إلى أي حد يمكن للجامعة أن تُساهم في بناء اِقتصاد المعرفة؟ وما مدى أهمية ودور ومساهمة منظومة التعليم في الجزائر في هذا البناء؟ وما مدى مساهمتها في ترقية وتطوير أداء الاِقتصاد المعرفي، وما هي أهم وأكثر ركائزه الأساسية. أيضا ما هي أبرز أو أكثر التحديات التي تواجه التعليم في الجزائر في ظل الاِقتصاد المبني على المعرفة؟ وهل تفرض هذه التحديات على المؤسسة الجامعية أن تُحسن من كفاءتها وجودة مخرجاتها. أم أنّ مخرجات التعليم العالي -كما قال الدكتور نور الدين متناني- بعيدة كلّ البُعد عن واقع اِقتصاد المعرفة. وأنّنا مازلنا -حسب الأستاذ فوضيل خالد- نُعالج اِقتصاد المعرفة كمُصطلح فقط. من جهة أخرى هل التوجه نحو تنمية اِقتصاد المعرفة

استطلاع/ نــوّارة لحــرش

يمر عبر ربط الجامعة بمحيطها الاِقتصادي، وتشجيع المخابر ومراكز البحوث على مزيد من البحث والإنتاجية، وفهم خصائص هذا الاِقتصاد، والتحكم في أدوات التعامل معه؟ حول هذا الشأن "الجامعة واقتصاد المعرفة"، كان ملف "كراس الثقافة" لهذا العدد مع مجموعة  من الدكاترة والباحثين الأكاديميين من أجل إلقاء وتسليط الضوء على هذا المجال غير المطروق.

رابح زاوي أستاذ محاضر -جامعة مولود معمري، تيزي وزو
التوجه نحو دعم اِقتصاد المعرفة حتمية وليس خياراً

في عالم اليوم سريع التطوّر، خاصةً في الجانب الاِقتصادي، يبدو الاِقتصاد المعرفي أحد أهم المُحركات الدافعة للاِقتصاد الدولي، حيث أنّه يستند إلى أربع ركائز أساسية، أوّلها الاِبتكار الّذي يستند إلى البحث والتطوير من خلال نظام فعّال يربط مؤسسات التعليم بالمؤسسات الصناعية بغية التطوير المُستمر. وثانياً نجد البنية التحتية المبنية على تقنيات المعلومات والاِتصالات، والتي تُسهل تجهيز المعلومات والمعارف ونشرها وتبادلها وتكييفها مع الاِحتياجات المحلية، أمّا ثالثاً فتتمثل في الحوكمة التي تقوم على أُسس اِقتصادية قوية تستطيع توفير كلّ الأُطر القانونية التي تهدف إلى زيادة الإنتاجية والنمو، وأخيراً التعليم وهو العامل الأهم والأساسي في الإنتاجية والتنافسية الاِقتصادية. بالنسبة للركيزة الرابعة "التعليم" تحتل الجامعات بمختلف تخصصاتها مكانة هامة في منظومة الاِقتصاد المعرفي؛ بل تكاد تُشكل الحاضنة الحقيقية لهذا الاِقتصاد، والمُحرك الأساسي في