قِيل "الترجمة خيانة جميلة"، لها مزايا وعطايا وفضائل كثيرة. وهي خيانة محمودة ومطلوبة وضرورية. لكن هناك أيضا خيانات أخرى تحدث خلال الترجمة، وهي حذف وقص وإقصاء فقرات وصفحات بأكملها وإسقاطها من النصّ المُترجم، بدوافع مختلفة: تدخلات ذاتية، أخلاقية أحيانًا وإيديولوجية أحيانًا أخرى، وحتّى مزاجية، وقد تخص أفكاراً لا تتوافق مع أفكار المُترجم أو ما يتصوّره ويُناقض ذائقته أو توجهاته. وهذا يمكن إدراجه ضمن رقابة المُترجم على النص الأصلي. -وإن كان لكلّ عمل ترجمي خيانته الخاصة- إلاّ أن هذا النوع من الترجمات قد يُشوّه النصوص الأصلية. لأنّها -غالبًا- تنشر دون مراجعة أهل الاِختصاص.فما موقع/ وما وقع هذه الخيانات على الأعمال الأدبية والفكرية؟ وما هي اِنعكاساتها على الترجمة باِعتبارها أهم الروافد الفاعلة في تقريب الآداب والثقافات بين مختلف الشعوب واللغات. وهي أيضا همزة وصل بين كلّ ثقافات العالم وجسر تُسافر من خلاله إلى الآخر وإلى لغته؟
حول هذا الشأن "الترجمة وتعدّد الخيانات"، كان ملف "كراس الثقافة" لهذا العدد مع مجموعة من الأساتذة والكُتّاب المترجمين.

استطلاع/ نــوّارة لحــرش

السعيد بوطاجين كاتب وناقد ومترجم
الأمانة في الترجمة من المثالية المستحيلة
لا أميل إلى الحُكم المعياري المُتواتر منذ قرون: "الترجمة خيانة". كلّ الأشكال التعبيرية المُتاحة خيانة للمشاعر الإنسانية، ولا تُوجد في العوالم اللغوية وغير اللغوية علاماتٌ كافية للتدليل على الوضع البشري المُؤلم. ما نقوم به في الفن، وفي مُختلف أجهزة التواصل مُحاكاة جزئية للواقع النفسي وللمحيط الخارجي. لذلك لا نتوقع من الترجمة أن تكون وفيةً للأصل، لأنّ الأصل ذاته غير وفي لِمَا يرغب في قوله بلغة وأساليب مشتركة لا تفي بالغرض.
المعاجم والبُنى والتعابير مُؤسسة على خلفيات مُمتلئة دلاليًا بحكم خصوصية المعارف واللغات، وبالنظر إلى الحالات الثقافية كطرف قاعدي في نقل النصوص من اللّغة المصدر إلى اللّغة الهدف. لذلك ستكون الأمانة، في جوهرها، ضربًا من المثالية المستحيلة. لقد قِيل: "تتمثل أحسن ترجمة في ترك النصوص كما هي". ما يعني أنّ بداية التفكير فيها خطوة نحو الخيانة، مع أنّها ضرورية لتقريب الآداب والعلوم من الأُمم وتقليص حواجز التواصل.
هناك الخيانة المُعلنة والاِختلاف والتبيئة، أو التوطين، وثمّة الحذف والتصرف والتجاوز والرقابة وأخطاء الفهم، وهي مصطلحات مختلفة وجب الفصل فيما بينها. في حالة التوطين، فإنّنا نبحث عن إيجاد التكافؤات الدلالية الفرضية بحثًا في مُمكنات اللّغة، في الموروث والتداول. قد تبدو التبيئة، من منظور نقد الترجمة، ضربًا من القفز على الأصل، في حين أنّها تكييف للتعبير اِعتماداً على السياق. ثمّة في اللّغة الأخرى اِستعمالات فظة، وطبيعية بحكم التداول المتوارث، لكنّها صادمة بالنسبة للمُتلقي في بيئة أخرى لها نواميسها، ومن ثم إمكانية تليينها، دون محو أنويتها الدلالية.
