هناك جدارٌ سميك بين نشاط الجامعة وبين ما يُنجز  من إبداعات في الساحة الأدبية
* بعض دور النشر الجديدة لجأت إلى طلب مساهمة مالية من المؤلف
يتحدّث الكاتب والناقد والمترجم الدكتور محمّد ساري، في هذا الحوار، عن مزاوجته الكتابة باللغتين: العربية والفرنسية. وكيف يعيش هذه المزاوجة والثنائية. وعن علاقة النقد بالمبدع والإبداع معًا، وكيف يلعب –الناقد/ أو النقد- دوره في ترقية الإبداع والتشجيع على القراءة، أي حثّ القُراء على حبّ الكُتب التي يتناولها بالنقد. كما تحدث عن الدور الّذي يمكن أن تقوم به الجامعة في مجال تطوير النقد الأدبي والبحث الأكاديمي في حقل النقد، محذرا من خطر النشر الالكتروني الذي يتيح لأي كان التجاسر على الأدب، إلى جانب قضايا أخرى نكتشفها في هذا الحوار.

حاورته/ نـوّارة لحـرش  

أبناء جيلي محكومٌ عليهم بهذه الاِزدواجية في القراءة والكتابة معًا
uتزاوج بين الكتابة باللغتين العربية والفرنسية. كيف تعيش تجربة الإبداع في كلّ لغة، بمعنى آخر كيف تعيش هذه الاِزدواجية أو الثنائية في لغة الكتابة؟
محمّد ساري: إنّ ظروف جيلي من الذين دخلوا المدرسة مباشرة بعد الاِستقلال ودرسوا سنوات تعليمهم الاِبتدائية والثانوية بالفرنسية قبل أن يشملهم التعريب في منتصف السبعينيات، محكومٌ عليهم بهذه الاِزدواجية في القراءة والكتابة معًا. إنّ العربية تبقينا لاصقين بجذور الأدب العربي الّذي ننهلُ منه أروع النصوص قديمًا وحديثًا، بينما تفتح لنا الفرنسية آفاق الآداب العالمية، لأنّني مثلاً أقرأ بالفرنسية لكُتّاب غير فرنسيين مترجمين إلى الفرنسية أكثر مِمَّا أقرأ للكُتّاب الفرنسيين والفرنكوفونيين، باِستثناء الجزائريين الذين أُصرّ على قراءة كلّ ما يكتبونه تقريبًا، لأسباب عاطفية وفضولية أكثر منها أدبية. بدأتُ الكتابة بالفرنسية، ونشرتُ أشعاراً وأنا بالثانوي، ثمّ تعرّبتُ وكتبتُ بالعربية، وعدتُ بعد سنوات إلى الفرنسية.
في منتصف التسعينيات حينما كانت الجزائر تشتعل بنار الإرهاب، كتبت رواية «الورم» وعرضتها على دور نشر جزائرية وعربية ورفضت نشرها بسبب حساسية الموضوع. وكانت في تلك الفترة دور نشر فرنسية تتهافت على نشر روايات حول الإرهاب، فأعدتُ كتابتها بالفرنسية وغيرتُ لها العنوان «Le labyrinthe المتاهة»، ونُشرت في سنة 2000، قبل النسخة العربية التي لم ترَ النّور إلاّ في 2002. وقد حقّقت لي رواجًا لم أعرفه من قبل، واشتركتُ في دعوة فرنسية زرتُ بفضلها مجموعة من المُدن للقاء القُراء والبيع بالتوقيع. بينما لم تعرف العربية نفس الرواج. مثلاً بيعت الطبعة الأولى بالفرنسية وأُعيد طبعها في الجزائر ونفدت في أقل من سنة. بينما بقيت الطبعة العربية في المكتبات لسنوات طويلة قبل أن تُباع كليةً. وهذا واقع مرير لكُتّاب العربية في الجزائر. ومن جهة لجأتْ بعض دور نشر جديدة إلى طلب مساهمة مالية من المؤلف، وأمام رغبة النشر، لجأ الكثير منهم إلى هذه الطريقة لإخراج نصوصهم من الأدراج والنسيان. لا أعرف إن كانت هذه الثنائية في الكتابة هي الطريق الصحيح بالنسبة لي. أحيانًا أفكّر في وضع حدّ لها، باِختيار لغة كتابة واحدة، لتكن العربية. ولكن بعد نيل روايتي بالفرنسية «أمطار من تبر» Pluies d’or لجائزة «الإسكال» الأدبية في 2016، كبرت شهيتي إلى الكتابة بالفرنسية وكتبتُ سيرة طفولتي الأولى. ولكنّي الآن، أكتبُ رواية بالعربية. فهل يعني هذا أنّني لم أخرج بعد من عُنق الزجاجة. هناك اِختلاف في الكتابة بالعربية والفرنسية.
