نقد الرواية الجزائرية خاض في تجارب فارغة من المحتوى غارقة في الشكلية
* الدراسات الأكاديمية استندت إلى التوجهات الايديولوجية السائدة    *  الساحة الثقافيّة الوطنيّة غير مهيأة للنقد أصلاً     *  لم نهتم بأدبنا ولا نكاد نعرف تراثنا الإبداعي

تتحدّث الناقدة والباحثة الأكاديمية الدكتورة آمنة بلعلى، في هذا الحوار، عن دور النقد في الجزائر، وما مدى إحاطته بالنماذج الروائية الجزائرية، خاصة ما تعلق بالإحاطة القرائية والمعرفية إلى جانب الإحاطة الفنية. وفي سياق الرواية تحديدا، قالت «تشهد الرواية أساليب متنوعة ومختلفة وثرية ومنفتحة على عوالم إبداعية قد لا تكون في الحسبان، وهي في تحديث وتجديد مستمر، لأنّها من جهة تواكب التحوّلات التاريخية المعاصرة للمجتمعات، ومن جهة أخرى لأنّها تأبى أن تكون لها هوية معروفة، فهي تحقّق هويتها في الوقت الّذي توجد فيه». بلعلى خاضت في نقاط وإشكالات أخرى ذات صلة بالنقد والمناهج والرواية والأدب، بكثير من التحليل والعُمق النقدي والمعرفي. نكتشف كلّ هذا من خلال هذا الحوار.
حاورتها/ نـــوّارة لــحرش
برأيك هل أحاط النقد في الجزائر بالنماذج الروائية الجزائرية إحاطة وافية، قرائية ومعرفية إلى جانب الإحاطة الفنية، أم أنّ الاِنسياق وراء المناهج النقدية هو الغالب؟
آمنة بلعلى: للأسف ظهرت الرواية الجزائرية سواء تلك التي كُتبت باللّغة الفرنسية في بداية خمسينات القرن الماضي أو تلك التي أَسست للرواية المكتوبة باللّغة العربية، ظهرت في سياق إيديولوجي اِرتبط بالتحوّلات الفكرية والثقافية في الغرب، فتمّت دراستها اِستنادا إلى تلك التوجّهات الإيديولوجية، كتلك التي نظرت إلى الرّواية كجزء من خطاب المقاومة الوطنية، أو تلك التي جعلت منها فضاءً لتجسيد مشروع التحديث الوطني بعد الاِستقلال. وكلا التوجّهين لم يتمكّنا من تقديم رؤية نقدية تستجيب لما كانت الرواية الجزائرية تطمح إليه وهي تنخرط في سياق جنس جديد في الكتابة كان عليه أن يُوظف كلّ إستراتيجياته من أن يكون بديلاً عن الشِّعر الإصلاحي وشِعر الثورة ليقدم نفسه خطابًا يمكن أن يستثمر كلّ الطاقات الإبداعية لتشكيل نص مختلف وحساسية جديدة، وذائقة أيضا جديدة، وفعلاً ذلك ما حدث حين هيمنت الرواية منذ سبعينات القرن الماضي على الذوق العام، واستطاعت أن تكون مؤثرة على أجيال ولا تزال، غير أنّ النقد الأكاديمي الّذي ورثته الدراسات النقدية مع منتصف الثمانينات، قدّم خطابات واصفة أبعدت الدرس النقدي والرواية عن حقل المُساءلات الفكرية والمعرفية التي تجعل منها كيانًا لغويًا قادراً على كشف الوجود الإنساني الجزائري بكلّ حمولاته التاريخية وحاجاته النفسية، ورؤاه المستقبلية، وعوض أن تدفع المناهج النقدية بالرواية إلى أفق وجودي أرحب مِمَا تجده في الواقع، راحت تُراهن على كفاءتها الوصفية، لتبتعد شيئًا فشيئًا عن النص الروائي وعن المعنى، ويرتكز السباق حول مدى اِستجابة المنهج للنص الروائي لكي تكون القراءة دليلا على حسن تطبيق المنهج، وخاض النقد في تجارب فارغة من المحتوى غارقة في الشكلية، غيبت الكثير من عطاءات الرواية، وساهمت في تعميق الاِبتعاد عن القيمة، فغاب معها السياق، وتمّ ما يُشبه عولمة النقد الّذي رأى الرواية الجزائرية في أنماط سردية واحدة وأزمنة مُتماثلة، وبدت كلّ الروايات برامج سردية تبدأ لتنتهي ليخرج المنهج منتصراً، وذلك ما عبرت عنه بالاِنسياق وراء المناهج الغربية في توجهاتها المحايثة.