بعض الألفاظ الإباحية اتخذت في سياقات غربية مقام الأصل الثابت المُتفق عليه، وهي مُرتبطة بثقافة التواصل المُكرس، في حين أنّها تبدو نشازاً في بيئات أخرى. لذلك أمكننا البحث لها عن مُترادفات في اِستعمالاتنا. المسألة مرتبطة بالتداول ومستوياته، وليس بخيانة الملفوظ المُؤسس، وذاك ما لا ينتبه إليه القارئ غير المنبه، وناقد الترجمة الّذي لا مؤهلات له. لقد وجدت في رواية "نجمة تائهة" للوكليزيو جُملاً صادمة، وطبيعية بالنسبة للمُجتمع الغربي لأنّها مُتواترة، وعادية من حيث إنّه جزء من نسق قائم وطبيعي. لذا كان تعديلها في اللّغة الهدف حتمية لأنّ لها تكافؤات بصيغ أخرى قابلة للاِستعمال.
كما قرأتُ وسمعتُ اِنتقادات لترجمتي لنجمة كاتب ياسين، وتذهب أغلبها إلى القول بأنّي اِستعنت بالعامية، ومن ثمّ خيانة النص القاعدي. لم يُميز هؤلاء بين الدارجة والفصحى التي تمّ تليينها لمقاصد تداولية. لقد أخذت في الحسبان الحالة الثقافية واللسانية للمجتمع الجزائري من أجل توطين الرواية، دون المساس بقواعد اللّغة العربية وأبنيتها، خاصةً في الحوارات التي قد تبدو عامية، ومُضللة. صحيح أنّ بعض الترجمات تحريفٌ وتصحيفٌ، واعتداء على خيارات الكاتب، مهما كان توجهه الأيديولوجي والفني. البتر والتصرف والحذف ليست من مهام المُترجم الواعي بمهمته كناقل آمن للمنجز الغيري. لكن دور النشر قد تقوم بذلك لاِعتبارات تجارية وأخلاقية، كما حصل لي عندما ترجمت مسرحيات كاتب ياسين. يمكن للمُترجم رفض الترجمة أساسًا إن كان العمل يتنافى وقناعاته وذوقه، وهو حر، أمّا إن قَبل ذلك فلا حرية له في المساس بخيارات الكِتاب.
ثمّ إنّ هذا النوع من الرقابة لا يتعلق بالترجمة وحدها. لقد تعرضت كثير من الكُتب القديمة إلى الاِختزال، ومنها "ألف ليلة وليلة" وكتاب "الأغاني" لأبي فرج الأصفهاني. هناك مؤسسات أخلاقية توجه الإبداع والترجمة في سياقات، مُعتقدةً أنّها تطهر الحقل الأدبي والفني من الشوائب، وهو تصور متوارث يمكن مساءلته بعقلانية. أكيد أنّ للترجمة سلبياتها، لكنّها المخرج الوحيد لتقارب الأُمم، مهما كانت أخطاؤها.

عبد الحميد بورايو كاتب وباحث أكاديمي مختص في التراث
تدخّل ذاتيّة المُترجم خيانة ضارّة لأنّها تشكل رقابة على النص
مفهوم الخيانة مُتعدّد بتعدّد الترجمات؛ فلكلّ عمل ترجمي خيانته الخاصة به، إن لم تكن خياناته بصيغة الجمع. ما يتّفق عليه الجميع هو أنّ الترجمة لابدّ منها، فهي حتميّة من أجل تواصل الثقافات والشعوب والحضارات، ولا يمكن أن تزدهر ثقافة ما وتنمو بدون ترجمة، بل إنّ ظهور الثقافات واِستمرار وجودها وتطوّرها مرهون إلى حدّ كبير بعملية الترجمة منها وإليها.
يمكن النظر إلى الترجمة باِعتبارها اِنتقالاً من ثقافة إلى أخرى؛ وبالتالي عملية الاِنتقال تتطلّب تغييراً لأدوات التَّسْنِين (أو "التشفير" أو "الترميز")، فلكلّ ثقافة سَنَنُهَا الخاص، طريقتها الخاصة في التعبير وفي التصنيف وفي بلاغة الأداء وحتّى في رؤية العالم وأسلوب التعبير عن هذه الرؤية. في هذه الحالة تكون الخيانة (المقصود منها هنا تغيير السَّنَن) ضرورة وحتمية، وهذه الحتمية قد تُضيف لقيمة النص المُترجَم وقد تكون مساوية أو مُعادلة له، وقد تُنقص من هذه القيمة بالنظر لغنى أدوات التعبير أو السَّنَن الّذي تتمتع به اللّغة المُترجَم إليها وقُدرات المُترجِم ودرجة تمكنه من سنن الثقافة المُترجَم منها والمُترجَم إليها. وبالتالي نكون في هذه الحالة أمام خيانة نتائجها إيجابيّة حاملة لإضافة في القيمة الفكرية والتعبيريّة، وقد تكون هذه الخيانة غير نافعة وغير ضارة في نفس الوقت، إن اِكتفت بنقل السنن كما هو دون زيادة أو نقصان أو بالأحرى يحصل هناك تعادل نسبيّ بين السَّنَنَيْن؛ المنقول والمنقول إليه، وقد تكون أيضا خيانة سالبة من قيمة الأصل وعاجزة عن أداء كلّ ما هو موجود في النصّ المُترجَم، وذلك تبعًا لدرجة غِنَى أدوات الثقافة المُترجَم إليها النص، ومدى قُدرات الشخص المُترجِم في اللغتين.