إنتاج وتوليد المعرفة، ويبرز دور الجامعات بشكلٍ جوهري في خدمة البحث العلمي ورفع مستوى الاٍقتصاد المعرفي من خلال تطوير مراكز البحث العلمي، وأنماط التطوير في الحدائق المعرفية، وحدائق التقنية وحاضناتها. فإلى جانب توفير التعليم، بدأت وجهة نظر جديدة في التجلي تضع الجامعات ومؤسسات البحوث في مركز عملية التنمية. وتتسع تطبيقات هذه الفكرة أيضا لتشمل كلّ مستويات التعلم الأخرى مثل الكليات ومؤسسات البحث والتقنية ومدارس التقنية المتعدّدة؛ وقد أصبح التعليم العالي ومؤسسات البحوث مصدر قيمة للأعمال والمجتمع والصناعة. ويمكن للجامعات المُساهمة في الصحوة الاِقتصادية والنمو في مناطقها بالتسهيل في إنشاء مؤسسات أعمال ومصانع وشركات؛ حيث أنّ بمقدورها أن تتلاحم مع قطاع الإنتاج والمجتمع بطُرق مُتعدّدة؛ منها، إجراء مشاريع بحوث وتطوير للصناعة، إنشاء شركات خاصة نابعة من أنشطة البحوث والتطوير، والتدخل في مشاريع التكوين الرئيسة مثل حدائق التقنية ومرافق حضانة الأعمال حديثة الإنشاء، وتقديم التدريب للمبتدئين في مجال الأعمال، وتشجيع الطلاب على تحويل البحوث إلى أعمال تجارية. هذا الأسلوب يتطلب التعاون بين المؤسسات الأكاديمية الجامعية والحكومية والصناعية والتجارية.
في الحالة الجزائرية، يبدو أنّ التوجه نحو دعم اِقتصاد المعرفة ليس خياراً بقدر ما هو حتمية من أجل تطوير الاِقتصاد، خاصةً مع توجه الدولة الجزائرية مؤخراً إلى دعم هذا الخيار من خلال الوكالة الوطنية لترقية وتطوير الحظائر التكنولوجية. لكن من جهة أخرى يجب التنويه أنّ الجزائر من ناحية عدد براءات الاِختراع تُسجل تأخراً كبيراً مقارنةً بدول جارة أخرى، حيث خلال السنة الماضية تمّ تسجيل 145 طلب تسجيل براءة اِختراع مقابل تسجيل تونس لأكثر من 500 براءة اِختراع سنويًا، وهو رقم يبدو متواضعًا جداً إذا ما أخذنا بعين الاِعتبار مسألة ما يمكن تقديمه بالنظر إلى عدد الجامعات الموجودة والتخصّصات المتنوعة التي تتواجد بها. إذاً نعتقد أنّ التوجه نحو تنمية اِقتصاد المعرفة يمر عبر ربط الجامعة بمحيطها الاِقتصادي، وتشجيع المخابر ومراكز البحوث على مزيد من البحث والإنتاجية، وكلّ هذا يتحقّق من خلال توفير الإمكانات اللازمة والتقليل من البيروقراطية المقيتة التي باتت مُهدِّدة للطاقات الشبابية المُنتجة.