وكيف هي قراءتك للمدونة النقدية الجزائرية مقارنةً بمثيلتها في العالم العربي؟
آمنة بلعلى: أنا جزء من حركة النقد الجزائري، ولذلك أنا دومًا أتحدّث عن محنته وأسئلته التي لم نجد لها أجوبة؛ لأنّ هذا النقد، وعلى الرغم مِمَّا قدّمه الجزائريون منذ أن تعلموا اللّغة العربية وأحبوها، وهو يُؤسس لمنعطفات كبيرة منذ عبد الكريم النهشلي وابن رشيق والمقري وغيرهم، إلى العصر الحديث مع الزاهري والركيبي ولكنّنا لم نستطع أن نُحافظ على هذه الرموز؛ ولذلك كان حظ الأدب الجزائري من النقد ضعيفًا، وحظ النقد من معرفة نفسه أضعف؛ لأنّنا لم نهتم بأدبنا، ولا نكاد نعرف تراثنا الإبداعي الّذي لا يزال مادة خاما وبعضه اِستولى عليه الآخرون ونسبوه إليهم، ولذلك نحن اليوم نعتقد أنّنا لم ننجز سوى نقداً للرواية، كما نعتقد أنّ الرواية اليوم تُشكل مادة إلهامية بالنسبة للناقد، لكنّها في الحقيقة هي علاقة غير مُنتجة على الرغم من الكتابات النقدية الكثيرة عن الرواية، لأنّنا لم نطرح الأسئلة الجوهرية حول الرواية، والمُتعلقة أساسًا بالكشف عن الكُليات التي تنتظم هذا الركام الكبير، وتقديم توصيفات لائقة تسمح لنا بمعرفة المتشابه والمختلف والنموذج المعرفي الّذي تُؤسس له الرواية وحتّى الشِّعر الجزائري الّذي يُلاقي هجرانا أمام هيمنة الدراسات التطبيقية والبُعد عن السؤال المعرفي الإبستيمي.
وأنا حاولت منذ بداية علاقتي مع الأدب الجزائري أن أتعامل معه ليس باِعتباره نصوصًا للتمرن على المناهج النقدية المعاصرة، ولكن من أجل أن أقف على هذه الكليات التي تنتظم الرؤية فيه، فكتبتُ عن الرواية  الجزائرية من المتماثل إلى المختلف، لأنّي بصرت بهذا النموذج المعرفي الّذي سارت عليه الرواية المكتوبة بالعربية منذ السبعينات إلى بداية الألفية الثالثة، كما أنّني تابعتُ ولازلت أتابع حركة الشِّعر الجزائري من منطلق اِشتغالي على الشِّعر العربي الحديث لأرصد أيضا النماذج المؤسسة للّحظات الفاصلة في بناء النموذج الشِّعري، سواء في كتابي خطاب الأنساق أو فقه الشِّعر، وقراءتي للأدب الجزائري ليست رد فِعل عن قراءتي للتراث الصوفي أو الأدب المشرقي لأنّني أنطلق من فكرة أنّ النصوص كلّها، هي مادة الناقد التي تجعله قادراً على صناعة رؤيته النقدية وإضافته في مجال النقد، ولذلك، فأنا لا أفاضل بين النصوص، وإنّما أتقصّدها بِمَا تمليه علي هواجسي النقدية لا غير، فكلّ قراءة أقدمها عن نص روائي أو شِعري عربي أو جزائري، أنطلق من سؤال إشكالي وأحاول أن أربح الرهان الّذي حالت دونه النظرة الجزئية للنصوص لدى كثير من النُقاد، لتصبح علاقتي النقدية بالنصوص علاقة معرفية وثقافية أكثر منها أداتية.
وأنا أراقب اليوم كيف أصبح مفهوم العربية الّذي يلحق بالرواية والشِّعر في البلاد العربية مفهومًا هلاميًا لا يقول شيئًا أمام بروز دعوات قطرية لهويات إثنية واجتماعية وطائفية تفرض منطقها على الإبداع، وتدفعنا إلى التساؤل ليس عن الأسباب لما يعتقد البعض أنّه تشتّت للوحدة؛ لأنّ التوجّه إلى الهويّات الضيّقة ليس مشكلة في حد ذاته، بل لمعاينة ظاهرة عودة المعنى والقيمة والثقافة والتاريخ باِعتبارها مطلبًا وجوديًا عامًا لحماية الإنسان من الماديات، ومن هيمنة المؤسّسات السّياسية في كلّ قطر عربي، بعد الإمعان في الخروج من الذات.