النوع الثاني من الخيانة يتعلّق بمدى تدخّل ذاتيّة المُترجم في عمليّة الترجمة، وهي خيانة ضارّة بدون شكّ وغير مُرَحَّب بها، لأنّها تفرض نوعًا من الرقابة على النص الأصلي فتحذف منه ما شاءت أو ما بدا لها غير مُناسب، وهذا كثيراً ما يحدث بالنسبة للنصوص الإبداعيّة، ونذكر هنا على سبيل المثال ترجمة "علي خشيم" لكِتاب "الحمار الذهبي" لأبوليوس دومادور، إذا ما قارناها خاصةً بترجمة أبو العيد دودو. هذا النوع من الخيانة يستحقّ التنديد والتنبيه من أهل الاِختصاص، لكي لا يتمادى فيه المترجمون. وتنتمي لمثل هذه الترجمة تلك التي تُغيّر في الأصل إلى درجة تُصبح فيها الترجمة وكأنّها عملية اِقتباس مثلما كان يفعل المنفلوطي، قد تدفع لمثل هذه الترجمة ظروف الرقابة الاِجتماعية أو عجز المُترجم عن فهم اللّغة الأصلية واعتماده على الفهم التقريبي، أو لضرورة اِستنبات نوع أدبي جديد في اللّغة المُترجَم إليها.
النوع الثالث، وهو المُتأتّي من عدم القدرة على فهم النص الأصلي؛ خاصةً إن كان فكريًا أو فلسفيًا، ونتائجه وخيمة على الثقافة المُترجَم إليها.
النوع الرابع من الخيانة، ويخصّ العمل الإبداعي الأدبي، ويخصّ بالذات نوع الشِّعر، وأقصد الترجمة التي يقوم بها شاعر مُتمرّس وقادر على اِستيعاب النص الأصلي وتقديمه في هيئة جديدة منبثقة من الإبداعية الشِّعريّة للغة المُترجَم إليها، لأنّ الشِّعر لا يقبل نقلاً حرفيًا للأصل بل يتطلب مُقابلاً مُعادلاً في اللّغة المُترجَم إليها، وهو ما يقوم به عدد من الشعراء والأدباء الكبار الذين يقومون بترجمة أعمال غيرهم من الشعراء. وقد يقوم بنفس العملية تقريبًا بعض النُقاد الّذين يتمتعون بذوقٍ رفيع وبمعرفةٍ كبيرة لشِّعرية اللغتين. في مثل هذه الحالة تكون هناك قيمة أدبيّة مُضافة، ولا يُحاسّبُ المُترجم على خيانته للنص الأصلي بل يكون أهلاً لكي يُمْتَدَحَ ويُنَوَّهَ بإنجازه.
تلك هي إذن أصناف الخيانات المُتوقّعة في ما أراه، والتي نُلاحظها لَمَا نقرأ كِتابًا مُترجمًا، ونكون مُطَّلِعِين على نصه الأصلي.

عبد السلام يخلف كاتب ومترجم
المناخ الثقافي للنص يلعبُ دورا أساسيًا في تقديمه للغة أخرى
المُلاحظة الأساسية هنا هي أنّ الترجمة كانت ولا تزال الوسيلة الوحيدة لنقل المعارف بين الحضارات والشعوب، وحين نأخذ أي ميدان اليوم نجد أنّه يقوم على الترجمة سواء الصناعة أو الإعلام الآلي أو الطب أو الأدب أو السياحة وغيرها. التواصل بين الشعوب تصنعه الترجمة والدليل على ذلك كُثرة التطبيقات الإلكترونية المُنتشرة في الحواسيب والهواتف النقالة بِمَا في ذلك موضة الترجمة الفورية إلى كلّ اللغات. إنّ التناقض في الترجمة الأدبية هو أنّ المُترجم يريد أن يظهر في النص المُترجم بقدر ما يريد أن يختفي ويكون وفيًا للأصل.
