم الإذاعي على أيامها، مثل صوت “نوال” صاحبة برنامج حظك في الأرقام، والتي أحيلت على التقاعد فجأة ولم تستفد منها لا الإذاعة ولا التلفزيون ولا أي مؤسسة أخرى لتستثمر ذلك الصوت الساحر لتربية أجيال الجزائر الشابة على الجمال والرقي الثقافي.
أعتذر، تحضر نوال، كلما فتح الحديث عن الأصوات النادرة الجميلة في إذاعتنا، ويحضر مراد، ومن أيضا؟ هم قلّة، ونادرون إذا أردنا أن نتحدث عن أصوات بحجم تلك التي تصلنا عبر أثير بي بي سي وقنوات أخرى تعمل بمقاييس عالمية.قد يقول البعض أن فضل مراد بوكرزازة علي كبير كونه أول من قادني إلى إذاعة قسنطينة وميكروفونها، لكنه أيضا كان أحد الأقطاب الهامة في نشاطاتنا الأدبية الجامعية ، كان أحد كتاب القصة القصيرة الرائعين، كان أحد الأقلام التي ترفض أن تزفُّ إلينا الكلمة دون شحنة عاطفية عالية، كان يكتب “نزفه/نزفنا” الشخصي بطريقة مدهشة. في رواياته، وحتى في قصصه البوليسية، لم يستطع مراد بوكرزازة أن يقدّم محتوىً مفرغا من شحنة قوية تهز العواطف، ذلك أنّه كائن أوجده الله هكذا، ينبض محبة ويهب كما يهب أبطاله في قصصه إلى فعل الخير. له سجله الحافل لمساندة أي عمل خيري يقترح عليه، هذا إن لم يكن من إقتراحه وحده، مندفعا لتنفيذه، وتحميس من يتطوع للدفع به نحو الأمام.
«مراد» يختصره محبوه القريبون والبعيدون، وكأنه «المراد» الوحيد في الدنيا.  أمّا نحن أصدقاؤه، فنملك الكثير من الحكايات عنه، يستحيل أن نختصرها في عجالة كهذه، وكلما التقينا معا نجد فتح موضوعه مليئا بالضحك والفرح، مثلما صادف مرة أن التقيت صديقي جمال الدين طالب، في بيته في لندن، ففتحنا موضوع مراد، ولم نتوقف عن الضحك ونحن نسرد ذكرياتنا معه، وقد تساءلت ليلتها، كيف لصاحب النصوص الحزينة والقصص الإذاعية التي تبكينا أحيانا أن يكون بطلا لكل تلك الحكايات المضحكة؟  هذه هي المفارقة العجيبة...
لنا ربما لقاء آخر لأسرد عليكم أجمل قصص الفرح عن جوكر قسنطينة بامتياز صديقنا مراد بوكرزازة.

الرجوع إلى الأعلى