فوضيل خــالد أستاذ باحث في معهد تسيير التّقنيات الحضرية -جامعة قسنطينة3
غياب الجوانب العلمية التطبيقية جعلنا نناقش العموميات

كثيرًا ما تتبادر إلى أذهاننا وأسماعنا عن طريق التلفزيون أو الإذاعة أو في لافتات بعض المُلتقيات التي يتمّ تنظيمها في الجامعات ومراكز البحث الوطنية كلمة "اِقتصاد المعرفة" وهذا منذ عقود من الزّمن، لكن للأسف، نجد أنّه لم تحضُر في هذه المناسبات والتظاهرات بكثرتها جوانب عمليّة وتطبيقيّة لهذا النّوع من الاِقتصاد. لقد وجدنا ولا زلنا نجد أنفسنا نُعالج اِقتصاد المعرفة كمُصطلح فقط، يسبح في عُموميّات الهُلامية والاِرتباك والترقّب دون التطرّق إلى الميكانيزمات البديلة والأدوات الكفيلة التي قد تُعطينا بعض الأبعاد الميدانيّة للدفع بالاِقتصاد الوطني إلى الأمام. فهل يمكن فعلاً النّقاش عن دور لاِقتصاد المعرفة في ظل التخبّط الهيكلي لمؤسسات التكوين العالي والجامعات؟ والتحديات المحيطة، وغياب مُخجل لدعامة البُنى التحتية للمعلومات والاِتصالات والمُتمثلة في شبكة الإنترنت التي تُعاني التذبذب والتدفّق الضعيف؟ فكيف للجامعة إذاً أن يكون لها "دور" كخزّان للكفاءات ومُحفز لميكانزيمات اِقتصاد معرفة حقيقي في ظل اِنغلاقها على أسوارها ومُحيطها المبني فقط؟ وكيف نرفع التحدّي ونُحرّك عجلة الاِقتصاد التي أكلها الصّدأ وبقيت مُتكئة على برميل الرّيع الّذي لا يُسمن ولا يُغني من جوع؟ بالعودة إلى التاريخ القريب، كانت الأرض والعمالة ورأس المال هي العوامل الثلاثة الأساسية للإنتاج في الاِقتصاد الكلاسيكي. أصبحت الأصول المُهمّة اليوم في الاِقتصاد الجديد هي المعرفة الفنيّة والإبداع والذكاء والاِبتكار والمعلومات. وصار للذكاء الاِصطناعي المُتجسّد في برامج الكمبيوتر والتكنولوجيا أهمية تفوق رأس المال أو الموارد أو العمالة. وتُقدر الأُمم المتحدة أن اِقتصادات المعرفة تستأثر الآن سبعة بالمائة (7%) من الناتج المحلّي الإجمالي العالمي وتنمُو بمعدّل 10% سنويًّا.
وجدير بالذكر أنّ 50% من نمو الإنتاجية في الاِتحاد الأوروبي هو نتيجة مُباشرة لاِستخدام وإنتاج تكنولوجيا المعلومات والاِتّصالات.. ومع تسارُع خُطى الإبداع التّقني، أصبح التطوّر التدريجي لاِقتصادات العالم الكُبرى في اِتجاه أن تكون مبنيّة أساسًا على المعرفة. وفي مقالة نُشرت مؤخرًا في مجلة "ذي إكونومست" خمّن مُنظِّر الإدارة المرموق "بيتر دركر" أنّـه بحلول عام 2030 سوف يكون %40 من القِوى العاملة يتمتّعون بالمعرفة والكفاءة والمهارة. وقد كان يُشير إلى مجموعة الدّول التي طوّرت اِقتصادات مبنيّة على المعرفة. فأين نحن من هذا؟ يُحظى التعليم العالي اليوم باِهتمام مُتنام بوصفه الرّصيد الإستراتيجي والخزّان الحقيقي المُساهم في التنمية الشاملة والمُتكاملة في المجتمع، ويُنظر لمؤسّساته بوصفها الرّافد الأساسي للموارد البشرية والكفاءات والنّخبة التي يحتاج إليها البلد للنهوض بأعباء التنمية في مجالات الحياة المُختلفة. لا يختلف اليوم اِثنان ونحن نعيش عصر التكنولوجيا أنّ مستقبل مجتمعاتنا يتقرّر في أروقة الجامعات ومدرّجاتها ومخابرها، لأنّ مُخرجات مؤسسات التعليم العالي تُوصف بأنّها مدخلات التّنمية.
في الأخير، يجب الاِنتقال من طور النّقاش في الشّكل والمُصطلحات إلى الجوهر والميكانيزمات، فهناك اِتفاق على أنّ التحدّيات التي يحملها اِقتصاد المعرفة لن يتصدّى لها إلاّ رأس مال بشرى دائم الرّقي، دائم النمو والتطوّر والاِنفتاح، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، حتّى يمكن للجميع المُشاركة في دفع الاِقتصاد إلى الأمام وفى ظل سياق تنافسي إقليمي ودولي بالغ الحدّة. وهناك اِتفاق على أنّ الاِرتقاء بالثروة البشرية لن يُحقّقه إلاّ تعليم تُضمن فيه شروط الجودة الكليّة في كافة مستوياته، وذلك من خلال اِستحداث المنظومة التي تُوفّر له ذلك في جميع مراحله وإصلاح الأعطاب الهيكلية في البُنى التّحتية خاصة شبكة الانترنت والاِتصال التي هي شريان اِقتصاد المعرفة والتي بدونها يفرض علينا تأجيل الحديث عن اِقتصاد المعرفة لعقود أخرى. ففي واقع الأمر مازال اِقتصاد المعرفة في بلادنا يسبح في عمُوميّات الهُلامية والاِرتباك، مُقارنة بِمَّا توصّلت إليه بلدان أخرى في هذا المجال.