تتضّمن الترجمة بعض الأخطاء الشائعة والمُتعلقة بمعاني الكلمات، أو بالتأكيد على بعض الكلمات في الجملة ومنحها أدواراً ليست لها، أو عدم وضع الكلمات في المكان الصحيح، أو عدم معرفة المُترجم بالمناخ الثقافي الّذي أُنتِجَ فيه النص الأصلي والاِختلافات الثقافية بين المُجتمعات، أو عدم مُراجعة النص من طرف أشخاص آخرين لأنّ الهفوات تُقحمُ نفسها دائمًا. أبدأُ من أهم نقطة وهي مسألة تحوير النص بدافع إيديولوجي أو أخلاقي، أي أنّ المُترجم لا يتفق مع صاحب النص، وبالتالي يقوم بالتلاعب بالمعاني، وهذا غير مقبول أصلاً لأنّ هذا ليس نصه ولا حق له في ذلك، وعليه ألا يمتهن الترجمة لأنّها عملٌ يتطلب الدقة والقرب الروحي من النص الّذي يترجمه. تأخذ الترجمة الأدبية وقتًا كبيراً ولذا فإنّ المُترجم يقضي زمنًا مع النص وعليه أن يختار النصوص التي يحبها كي لا يتعب في التعامل معها ولا يقوم بتشويهها والسطو على معانيها اللهم إلاّ إذا كان مأجوراً ويعمل بنية سيئة غرضه الإساءة والتشهير أو الدعاية من خلال تقديم النص الأصلي على غير صورته الحقيقية والمعاني التي يحملها.
دراسات ما بعد الكولونيالية تشرح هذا جيداً وكيف أنّ المؤسسات تقوم بالترجمة طبقًا لمعايير معينة واختيار نوع معين من الكُتب للإبقاء على هيمنة شعوب على أخرى. نموذج الجزائر واضح بحيث يقوم الفرنسيون بترجمة بعض الروائيين الجزائريين إلى الفرنسية والترويج لهم في الأسواق والدوائر الثقافية التي تخدم الفِكر الاِستعماري ويعتبرون نصوصهم بمثابة التجسس على مجتمعاتهم أكثر منها روايات أو إبداع وهذا ما جرى أيضا مع نجيب محفوظ قبل حصوله على جائزة نوبل حين تُرجمت رواياته إلى الفرنسية وكُتِبَ على أغلفتها "دراسات أنثروبولوجية". ليس للمُترجم الحق في بتر النص لنزوة أو غيرها لكن يُمكن أن يُشير إلى ذلك وتبرير عدم ترجمته لفقرة معينة. في ترجمتي لكِتاب "سيمورغ" لمحمّد ديب (منشورات سيديا) لم أُترجم نصًا كاملاً من ثلاث صفحات وبررتُ ذلك في المقدمة بالقول أنّني تفاديتُ فعل ذلك لأنّ النص فيه روح اللّغة الفرنسية ويعتمد على الكثير من التورية والجناس والطباق والتقابل والنعوت التي تقوم على التلاعب بالحروف والكلمات المُتشابهة ولذا فإنّ الترجمة لن تؤدي الدور المطلوب منها لأنّ النص كُتِبَ في مناخ "سيميائي" لا تحتمله اللّغة العربية وأي ترجمة تصبح عبثًا ولا تؤدي أي معنى. المناخ الثقافي للنص الأدبي يلعبُ دوراً أساسيًا في تقديم النص لقارئ لغة أخرى وتجاهله يُعدُ خيانة كُبرى. في ترجمتي لرواية "بماذا تحلم الذئاب" لياسمينة خضرة (منشورات سيديا)، صادفتني الجملة الأخيرة للنص الأصلي بالفرنسية تقول (فيما معناه): "يا إلهي، لقد أمسكوا بنا مثل الفئران" ولكنّي ترجمتها على الدارجة الجزائرية باِعتبار أنّ الإطار الثقافي يفرض ذلك ثمّ مكان الجملة من النص. وكم من ترجمات شوّهت النصوص الأصلية لأنّها تُنشر دون مراجعة من طرف جماعة من المترجمين الخُبراء. الهدف الأساسي من الترجمة الأدبية هو منح كاتب النص الأصلي الفرصة للتحدث بلغة أخرى إلى قارئ لم يكن يحلم بالوصول إليه. لقد فرحتُ جداً لَمَا ترجمتُ ديوان "الشقاء في خطر" لمالك حداد (منشورات المكتبة الوطنية) لأنّي أحسستُ أنّي أجعل مالك يقول بالعربية ما أراد قوله منذ الوهلة الأولى لكنّه قاله بالفرنسية وهو لا يحسن سواها وهي "منفاه". اليوم يتم الحديث على لسانه بترجمة غير صحيحة وركيكة في أغلبها. كي تُترجم يجب أن تعرف جيّداً اللّغة المصدر (لغة النص) واللّغة الهدف (اللّغة التي يتمّ نقل النص إليها) وإلاّ ستحدث الكوارث.