النّص الأدبي لا يكون قابلاً لدراسة موضوعية جادة إلاّ إذا أخذ حيّزه داخل منظومة التلقي والاِستقبال
هل التراكم الموجود للمتن الروائي الجزائري يسمح بتشكيل أحكام نقدية موضوعية للرواية الجزائرية؟ وما هي علاقة الناقد بالروائيين الشباب الذين كثيرا ما يشتكون من إقصاء النُقاد، والعمل على تكريس روائيين بعينهم؟
آمنة بلعلى:العلاقة بين الروائيين والنُقاد تقوم على توصيفات يُقدمها هؤلاء عن أولئك، فالروائيون الشباب يُلاحظون بأنّ اِهتمامات النُقاد منصبة على الكبار، وهو وإن كان صحيحًا جزئيًا، أمر طبيعي، لأنّ النص الأدبي لا يكون قابلاً لدراسة موضوعية جادة، إلاّ إذا أخذ حيّزه داخل منظومة التلقي والاِستقبال، وفرض نفسه بتقديم الجديد والمختلف، فهذا الطاهر وطار مثلاً لم يدرس في الجزائر في حينه، فقد كان النُقاد يدرسون قبله جيلاً آخر من مجتمعٍ آخر هو جيل طه حسين والعقاد، وكان ذلك أمراً طبيعيًا لم تستطع فيه الرواية الجزائرية أن تفرض نفسها على الذائقة. ويبدو أنّ الروائيين الشباب يستعجلون الظهور والوصول، كمن يريد أن يُولد في شهره الخامس، وهم في اِستعجالهم الظهور يعتقدون أنّ النُقاد هم حجر عثرتهم.
من جهة أخرى هناك مشكلة لا علاقة لها بالنقد الأكاديمي، وهي مرتبطة بغياب حركة نقدية عامة لها منابرنا الإعلامية من مجلات وجرائد، وصفحات خاصة، وإذاعة وقناة ثقافية تؤدي وظيفة إظهار كلّ المبدعين وكلّ جديد وتُمكّن من الحراك النقدي الضروري الّذي يسبق النقد الأكاديمي. ومن ثمّ، لا يمكن أن يتهم الناقد بعدم الاِهتمام بالمبدعين الشباب، إذا كانت الساحة الثقافية غير مهيّأة أصلاً للنقد، كما هو الحال في بلادنا، وإذا كان النقاد والقراء عمومًا لا يملكون المنابر التي يتعرّفون فيها على الجديد ويتناقشون حوله ويتابعون أشكال الكتابة، وهو أمر نجده في بلاد أخرى تتمتع بحراك ثقافي تُجند له وسائل الأعلام واتحادات الكُتّاب والنوادي الأدبية والمكتبات والقنوات الثقافية التي تُساير الحدث الإبداعي في حال ظهوره، والملتقيات والمسابقات، لكنّه يغيب عندنا لغياب سياسة ثقافية تجعل من صناعة الثقافة والمثقفين هدفًا أساسيًا.
مهمة الناقد تكمن في البحث عن عادات قرائية جديدة ترتبط بالنص الجديد
مع التطورات التكنولوجية الجديدة ووسائل التواصل، نلاحظ أنّ الكُتّاب الشباب يبحثون عن أشكال جديدة ومواضيع جديدة وكذا تقنيات سردية مختلفة في الرواية، ولا يلتفتون إلى المراحل السابقة. ما هي رؤيتكِ للموضوع؟
آمنة بلعلى: حين لا ندرك أين يكمن الإشكال، فإنّنا نطرح أسئلة لإشكالات أخرى قد لا تكون موجودة أصلاً، ووهمية في الغالب كمسألة الإغراق في التجريبية وغيرها. إنّ مهمة الناقد تكمن في البحث عن عادات قرائية جديدة ترتبط بالنص الجديد،
ومع كُثرة  النماذج الروائية وتعدّد تقنياتها، فعلى الناقد أن يصغي للهويات الجديدة وهي تتشكل، ويقف عند الإضافات التي يمكن أن تسهم في تغيير الذائقة الإبداعية وتغيير الحساسية، وبِمَا أنّه لا يمكن أن يُوجد نمط مثالي يُتبع في الكتابة الروائية والدليل على ذلك التسميات الجديدة التي ترد كلّ يوم علينا مِمَا لا حصر له من أنماط الكتابة الروائية، فهذا يعني أنّ الناقد مطالب بمتابعة نشأة الأشكال وامتلاك السؤال النظري الّذي يجعله يتجاوز التمرن على تحليل النص بالاِستناد إلى منهج سابق، يقيس عليه النصوص اللاحقة. إنّ الرواية تشهد أساليب متنوعة ومختلفة وثرية ومنفتحة على عوالم إبداعية قد لا تكون في الحسبان، وهي في تحديث وتجديد مستمر، لأنّها من جهة تواكب التحوّلات التاريخية المعاصرة للمجتمعات، ومن جهة أخرى لأنّها تأبى أن تكون لها هوية معروفة، فهي تحقّق هويتها في الوقت الّذي توجد فيه، وأمام هذا الاِنفتاح والتجديد المستمر، فإنّ الناقد مطالب برصد مواطن الاِبتكار والجدة والأصالة التي تجعل حركة التحديث والتجريب خرقًا لما سبق وتجاوزاً.