جيجيقة براهيمي كاتبة وأكاديمية –جامعة تيزي وزو
الجامعة في حاجة إلى تثوير المناهج

إنّ الحديث عن اِقتصاد المعرفة، يُحيلنا مباشرةً إلى أطروحات الباحث والكاتب الفرنسيJean Pierre Bouchez جان بيير بوشيز، الّذي هو عَلم من الأعلام الفكرية المُعاصرة المُنظِّرة في مجال اِقتصاديات المعرفة. حيث قام بتأصيل المبادئ الأوّلية التي لابدّ أن تقوم عليها عملية تسليع الثقافة والتوثير للحرف والفنون عبر إلحاقها بالميدان الاِقتصادي. فعّل بوشيز أطروحته هذه منٌبهًا إلى تحدّياتها، ومنوّهًا بآفاقها التي من شأنها أن تعمل على تسليع الإنتاج الفكري تمامًا كما يتمّ تسليع الإنتاج المادي، وهذا عبر كتابه الموسوم بـــ"اِقتصاد المعرفة: التشييد، التحدّيات، الرؤى . L'économie du savoir: Construction, enjeux et perspectives، وقام بالتوطئة له المدير العام للمدرسة العُليا للتجارة بباريس برنار رمانستواBernard Ramanantsoa، وقد اِفتتح هذا الأخير مقدّمته قائلاً: "إنهّا أوّل مرّة منذ زمن طويل يُغامر فيها كاتب بتجاوز الخطاب المُؤدلج حول اِقتصاد المعرفة، وذلك من خلال اِقتراحه للعديد من وجهات النّظر لما ظلّ تجريديًّا لمدٌة طويلة جدًّا". ونوّه رامانستوا إلى كون كِتاب "اِقتصاد المعرفة" بمثابة رحلة فكرية مغرية يُوجّهنا من خلالها الكاتب نحو الآليات التي تحكّمت في سيرورة الإنتاج الفكري عبر الأزمنة الغابرة، وكذا التعرّف على نقاط التماهي بين المعرفة وتاريخ البشرية.
يُواصل برنار رامانستوا عملية اِستقطاب القُرّاء نحو كِتاب بوشيز قائلاً بلغة مقتضبة كثيفة المعاني: "لكن قوّة هذا الكِتاب لا تنبجس فقط من حيث هو كِتاب التّاريخ، بل لكونه أيضًا مؤلّف مؤصّل في تخصّص عِلم الاِجتماع النّقديّ، يلفت الاِنتباه بشكلٍ خاص نحو دور الاِبتكار والمعرفة في اِقتصاد ينتمي إلى مرحلة ما بعد الصّناعة. إنّه يقوم عبر طريقة مُتجدّدة بإبراز أهميّة التّأثير الجغرافي لاِقتصاد المعرفة، حيث يكتسي حديثه عن التّمويل والتّقنيات الفكرية والمعرفة أهمية بالغة جدًا.
ناقش جان بيير بوشيز في كتابه "اِقتصاد المعرفة"، العوامل الأساسية التي بإمكانها تفعيل عملية تسليع المعرفة على نحو جيّد؛ ويكون ذلك شاملاً لعدّة تخصّصات تسمح للإنتاج الفكري أن يكون ندًا للإنتاج المادي في السّوق؛ وأحيانًا يمكن أن تمنح له فرصة التّفوق عليه بحكم أنّ الفكرة هي أصل كلّ الاِختراعات المادية. لهذا ركّز بوشيز على الدّعامات الأساسية لاِقتصاد المعرفة ومنها: -التقنيات الفكرية المُتجلية عبر تطبيقات وبرامج تكنولوجية مختلفة. -المعرفة اليدوية والمعرفة الفكرية. يقصد بالأولى الحرف والصناعات التقليدية، ويقصد بالثانية: الخطابة والفلك، الهندسة، الطب، النحو، تلقين الفنون المختلفة، الموسيقى... تطرَّق بوشيز في كتابه أيضا إلى المعرفة الفكرية واليدوية من خلال جعلهما تقترنان بميدان الفنون، حيث نبّه إلى أنّ هكذا مواضيع تبدو في الوهلة الأولى عادية