مهما يُقال عن الخيانات التي تقترفها الترجمة فإنّه بفضلها اليوم يقرأ النّاس الروايات التي تحصل على شهادة نوبل وغيرها رغم أنّها كُتبت بلغات مختلفة. غارسيا ماركيز أو موراكامي أو يشار كمال أو رامبو أو إيميلي ديكنسون... يعرفهم القارئ العربي بفضل الترجمة ولولاها لبقي أعمى وهذا يصلح لكلّ اللغات. النص الجيّد يفرض محتواه على الترجمة، أي أنّ معانيه ستصل إلى القارئ إذا ما حرص المُترجم على الاِشتغال العميق على النص لأنّ النص الأدبي ليس لغة فقط، بل هو كلّ المعاني التي تقف خلفها، ولذا فإنّ الترجمة لن تستطيع إنقاذ النص الرديء أو منح شهرة مزيفة لكاتب ضعيف. أعتقد أخيراً أنّ وصف الترجمة "بالخيانة" هو إجحافٌ جاهل في حق جهد نبيلٍ هو أساس سفر الأفكار والإبداع بين الشعوب والقارات.

مليود حكيم شاعر ومترجم
هناك من يُشوّه ويُحرّف النصوص عمدا بدافع إيديولوجي أو ديني
إذا كانت الترجمة اِمتحانًا للغريب، يضعه في النقطة المُتوترة بين اللّغة الأصل واللّغة المُضيفة، فلا ريب أنّ لهذا العبور طقوسًا لابدّ من مراعاتها، وآدابًا تنبعُ من حفاوة الضيافة، باِعتبارها العتبة التي تنفتحُ على ما يختفي في القسمة من مواثيق تكتنفها الأسرار، وتحف بها تقاليد يعرفها العبّارون وحدهم، أولئك الذين يُقيمون في شتات اللغات، وأبراج بابل المسكونة باللّغة الصافية التي تبقى حُلمًا مستحيلاً لكلّ مرتادي آفاق الترجمة. وقد صاحب الترجمات منذ فجرها الأوّل إرث نظري حاول أن يُناقش إمكانياتها وحدودها، ويُؤصل لهذه المُمارسة المحفوفة بأخطار الخيانة والتحريف والتشويه في أحيان كثيرة، لأنّها مُمارسة تقف في التخوم، وتلتبس بِمَّا يبقى غير قابل للعبور والاِنتقال والتحويل، ذلك لأنّ لكلّ لغة عبقريتها وخصوصياتها، ولكلّ نص أسلوبه وبنياته، وإيقاعه ونبرته التي تُميزه حتّى داخل لغته الأولى، كما ينطوي على مرجعياته الثقافية المحلية، وحمولاته المعرفية المُتكتمة. وعملية نقله تكتنفها دومًا المخاطر التي تبقي حصة واضحة للنقصان في كلّ صنيع يُغامر بترحيل النصوص إلى بيت اللغات والثقافات.