على الكاتب العربي إن أراد للغته أن تدخل الحداثة أن يجتهد في تطويع ألفاظها
uما هي ملامح أو أوجه هذا الاِختلاف؟
محمّد ساري: الكتابة السردية بالفرنسية أسهل بكثير حينما نكتب رواية أحداث ومشاهد الحياة المعاصرة لتوفر القاموس اللازم لذلك والمتداول. أمّا اللّغة العربية، فقاموس الحياة العصرية غير متوّفر بالكيفية المرجوّة، فيجبر الكاتب على البحث داخل قواميس المجامع العربية لاِستخراج ألفاظ مخبرية حوشية غير مستعملة، وغير مشاعة بين مستعملي اللّغة العربية الحديثة، وأخصّ بالذِكر هنا كلّ ما يتعلّق بمحيط الحياة العصرية من تفاصيل الأشياء والأماكن والآلات المستخدمة. وقد قمتُ بتتبع ترجمة منير البعلبكي لرواية «البؤساء» لفكتور هيجو واستخرجت بعض هذه الصعوبات التي واجهها المُترجم، فيضطر إلى اِستخدام لفظة واحدة تُقابل أربع ألفاظ مختلفة في الفرنسية، أو اللجوء إلى الشرح بأكثر من كلمة. أمّا نجيب محفوظ فيستخدم الكلمات الفرنسية أو الإنجليزية معرّبة لتسمية كثير من المستحدثات العصرية. كما نجد صعوبة في الحوار أيضا.
اِستخدام الفصحى يُقلل من قوّة شحنة الكلمات ويبدو متصنعًا وغريبًا. فيما اِستطاعت الفرنسية التأقلم مع الواقع الجديد وحتّى مع حديث الشخصيات من الطبقات الدُنيا غير المُتعلمة. وهذه معضلة حقيقيّة يُواجهها جميع الروائيين الواقعيين. أظن أنّ العربية تصلح أكثر للكتابات الذاتية والمناجاة والمشاهد التاريخية. ولكن على الكاتب العربي إن أراد للغته أن تدخل الحداثة أن يجتهد في تطويع ألفاظها والاِستنجاد بالعامية في تسمية الأشياء وإن كانت فرنسية معرّبة، وهي إضافة لقاموس العربية وإثرائها. أمّا القيّم فأظنها واحدة في جميع اللغات، علينا فقط إتقان التعبير عنها بألفاظ جديدة، ولا نكرّر التعابير القديمة التي أنتجتها بيئة مغايرة عن بيئتنا.
النقد يتوجه بالأساس إلى جمهور القُراء وليس إلى المبدعين. والمُبدع عادةً لا يحتفي بالنقد كثيراً
uكثيرا ما يتم التساؤل عن النقد وعلاقته بالمبدع والإبداع معًا. برأيك كيف يلعب «النقد» دوره في ترقية الإبداع والتشجيع على القراءة؟
محمّد ساري: ينبغي التأكيد على أنّ النقد يتوجه بالأساس إلى جمهور القُراء وليس إلى المبدعين. المُبدع عادةً لا يحتفي بالنقد كثيراً، خاصةً إذا تطرق إلى بعض الجوانب السلبية أو نقائص العمل الإبداعي. ومع ذلك للنقد دورٌ لا يُستهانُ به في الترويج للعمل الأدبي، وعادةً ما كان النقد أم عدمه عاملاً حاسمًا في تحديد مصير بعض الكُتّاب. يمكن لكاتب، إذا اِحتفى النقد بأدبه أن يُواصل الكتابة. أمّا إذا مرّ الكتاب في صمت مطبق، أو أنّ الحديث عن السلبيات طغى على التغطية النقدية، فيمكن للكاتب أن يعتزل الكتابة، وهذا ما رأيناه عند كثير من الأسماء الأدبية التي نشرت كِتابًا أو كتابين ثمّ اِختفت نهائيًا من فضاء الإبداع. ولكن يُوجد صدام كبير بين النُقاد الجزائريين والمبدعين، خاصةً منهم الشباب الذين لا يقبلون التطرق إلى السلبيات، ويعتبرونها مساسًا بشخصهم، بل وناتجة عن الغيرة والحسد، وليس عن قراءة نقدية موضوعية تعتمد على المناهج النقدية العلمية.