بالنّسبة لغير المتخصّصين، لكن هي في الحقيقة مثقلة بالمعاني، ولأجل تجاوز الوقوع في المأزق لابدّ من القيّام بقراءة كرونولوجية لسيرورة المعرفة اليدوية موصولة بالمعرفة الفكرية، لذا فإنّ التّساهل أثناء محاولة إلحاق هذه التخصّصات الثقافية الفنية باِقتصاديات المعرفة هو تهوّر بحدّ ذاته، ويعني عدم القدرة على تقدير صحيح قبلي للتداعيات التي ستنجم عن ذلك. سيؤدّي هذا حتمًا حسب بوشيز إلى العبث، حيث أقرّ أنّه لا يمكن الولوج بهما إلى عالم اِقتصاديات المعرفة؛ إذا لم يكن ذلك مقرونًا بالإلمام المعرفي بالسياقات التّاريخية والأدوات المنهجية والأساليب التقنية التي ساهمت منذ عصور خلت في تأطير كلّ من المعرفة اليدوية والمعرفة الفكرية، وكذا ضرورة اِستيعاب حركيتها عبر حقب تاريخية. تضعنا قراءة بوشيز لكرونولوجية الاِستثمار التجاري للمعرفة اليدوية والمعرفة الفكرية في خضم فترات الحضارات السّابقة منها الهيلينية والرومانية والعصر الوسيط، خاصة فيما يتعلٌق بالفنون الحرة les arts libéraux أمام رأي "شيشرون" الّذي نادى بضرورة الاِعتناء بالمهن التي تقتضي ممارسة اِكتساب المعرفة الواسعة، ويكون هدفها وظيفيًا مثل: الطب، الهندسة، تدريس الفنون الحرّة، الفلك، الخطابة، النحو، الموسيقى...إلخ. أشار شيشرون إلى أنٌ وصفها بالفنون الحرّة له علاقة بالمناهج الدّراسية التي تقوم بتعزيز آليات التّفكير لدى الطلاب وتحفّزهم على توظيف قدراتهم العقلية بحسب ما يليق بهم كأحرار. وأشار بوشيز إلى أنّ وصف المعرفة اليدوية كالطبخ مثلاً بالفنون الذّليلة عائد على كونها لا تتطلّب من المعرفة ما يتطلبه تخصّص الطّب مثلاً أو تدريس الفنون أو فن الخطابة... خلص "بوشيز" بعد الحفريات التي أجراها من خلال بحثه حول اِقتصاديات المعرفة؛ إلى أنّ هذه الأخيرة ليست وليدة الحقبة المعاصرة كما يدّعي البعض؛ فأكّد من خلال المعطيات التي عثر عليها حين معاينته الأرشيف؛ بأنّ "اِقتصاد المعرفة" يعود تبنيه على نطاق واسع ووظيفي إلى قرون خلت، ومنها العصر الوسيط حيث كان للعديد من المؤسّسات دورها الرّيادي في المجال ومنها الدينية. وهنا على إثر هذه المقاربات الخاطفة، نستنتج أنّ هناك بونا شاسعا جدًّا يفصلنا بل يحول بيننا وبين تسليع الثقافة والولوج بهذا التخصّص إلى عالم الاِقتصاد، وهذا الوضع ينسحب على العديد من التخصّصات في الجامعة الجزائرية التي تحتاج إلى تثوير مناهجها. ثمّ إنّ الحديث عن اِقتصاديات المعرفة وما يمكن أن يُوطّد علاقتها بالجامعة الجزائرية، هو حديث يحتاج إلى أعوام من الفحص النّقدي الصّريح الّذي لابدّ أن يتحلّى بالموضوعية قدر الإمكان لأجل محاولة إنقاذ ما يجب إنقاذه في منظومتنا الجامعية، وكذا القيّام بالقطيعة مع ما يستلزم ذلك، وهذا لأجل تجاوز العوائق بمختلف ضروبها قصد صياغة علمية للمنظورات التي تضمن الريّادة للجامعة الجزائرية بعيدًا عن التفخيم أو التقزيم لغرض الولوج إلى حقل الاِقتصاد المعرفي.