لكن السؤال الّذي نقف أمامه الآن، ونحتاج للرد عليه إلى ترك مواثيق الترجمة وعهودها جانبًا، ونتفادى ما بدأنا به، حين تحدثنا عن نظريات الترجمة كما وصلت إلينا عبر تراكم يمتد لقرون، وتجارب شكلت اِنعطافات مهمة، ومسارات سجالية منذ برج بابل، باِعتباره الاِستعارة البليغة لفِعلٍ أنطولوجي، يُؤسس كيانيًّا لوجود الإنسان في العالم، ورغبته في فهمه وتأويله. ما يُنادينا الآن هو التشويه والتحريف والتدليس الّذي يُمارسه بعض المُترجمين، وهو بعيد تمامًا عن الخيانة الجميلة التي نوَّه بها منظّرو الترجمة ودارسوها. وهذا ما نُلاحظه بكثرة في العالم العربي، خاصةً مع ظهور الترجمات التجارية السريعة، والتي تهدف إلى الربح السريع والاِنتشار الاِستهلاكي، فوجدنا هذه الظاهرة تستفحل، بكلّ ما يُنتج عنها من تخريب وإفساد للفكر والإبداع. إنّ اِستفحال هذا الداء، أوصل الثقافة العربية إلى حالة من الضياع والمسخ، نتجَت عنها ضحالة وإسفاف في كلّ ما يتم إنتاجه إبداعيًا وفكريًا، حتّى صار الإبداع والفكر العربيين نُسخًا مشوّهة ومُحرّفة لفكر وإبداع الأُمم الأخرى.. يكفي أن نقرأ هذه الترجمات كي نقف على حجم الكارثة التي عمّت كلّ المشهد الثقافي العربي. ولهذه الظاهرة أسبابها التي تنبع، في أغلبها، من غياب أخلاقية (إيتيقا) للترجمة، إذ هناك من يجهل اللغات، أو يعرفها معرفةً سطحية، وتجده يُترجم. وهناك من لا يملك الاِختصاص المطلوب، كمن يُترجم كُتبًا فكرية، وهو لا يعرف أبسط مبادئ الفِكر، وهناك من يُشوّه عمداً النصوص، بدافع إيديولوجي أو ديني، إذ يتصرف في النص المُترجم، ويحذف منه ويُضيف كما يشاء، وهناك من يُسقط مقاطع كاملة من النصوص المُترجمة، وهناك من يُحرّف عمداً محتوى النصوص، والظاهرة الأخطر هي الاِرتباك المُستمر للمصطلحات التي لم تستقر في لغتنا العربية.. هذه المسائل كلها تستدعي أن نقف على خلفياتها ومصادرها، إذ الخلل الكبير يُوجد في بنية الثقافة العربية وموقعها، وفي صُلب المُمارسة الثقافية العربية، التي ما زالت تعيش داخل التبعية للسُلط الدّينيةّ والسّياسيّة، وما زالت ثقافة مغلوب مولع بمحاكاة الغالب، فلا هي تُنتج فكرها وإبداعها وفلسفتها التي تُميزها، ولا هي تستوعب علوم وفكر الغالب.. هي ثقافة التابع كما حللتها ما بعد الكولونيالية، وهذه الحالة وضعت الشعوب العربية ونُخبها في مسارات الفشل والخذلان، إذ لا مؤسسات قائمة بذاتها تُؤسس للترجمة وتجعل منها إستراتيجية، ولا مختصين فعلاً يقودون هذا العمل ويقفون على دقائقه وفنونه، ولا مسؤولية أخلاقية وفكرية تحكم هذا المجال، وفي ظل هذه الفوضى التي ليست خلاّقة، وفي ظل اِختلال الموازين والقيم، ومناخ الديكتاتورية وغياب الحرية والاِنهزام العربي وسيادة الأبعاد التجارية والاِستهلاكية، وسيطرة الظلامية الدينية، لن تعرف الترجمة حضورها الحضاري الفعّال، ولن تُحقّق أهدافها النبيلة.