وفي ظل التغيرات العالمية وهيمنة الثقافة العولمية، كان لا بدّ أن تنشأ ردود أفعال تنسحب على الروائيين، فتبرز وجهة نظر تؤمن بالاِنفتاح على الآخر، والتفاعل معه، كما تؤمن بضرورة إيجاد إطار موحّد يشتغل من خلاله المثقفون ويُبدعون في إطار القيم التي تدعو إليها العولمة والجماليات ما بعد الحداثية، فكتبوا عن قضايا عالمية كحرب أفغانستان وعن 11 سبتمبر وعن فلسطين وحرب الخليج وعن التاريخ فأوّلوه اِستناداً إلى القيم الجديدة كالتسامح والحوار مِمَا يُؤسس لإحساس مُشترك بالمصير الإنساني المشترك الّذي جعل الروائي جزءا من هذا الحراك نحو التفاعل مع الآخر، والتواصل مع الحضارات الأخرى والتصالح معها. وهناك من جهة أخرى من اِستقبل هذه القيم الجديدة بنوع من التخوّف اِعتقاداً أنّ الاِندماج في خطاب العولمة يعني التنازل عن الهوية وهدراً للخصوصية الثقافية، وأنّ القيم الإنسانية موجودة في ذواتنا ومرتبطة بعاداتنا وثقافاتنا الخاصة، وكلّ توجه من هذين الاِتجاهين يعكس موقفًا ورؤية للوجود ولعلاقة الذات بالآخر، كما يعكس واقعًا يعيشه الروائي والمثقف بصفة عامة والإنسان المعاصر ذاته في ظل ثورة التكنولوجيا والاِتصال الجديدة التي تعمل على تقريب المسافات والثقافات والقيم، وهذا جزء من مطالب العولمة وما بعدها التي جعلت الإنسان يخرج من تاريخه الخاص ليدخل تاريخًا عامًا، ليعود إلى هويات بائدة يعتقد أنّها تاريخه المنسي، وبِمَا أنّه لا توجد إمكانية لا إلى تنميط العولمة فيقال للروائي أكتب وفق قيم العولمة، ولا إلى التنكر للواقع الّذي تفرضه عليه، فيقال له أكتب ضدها، فإنّ مع أو ضدّ ليس هو ما يُحدّد هوية الإبداع الروائي، ولا هوية النص الجمالية، بل هي أصالته الإبداعية والقيم الجمالية الجديدة التي يخلقها.