نور الدين متناني مسؤول خلية الجودة بجامعة قسنطينة 3
لا بد من اعتماد المعايير العالمية للجودة

لا يختلف اِثنان على أنّ عصرنا الحالي بكلّ ما يحمل من تطوّر وتقدم يعتمد بالأساس على اِستخدامات البحث العلمي، فلقد أصبحت فيه المعرفة دالة على الثروة ومصدراً أساسيًا للنمو ومُحركًا لجميع الأنشطة الاِقتصادية. إنّ التحديات التي تُواجهنا في مجال اِقتصاد المعرفة تَفرض على المؤسسة الجامعية أن تُحسن من كفاءتها وجودة مخرجاتها حتّى تتمكن من تحقيق متطلبات المُجتمع، وذلك من خلال التعليم الجامعي والبحث العلمي. إنّ ترتيب الجامعات الجزائرية لا يبعث على الاِرتياح. وهذا يدل على عدم نجاعة المعايير المرتبطة بالتعليم الجامعي، مِمَّا جعل مخرجات التعليم العالي بعيدة كلّ البعد عن واقع اِقتصاد المعرفة.
إذا أردنا أن نجعل من الجامعة الجزائرية صانعة التنمية، يجب فهم خصائص اِقتصاد المعرفة، وأن نتحكم في أدوات التعامل معه، وإذا أردنا أن نكون من عناصره الفعّالة، وأن نجعل مبدأ التكوين النوعي الراقي، لابدّ من اِعتماد المعايير العالمية للجودة التي تساعد على إنتاج المعرفة ونشرها وتوظيفها لتحقيق الجودة في المؤسسات الجامعية الجزائرية، وتحسين ترتيبها. فدور خلايا ضمان الجودة هي المساهمة في بناء وتطوير نظام الجودة من خلال تقييم، مراقبة، قياس والمتابعة الدورية، بغية التعرف على مدى مطابقة أداء المنظومـة الجامعية والبحثية مقارنة بالمستهدفات التي وضعتها اللجنة الوطنية لتطبيق ضمان الجودة في التعليم العالي، بِمَا يُساعـد على تحسين فاعليتها على الصعيدين الداخلي والخارجي، من جهة، ومن جهة أخرى إدخال الإجراءات التصحيحية من أجل التحسين الدائم.
لقد اِعتمدت الجامعة الجزائرية نظام الجودة سنة 2012 في بعض مؤسساتها كعملية نموذجية، وعمّمتها لأوّل مرّة سنة 2016 بتنصيب خلايا ضمان الجودة، التي قامت لأوّل مرّة بعملية التقييم الذاتي سنة 2017 في جميع المؤسسات، من خلال تقييم الأداء ومدى مطابقته مع المستهدفات المنصوص عليها في المرجع الوطني.
هذه المُستهدفات شملت (122 مستهدفا) توزعت على 07 مجالات، هي التكوين، البحث العلمي، الحوكمة، العلاقات الخارجية، علاقة الجامعة بالمحيط الاِجتماعي والاِقتصادي، الحياة في الجامعة، والمنشآت.
أخيراً ومن خلال تجربتي كمسؤول للخلية بالجامعة، أرى بأنّ نجاح هذه الأخيرة في ترقية الاِقتصاد المعرفي في الجامعة يرتكز على بعض الشروط منها:-على المستوى التنظيمي، جعل خلية ضمان الجودة من الهياكل الرسمية للمؤسسة الجامعية على مستوى كلّ الكليات والمعاهـد. -وضع آليات لاِستقطاب أفضل الموارد الجامعية بالاِعتماد على نظام تحفيزي ومنحها كلّ الصلاحيات والوسائل الضرورية من أجل إنجاح مهمتها والاِلتزام بتحقيق الأهداف المسطرة. -الاِبتعاد عن التطوع في التسيير، الّذي تسبب في عدم اِستقرار الخلايا على المستوى الوطني. -الذهاب إلى الاِعتماد ((La Certification ISO. -مساهمة الإدارة بعملية تطبيق نظام ضمان الجودة ونشر ثقافة الجودة على مستوى المؤسسة الجامعية.