محمّد عاطف بريكي كاتب ومترجم
تطاول المُترجم على النص الأصلي ليس من الترجمة في شيء
لا شك أنّ الترجمة وسيلة تُقرّب الضفاف البعيدة، وتكشف خفايا الآخر، وتُظهر السمات الثقافية للشعوب وتقرّب بعضها. ومن ثمّة تقف عملية الترجمة كمهمة صعبة يجب التعامل معها بحذر وبأمانة للوصول إلى نقل معنى نص اللّغة المصدر إلى قُرّاء اللّغة الهدف، وهكذا يُصبح للترجمة هدفٌ آخر في منظومة التلقين والتلقي لتصب في رافد أعم ألا وهو القراءة عبر توصيل قدر الإمكان نفس المعنى الّذي كان مفهومًا من قِبل المتحدثين باللّغة المصدر باِستخدام الصيّغ العادية للغة المُستقبِلة مع الحفاظ على دينامية نص اللّغة المصدر الأصلي، وهُنا تكمن صعوبة العملية برمتها عندما تتعدى الترجمة مجرّد نقل حرفي للمفردات والنصوص من لغةٍ إلى لغة أخرى، بل تتعداه إلى البحث في كيفية نقل المعنى وما يُرافقه من عوالم اللّغة الأصلية وهو ما يفرض على المُترجم أن يكون مُلمًا بثقافة الآخر ومُحيطاً بخبايا عوالمه ورموزه ومدركاته التي أسَّس في كنفها لكي يتمكن من نقل تلك العوالم بمحمولاتها وخلفياتها إلى عوالمنا باِستعمال مفرداتنا وصيغنا التي نفهمها نحن. وبالتالي تظهر الترجمة باِعتبارها عِلمٌ ومهارة، وفنٌ ومسألة تذوّق. هذه المهمة شبه المُستحيلة تحتم على المُترجم أن يكون على دراية بفنون الترجمة واستراتيجياتها لكي يتمكن من التحليق عاليًا في عوالم الآخر وهو ما يحتم عليه أيضا خيانة النص الأصلي كيما يُوّصل لنا الرسالة بالمعنى الّذي نفهمه نحن، وهو ما سوف يمتزج بشخصية المُترجم لأنّه سوف ينقل لنا ذوقه الخاص وتجربته الشخصية وكلّ محمولاته ومدركاته المُستنبطة من اِحتكاكه بثقافة النص المُترجم لكي يبثه فينا ويُدخلنا في أجواءه من دون كدر وبمكر، وهو ما يذهب إليه كيلي kelly في تعريفه للترجمة بأنّها مهارة فهم النص المصدر ونقله في اللّغة الهدف باِستخدام السجل (Registre) وخلفية المعرفة، وموارد اللّغة الأخرى وفقًا للغرض المقصود ولذلك فإنّ المُترجم هو وسيط بين لغتين وثقافتين باِستطاعته نقل اللّغة المصدر إلى اللّغة الهدف. ولما كانت عملية الترجمة على هذه الدرجة من المسؤولية والتعقيد فإنّها حتمًا ستواجه عقبات وعراقيل من أجل الوصول إلى الهدف، ألا وهو ترجمة النص، وهو ما يُطلق عليه بإشكاليات الترجمة التي وجد لها المختصون "إستراتيجيات" لتخطّيها وغالبًا ما تنحصر الإشكالية في عنصرين، هما: "المشاكل المعجمية" و"المشاكل النحوية"، ويُقصد بالإستراتيجيات الخطة التي يجب على المترجم إتباعها لتخطي المشاكل التي تعترضه أثناء الترجمة، وغالبًا ما يتبع المُترجم الإستراتيجية الخاصة به التي يكون قد أسسها بناءً على تجاربه السابقة في مهنة الترجمة، وأخرى يكون تلقاها من تجارب لمترجمين آخرين. تبقى الترجمة كعِلم قائم بذاته له روافده ونظرياته ورجالاته من ذوي الاِختصاص وهو ما يُبيّن حجم المسؤولية المُلقاة على المُترجم الّذي لا يمكنه بأي حال من الأحوال إقحام آرائه وأفكاره على النص المُترجم، وهو ما يؤدي إلى تطاوله على النص الأصلي بطريقة اِرتجالية أو مزاجية شاذة وغريبة ليست من الترجمة في شيء، وهذا من دون شك سوف يدع المجال لظهور نصوص ممسوخة ومخلوقات دونكيشوتية ستحسب ضدّ المترجم لا شكّ لأنّ الترجمة كصنعة براء منهم كبراءة الذئب من دم يوسف.

