قراءاتي المتقطعة للروايات والتي تأتي في الغالب نتيجة لحاجة لم أتبينها بعد -على الأقل في جزء منها- أو أنّني لا شعوريًا أتفادى معرفتها حتّى تبقى سراً يجذبني إلى صرح الرواية كمتلق وقارئ. في هذه القراءات غير المستمرة، تساءلت مع نفسي هل هناك سرعة معينة تُقرأ بها الروايات؟ ووجدتني أفكر في هذا التساؤل، فكان هذا الّذي كتَبْت:
محمــــــــــــــّد جديـــــــــــدي
لا تتّم قراءة الرواية على الدوام بالوتيرة ذاتها، بطيئة كانت أو سريعة. تبدأ من دون شك بسرعة اِبتدائية ثمّ تتزايد حتّى تبلغ ذروتها ثمّ ما تلبث أن تتراجع لأسباب قد يعلمها القارئ (مكان القراءة وزمانها، وضعية القارئ وحالته الصحيّة والنفسيّة، موضوع الرواية...إلخ) وقد لا يدركها ولا يعيها وتكون مرتبطة بدواعي أكثرها لا شعورية.
بين رواية وأخرى تتغير سرعة القراءة بل في الرواية الواحدة يجد القارئ نفسه أمام إشكالية زمن القراءة، بين تباطؤ وتسارع يسعى القارئ أن يتحكم أكثر في فِعل القراءة والشعور بتحكمه ذلك وكأنّه في غرفة قيادة للقراءة تمنحه إحساسًا بالسيطرة على فعله.
بين تسريع مرغوب تحقيقًا لنشوة غير مُعلنة وبين إبطاء مُتعمد بغية تمديد متعة منتظرة، لا يعلن فيه المتلقي عن هدفه الحقيقي، تارةً يخفي تخوفه من بلوغ النهاية وتارةً يدفع بتفاعله مع الكاتب إلى حد التواطؤ وكأنّه يودّ أن يُشركه في كتابة النص وعدم الاِكتفاء بكونه مجرّد قارئ.
قراءة النص الأدبيّ من هذا المنظور وكأنّها فلسفة مكتملة فيها، التلقي والتفاعل والتواطؤ بين طرفين أو أكثر يكون النص وسيطا بينهم لخلق «جو إنساني» مشحون بالتواصل والتجاوب على صعيد العلاقات البشرية بِمَا تتضمنه من شبكة أو شبكات متداخلة من العواطف والاِعتقادات والطموحات لم يتوقف البشر عن التوق لبلوغها وتمجيدها.
يدرك الأديب أنّ لقاءه مع القارئ عبر نصه لن يكون مجرّد اِحتكاك سلبي، يتسم بالبرودة والجفاء بل تتسرب عبر فقرات هذا النص مشاعر حيوية ودافئة تضمن حدا أدنى من التقارب. ولكن فيه رغبة شديدة في تقاسم الكلمات والجُمل والموضوع والحكاية مع فرد مُدرك ومنتبه لفِعل القراءة.
لا أتصوّر أنّ قراءة الروايات مجرّدة عن كلّ غرض ومُنزهة عنه حتّى وإن وجدنا من يُنافح عن هكذا نوع من القراءة، أي القراءة من أجل القراءة أو عندما تتشكل القراءة كعادة تبلغ عند صاحبها حد الإدمان وفي أحسن الحالات سيُقال إنّها لأجل الترفيه. إنّ الرواية منتج ثقافي حضاري إنساني لا يقل قيمة وأهمية عن منتجات الحضارة الأخرى والتي نقيسها بمنظار مادي وتحقق لنا خيرات كثيرة نطلبها في كلّ حين فكذلك توفر لنا قراءة الرواية منافع لا نملك فيها معايير لتحديدها ولكنّها تُمكننا من تحقيق وإشباع مُتع عقلية ونفسية لا تقل في أهميتها عن باقي المُتع.
لم يكن حديثي سوى عن قراءة الرواية، لأنّها قراءة غالبًا أو هي في عُرف الكثيرين، تكون للترفيه وليست كقراءة نصوص أخرى فلسفية أو علمية يكون الغرض من ورائها الفهم والتفسير والتأويل والاِستعمال. لكن هل فعلاً قراءة الرواية هي مثلما يُشاع للتسلية فقط؟ ألاّ يبحث القارئ في اللجوء إليها عن شيءٍ آخر؟ ألا يروم في قراءته للرواية عن قصد يفوق مجرّد المتعة؟ قصد ربّما يُشاطر فيه الكاتب نفسه الباحث عن الكمال الخاص وهو مثله يجعل من الرواية عنصرا لتكوين ذاتيته وتقويتها عبر الرواية.
إنّ هذا الغرض المُتوقع أيضا من قراءة الرواية قد يكون عاملاً رئيسيًا يتحكم في وتيرة القراءة، يجعلها حينًا ذات مدة قصيرة وحينًا آخر طويلة المدة.
ويبقى سؤالي كقارئ لنصوص روائية أتحسس جماليتها في كلّ مراحل القراءة، بدايةً ونهايةً وما بينهما، بل إنّني أُعيد قراءة ما أعثر فيه على الجمالية المُتعدّدة شكلاً ومضمونًا وحبكةً وسرداً، هل كلّ قراءة بالضرورة أنانية؟ قد أكون فيها أنانيًا وأترقب بعد جملة أو فقرة أن يكتب الروائي ما أريده أو ما يبدو لي أنّه ما يفترض أن يخطه الكاتب هنا والآن وفي هذا إشارة إلى ما سبق وأن ذكرته كتواطؤ بين الكاتب والقارئ حينما تتفق إرادة كلّ منهما وكأنّهما على موعد مُسبق مع الكتابة ومع القراءة. وبالتالي يحصل كذلك اِتفاق آخر حول سرعة القراءة وكيف ينبغي أن تكون دفعة واحدة أو بتقطعات وتجزيئ يريده الكاتب قبل قارئ نصه.
إذن السؤال الّذي ينبغي أن يُتبع في سياق قراءة الرواية بأي سرعة يقرأ الكاتب عمله حينما يبدل موقعه إلى قارئ؟ 

الرجوع إلى الأعلى