هذا من الأسباب التي أدت بالأكاديميين إلى العزوف عن نقد الأدب الجزائري الّذي عادةً ما يُدخلهم في صراعات هامشية لا فائدة من ورائها. فمن جهة، يشتكي المبدعون من غياب النقد وقِلته، ومن جهة أخرى لا يُرحبون إلاّ بالمدح لأعمالهم ولعبقريتهم الفذّة. وقد لعبت الإخوانيات الفايسبوكية والتعليقات الحميمية والتشكرات المُتكررة دوراً سلبيًا في العلاقة بين الإبداع والنقد. كما لعبت المواقع الإلكترونية دوراً سلبيًا باِستسهال النشر. أصبح كلّ من يخط نصًا دون تمحيص ودراية بفنيات الكتابة الأدبية وأجناسها يرميه في الشبكة العنكبوتية ويتصوّر نفسه كاتبًا لامعًا بإكثار الصور كما لو أنّه نجم سينمائي، وليس كاتبًا يُكرّس اِسمه بالنصوص وليس بشخصه. إنّ الإنترنيت بقدر ما وفّر شبكة هائلة لحرية التعبير والتواصل الاِجتماعي والثقافي ونشر المعلومات والأخبار، بقدر ما شوّه الإبداع باِجتياح الدخلاء لفضائه النبيل. ومع ذلك، هناك نقد يُمارسه الجامعيون عبر رسائل الماجستير والدكتوراه، وللأسف يبقى سجين الجامعة لأنّه لا يُنشر ولا يصل خبره حتّى إلى وسائل الإعلام.
قِلة قليلة من الجامعيين يعملون على مواكبة الأدب المُعاصر والأدب الجزائري
uما هو أهم أو أكـثـر دور يمكن أن تقوم به الجامعة وأساتذتها في مجال تطوير النقد الأدبي والبحث الأكاديمي؟

محمّد ساري: المُلاحظ أنّ قِلة قليلة من الجامعيين يعملون على مواكبة الأدب المُعاصر والأدب الجزائري. هناك بحوث محترمة أنجزها الأساتذة وحتّى طلبة الماستر والدكتوراه في السنوات الأخيرة، ولكنّها تبقى سجينة أدراج المكتبات الجامعية. فلا يُطبع من هذه البحوث إلاّ نسخًا قليلة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. هناك جدارٌ سميك بين نشاط الجامعة، وبين ما يُنجز من إبداعات في الساحة الأدبية. أتساءل لماذا لا يُشارك أساتذة الجامعة في الحركة النقدية؟ إنّهم يملكون معرفةً تُؤهلهم للحديث عن الأدب بموضوعية أكثر. ولكنّهم لا يفعلون. إنّ الوضع مُخالف في المشرق العربي، فالأسماء اللامعة في النقد المُتداول عبر الجرائد والمجلات تنتمي في أعمها إلى الجامعة. ومن الأسباب الأخرى لغياب النقد هو غياب المجلات الأدبية المنتظمة. فكيف تنمو حركة أدبية ونقدية في ظل ظروف كلها تعمل على قتل الإبداع والنقد. من المُفترض أنّ اِنتشار الصُحف اليوميّة والأسبوعية يُساهم بوتيرة سريعة في اِنتشار الكتابة الأدبية خاصة منها القصة والقصيدة والمقال النقدي. فعلى الصحافة أن تفتح صفحاتها للأدب والنقد وعلى الجامعيين أن ينفضوا الغبار عن أوراقهم وأن يُسخّروا علمهم لخدمة الإبداع الجديد، دون أن ينسلخوا عن الطابع الأكاديمي.  لكن اِنغلقت الجامعة على نفسها، ولم يعد الجامعيون يهتمون إلاّ برسائل تُناقش بسرعة البرق وتمنح الشهادات للاِرتزاق. أمّا الفكر والأدب والنقد، فأضحى عملة نادرة لا يكاد يخوض دروبها أحد، لأنّها، ببساطة، لا تدر أموالاً على أصحابها. فأضحى الأستاذ يُفضل إعطاء دروس إضافية أحسن بكثير من وجع دماغ الكتابة النقدية المجانية، وقد تخلق له مشاكل مع جيل مُعتد لا يقبل النقد المُناقض، لأنّ وسائل التواصل الاِجتماعي أتخمته مدحًا وإطراءً عبر التعليقات الإخوانية على ما ينشره من نصوص ومن صور شخصية، تليقُ بمشاهير السينما وليس بكُتّاب يمتهنون الكلمة الجميلة والأسلوب السلس المُمتع. وأظن أنّها ظاهرة اِنتشرت في كثير من البلدان العربية.