أمين حذيفة باحث في عِلم الاِجتماع -جامعة سيدي بلعباس
الحديث عن مساهمة الجامعة في ترقية اِقتصاد المعرفة سابق لأوانه

هل تُعتبر المُؤسسة الجامعية في الجزائر حاضنة للبدائل الاِقتصادية، أم جسما هجينا طاردا لهذه النوعية من الاِقتصاديات؟ إنّ الثورة الصناعية الرابعة المُتمثلة في تلك الإبهارات التكنولوجية والمعرفية، والتي أصبحت في زمن غير بعيد تُشكل نقلة نوعية للحياة الاِجتماعية ككلّ، هي المُعوّل عليه الوحيد للخروج من المعضلات الاِقتصادية التي أفرزتها النُظم الكلاسيكية، وهذا عن طريق إعطاء فُرص وتحفيزات أكبر للمؤسسات الاتصالاتية والرقمية، والتي من شأنها رفع المردودية في الأصعدة الحياتية، وإمداد أكبر لتمكين الوظيفي في ظل الإجحاف الّذي عرفته آليات الاِقتصاد الريعي، الّذي يعتمد على أساليب تأطيرية خاضعة والتي يتم الإشراف عليها من قِبل الحكومة.
لتحقيق اِقتصاد المعرفة لابدّ من توّافر مجموعة من الخصائص والسمات التي تجعل منه حقيقة ممكنة على أرضيتها، فتكثيف التعليم في مجال الرقمنة والمعلومات يُساهم بشكلٍ كبير في إثراء المادة المعرفية ويجعل منها ذات أهمية، وبالتالي تُصبح تُشكل رهانًا حقيقيًا وفعّالاً يمكن اللجوء إليه إن تعذرت أو فشلت الخُطط الرئيسية، بالإضافة إلى عملية الاِبتكار والإبداع التي من شأنها إعطاء تجديد لروح المقاولة الشبانية في ظل التعسف المُمنهج الّذي يُمارس ضدّ هذه الفئة المُنتجة والفاعلة في محيطنا، وصولاً إلى البنية التحتية المُتكاملة من مؤسسات مالية داعمة وتحفيز حكومي من خلال إلغاء بعض القوانين والتشريعات المُقيّدة للحريات والحركية الاِقتصادية، وإعطاء فُرص أكبر للجامعات في التحكم في المحيط الخارجي من خلال توجيه ودراسة السوق عملياً، فالجامعة الجزائرية تُعاني الأمرّين من خلال الكثافة المفرطة في خريجيها، وكذا غياب النوعية في العملية التدريسية. تعيش المنظومة الجامعية على العديد من الأصعدة تخبطات هيكلية وتنظيمية، إذ أنّها تعاني كلّ أشكال الاِغتراب والتباعد بين مخرجاتها ومحيطها الخارجي، حيث أنّ الحكومة لا تعوّل على الجامعة على أنّها (بديل) في تحسين الحركية الاِقتصادية من خلال دعم الأنشطة المعرفية والتقنية التي هي من المفروض من أدوار الجامعة، بل أصبحت شكلاً من أشكال التمويه والتصنع، فإنتاج الأفكار المُساعِدة على تدوير العجلة التنموية هي اِختصاصات سياسية محضة لا تُشارك فيها الجامعة ولا المنتسبين لها بأي شكلٍ من الأشكال، مع العِلم أنّ الاِقتصاد الجديد أو ما يُصطلح عليه اِقتصاد المعرفة يتبؤر من أسوار الجامعة ومن المعاهد العلمية فقط. إنّ أكثر ما يُواجه الجامعة الجزائرية، هو ذلك الإرهاق الفكري في الكشف عن كينونتها، الجامعة الجزائرية لا تُعاني أبداً من نقص التمويل المالي، بقدر ما تعاني من كيفية صرف هاته التمويلات، المُفارقة العجيبة أنّ البعض يعتقد أنّنا ندرس في جامعات تصنع نماذج حقيقية من أشخاص ذوي مؤهلات عالية والّذي لا يصح نكران هذا الأمر، ولكن يُعزى لاِجتهادات فردية بحتة لا علاقة لها بالتكوين الجامعي. إنّ التحدث في الراهنية عن مساهمة الجامعة في ترقية اِقتصاد المعرفة سابق لأوانه. علينا تكثيف الجهود جميعًا في معرفة مدى صلاحية مخرجات الجامعة. في وقت قريب كان يُقال الأسرة هي مرآة المجتمع، أعتقد أنّ الأمر في هذه اللحظة تغيّر وتبدل وأصبحت الجامعة هي الاِنعكاس الحقيقي للمجتمع.

 

الرجوع إلى الأعلى