لازالت المحظورات الثلاثة تثير الكثير من الحساسية، رغم أنّه تمّ تقويضها بفعل الاِنفتاح الّذي أتاحته التكنولوجيا. هل يمكننا الحديث عن حدود في الإبداع أو تسقيف يفرض في معالجة المحظور؟
آمنة بلعلى:المحظورات أو الطابوهات مقولات اِشتغل بها النقد الحديث عندما كان مفهوم الإبداع يقيم اِستناداً إلى قضايا الإبداع في علاقته بالإيديولوجيا، فهي ذات صلة بقضايا سياسية واجتماعية ودينية أرادت أن تلعب بعض المؤسسات بها دور الرقيب على الفن، ونحن اليوم وفي ظل التكنولوجيات الجديدة نعيش عصر الاِنفتاح والتحرر من كلّ أشكال الرقابة أمام الفرص التي تمنحها هذه الوسائل للروائي لكي يكتب ما يريد وينشر ما يريد في هذا المكان أو ذاك إن تعذر عليه هنا أو هناك. وهذا الأمر جعل مفهوم الطابو ذاته يتغيّر، ولا أعتقد أنّ ناقداً واعيًا سيحاكم روائيًا أو رواية ما اِستناداً إلى هذا النوع من المقولات، لأنّه لا يمكن أن يقول للروائي أكتب عن هذه القضية أو تلك ولا تكتب عن أخرى، بقدر ما يهمه كيف تَمثل هذه القضية أو تلك حتّى وإن كانت الجنس بطريقة إبداعية تخلق بلاغتها الخاصة وتُضيف جديداً إلى قضايا الإبداع. قد يُحاسب الناقد روائيًا أوقع نفسه في الاِبتذال ونقل الواقع كما هو وسقط في التقرير والركاكة والتعبير المُباشر عن بعض العُقد، ولكنّه لا يمكن أن يُحاكم روائيًا جعل من الجنس أو الدين أو السياسة تمثيلاً رمزيًا للصراع وتشخيصًا لخطابات اِجتماعية وتعبيراً عن قيم ذهبت أو أخرى تُهيمن. وتبقى القضية مُرتبطة بالمستوى الإبداعي الّذي يُحققه الروائي، والرؤية التي تحكم نصه.
كتابة السيرة الذاتية كانت ولا تزال جزءاً من تمثيل العالم الداخلي الّذي ليس إلاّ شكلاً من أشكال الموقف من الواقع
نشهد عودة لكتابة الذات كالسيرة الذاتية والمذكرات وغيرها، هل يمكن اِعتبار هذا النوع من الكتابة تراجعًا عن تمثيل الواقع والاِهتمام بقضايا المجتمع؟
آمنة بلعلى:  الأدب عامة والرواية على وجه الخصوص هي ذاك الجدل القائم بين الذات والواقع، أحيانا يُهيمن الواقع والخارج بكلّ حمولاته الثقافية وإكراهاته الإيديولوجية والتاريخية، فيكتب الروائيون روايات تشخص المجتمع وتمثل صورة الأحداث، وقضايا فترة تاريخية معينة. وأحيانا أخرى يترك المجال للتعبير عن هواجس الذات، وتسجيل مواقف الروائي الشخصية، فيعكف على تاريخه الشخصي. وكلاهما يشكل موقفًا إبداعيًا من الحياة والوجود. وهذا هو المسار الّذي نُلاحظه في تاريخ الرواية ذاتها، حيث يكون الموقفان أحيانًا متزامنين وفي أحيان أخرى ينسحب موقف لحساب الموقف الآخر عند جيلٍ معين أو عند كاتب معين، فإطلالة بسيطة على الرواية الجزائرية تجعلنا نرى هذا التناوب في المواقف ففي أربعينيات القرن الماضي لاحظنا رواية السيرة الذاتية النسائية عند فاطمة آث منصور في قصة حياتي، ولاحظنا أيضا تعبيراً عن أزمة الهوية الاِجتماعية المركبة عند طاوس عمروش في «ياقوتة سوداء»، وغلب على رواية الخمسينات الواقع الاِجتماعي عند مولود معمري وفرعون ومحمد ديب، وفي الستينيات لاحظنا التعبير عن قضية المرأة عند آسيا جبار، وهي تجمع بين السيري والواقعي، وطغى على روايات السبعينات بالعربية الواقع والإيديولوجيا وهكذا يفرض الواقع والذات أبجديات الكتابة، وأحيانًا يتماهى الموقفان وفي أحيان أخرى يبرز أحدهما كما هو الحال في الآونة الأخيرة مع بروز رواية السيرية لاِعتبارات مرتبطة بالمهمش، دون أن يعني ذلك تراجع التعبير عن الواقع. إنّ هذا الجدل هو الّذي يُؤسس للإبداع الروائي، وستظل الذات تنتج والواقع ينتج أيضا، كما يظلان مصدرين من مصادر الأدب وإنتاج الجمال، وكتابة السيرة الذاتية وفي أقدم أشكالها منذ اِعترافات أوغسطين كانت ولا تزال جزءاً من تمثيل العالم الداخلي الّذي ليس إلاّ شكلاً من أشكال الموقف من الواقع، قد تسهم ظروف تاريخية واجتماعية في جعله يخفت لكنّه يظل النسغ الّذي لا ينضب في عملية الإبداع.

الرجوع إلى الأعلى