الجامعة تعيش في الماضي وترى فيه العِلم كله
uوماذا عن بعض التُهم الموجهة للنقد، من قبيل عدم مرافقته ومواكبته للأدب في الجزائر. ما مدى صحة هذا الأمر؟
محمّد ساري: كثيراً ما نقرأ في الصُحف الوطنية كلامًا حول أزمة النقد الأدبي، بل يُغالي البعض ويذهب إلى تأكيد غيابه الكلي عن الساحة الثّقافيّة. وأكثر الأصوات اللائمة هي أصوات المبدعين الذين يتحسرون أيّما تحسر حينما يصدر لهم عمل إبداعي ولا يلتفت إليه ناقد ليقدمه إلى القُراء، مُحللاً ومُقيِّمًا. ما أكبر المرارة التي يشعر بها الكاتب حينما يصدر عمله الأدبي في صمت كلي. يقضي الكاتب أيّامًا أو بالأحرى شهوراً وهو يكتب ويُصحح ويُعيد النظر في كلّ جزئية، ثمّ ينتظر شهوراً أخرى وربّما سنوات ليطبع كتابه. ثمّ حينما ينزل الكِتاب إلى المكتبات، يقضي المبدع أيّامًا أخرى مترقبًا بشغفٍ كبير وحالمًا باليوم الّذي يصبح اِسمه مُتداولاً بين النُقاد والصحفيين. وبعد كلّ هذه المعاناة والاِنتظار وربّما الخسارة المادية (إن طبع الكِتاب على حسابه الخاص) يمر الكِتاب في صمتٍ مُطبق كغريب أعزل، لا يلتفت إليه أحد. إنّها وضعية قاتلة للإبداع. الصمت هو العدو اللدود للمبدع. ربّما فضّل المُبدع الحقيقي الشتم والنقد الهجومي عن الصمت واللامبالاة.  إنّ المُتتبع للصحافة الأدبية باِنتظام يُلاحظ بأنّ «النقد» حاضر وإن كان حضوره باهتًا ومُحتشمًا ومُتردداً. ويتشكل في أعمّه من العروض السريعة للكُتب، لا طعم لها، يقوم بها صحفيون خاضعون لمقتضيات المهنة، ودون أي اِحتراف. إنّهم في الغالب لا يستوفون قراءة الكِتاب، بل يكتفون بقطع مقتطفات من هنا وهناك. في حالات أخرى، يقوم صحفي بحكم علاقة صداقة تربطه بالكاتب على تغطية عمله دون أن يقرأه بشكلٍ جيّد وفي هذه الحالة، سيتحوّل إلى مدح لصديقه الكاتب وعبقريته الفذة. وأحيانًا، يحدث العكس تمامًا. لا يعجبه صاحب الكِتاب، فينزل عليه كالصاعقة، رافضًا الكِتاب شكلاً ومضمونًا. وهي حالات، عادةً ما سمعنا بعض المبدعين يشتكون منها.
إنّ نقد الكُتب وتقييمها يحتاج إلى اِحتراف، والاِحتراف له متطلباته، منها الاِختصاص والوقت. ونقول بأنّ الجامعة الجزائرية توّفر هذين الشرطين، حيث يتواجد المختصون في جميع الاِختصاصات الأدبية، القديمة والحديثة، كما توّفر طبيعة المهنة وقتًا للبحث والكتابة. ولكن ما نُلاحظه هو أنّ الجامعيين يعيشون في أبراج عاجية، بعيدة كلّ البُعد عن الإبداعات الجديدة. إنّ أغلبية البحوث تخص الأدب القديم أو الأدب الحديث (الخمسينيات والستينيات). الجامعة تعيش في الماضي، وترى فيه العِلم كله. الكُتّاب مكرسون، والمناهج مكتملة، والمراجع متوفرة، ولا يعرض الباحث نفسه إلى أي لوم أو نقد، من أية جهة كانت أو من أي شخص كان. إن نظرة سريعة إلى فهرس الرسائل الجامعية المناقشة في معاهد الآداب وفهارس المجلات الصادرة عن هذه المعاهد، تُؤكد أنّ غالبية الموضوعات وكذا المناهج المستخدمة من أصلٍ قديم، مكرّر إلى ما لا نهاية، حتّى أضحى الكثير منها نُسخًا باهتة للأصول القديمة. صحيح أنّ طبيعة التكوين تقتضي أن نُقدم للطالب المعلومات المكتملة، والمُتفق حولها. من السهل أن ندرس مقامات الهمذاني مثلاً. يوجد حولها من المراجع ما يمكن أن نستوفي سنة كاملة من الدراسة. أغلبية الجامعيين لا يرون أي إبداع في النصوص الجديدة. الإبداع كله عند القدماء، وإن صدف أن توفر عند بعض المعاصرين، فإنّهم بالضرورة ينتمون إلى المشرق العربي. أمّا مغربه، فهو تابع للمشرق، قديمًا وحديثًا. إنّه اِغترابٌ مُدمّر للذات. 

الرجوع إلى الأعلى