بوداود عميّر  كاتب ومترجم
جودة وأمانة الترجمة مسؤولية ثقيلة
لعلّ عبارة "الترجمة خيانة"، من العبارات الشائعة التي باتت تجري على ألسنة الجميع، تُستخدم جُزافًا دون روية أو تبصر، قد يُفهم منها تجنيًا أنّ الترجمة ليست ضرورية ولا طائل يُرجى من ورائها، مادامت تُصنف في خانة "الخيانة"؛ وهي المقولة التي يعود أصلها إلى تعبير إيطالي، توارى خلف تلاعب لفظي أوجده تشابه بين كلمتي الترجمة والخيانة في اللّغة الايطالية، لكنّها تعني في الواقع، خارج المحسنات اللفظية، كما تشرح في سياق إطلاقها، أنّ ترجمة نص من لغة إلى أخرى لا يمكن لها أن تتطابق مع نص العمل الأصلي، لذلك يُفضّل قراءة العمل في نسخته الأصلية ليتمّ اِكتشافه كما أراده وأبدعه مؤلفه. ذلك أنّ عملية الترجمة كفعل ثقافي وحضاري، عملية ضرورية لا مناص منها، بوصفها أداة أساسية لنقل العلوم والمعارف وجسر تواصل بين شعوب العالم؛ إذ لا يمكن تصوّر شكل العالم والإنسانية بدون ترجمة، وبقدر ما تهتم الأُمم بالترجمة من وإلى جميع اللغات، بقدر ما تضمن أسباب تطوّرها ونهضتها.ثمّة زاوية معيّنة تقبع داخل عملية الترجمة، تستند في تفاعلها على بعد لغوي أو إبداعي؛ بحيث قد تفقد الأعمال الأدبية لاسيما منها النصوص الشِّعرية، بريقها الأصلي، بوصفها المادة الخام؛ ذلك أنّ اللّغة الأصلية المُترجم منها، تُخاطب الوجدان باِعتبارها جزءا أصيلاً وبوحاً مُسترسلاً ينبع من أعماق المُخاطب ومشاعره، خلافًا للغة المُترجم إليها. هكذا تبدو النصوص النثرية التي تشتغل على اللّغة، والنصوص الشِّعرية تحديدًا، عبارة عن وجدان وأحاسيس وموسيقى، يُستعصى ترجمتها "إنّ الشِّعر لهو ما يتبقى من الترجمة" يقول الشاعر الأمريكي روبرت فروست؛ وربّما لهذا السبب، يُفضّل بعض المشتغلين في حقل الترجمة، اِستخدام كلمة: النقل، بدل الترجمة؛ وهو ما يذهب إليه الفيلسوف الألماني شوبنهاور عندما يُؤكد أنّ القصائد الشِّعرية "لا يمكن ترجمتها، بل يمكن نقلها فقط"، إذ من شأن تفعيل عملية النقل في النص، أن يُحافظ على الأصلي فيه، كما جاء في المصدر، بدون تصرّف أو حذف أو تعديل، حتّى ولو اِقتضى الأمر وصوله إلى القارئ في صيغة غامضة، مستعصية على الفهم؛ وقد يحدث في حالة إصرار المُترجم على الإفراط في إدعاء تحسين النص موضوع الترجمة، تحويله إلى نص مغاير ومختلف تمامًا عن النص الأصلي؛ ومن جهة أخرى سينتج الوفاء الكامل في ترجمة هذا النوع من النصوص الأدبية، عملاً خاليًا من الإحساس.
من هنا قد تنجح الأعمال الأدبية والقصائد الشِّعرية، في ترجمتها إلى لغات العالم، والوصول إلى عددٍ أكبر من القُراء بمختلف اللغات المُترجم إليها، عندما تعتمد في متونها أساسًا على الحكاية الخالية من التهويم والزخرفة المُفرطة بالنسبة للنصوص السردية، وتعتمد على الصوّر المشهدية بالنسبة النصوص الشِّعرية، بحيث لا يستدعي الأمر اِجتهاداً وبحثًا في تفسير المعنى المُوارب، الّذي قد يُوَّفق المُترجم في الوصول إليه وقد لا يُوَّفق؛ والأمثلة كثيرة حول شعراء وصل شعرهم العالم، أدرك القارئ معانيه واستمتع به بلغته المُترجم إليها. فليس غريبًا والأمر كذلك، أن تفشل ترجمة الشِّعر العربي المُعاصر، بِمَّا في ذلك الأسماء الشِّعرية الرائجة عربيًا، وبالقياس نفسه، فشلت ترجمة الأعمال الروائية العربية التي تشتغل أساسًا على اللّغة، في الوصول إلى الآخر عن طريق الترجمة، رغم أنّ بعض تلك الأعمال حقّقت رواجًا واسعًا في الوطن العربي. هكذا تبدو المسؤولية ثقيلة، ستقع على كاهل المُترجم بالدرجة الأولى، في تحقيق أمانة النقل، ومُراعاة معادلة الاِلتزام بعملية التطابق مع المصدر والسعي إلى تحقيق الجودة الإبداعية في النقل.

الرجوع إلى الأعلى