كيف يمكن قراءة العلاقة بين الأدب والإيديولوجيا؟ وهل يمكن فصل الأدب عن الإيديولوجيا؟ أم أنّ هذه الأخيرة، كانت وستظل لصيقة بالأدب وحاضرة فيه بكلّ حمولاتها وخطاباتها، وأنّ كلّ الآداب والنصوص تتجلى فيها تيمات ونفحات الأدلجة وأطروحات وخطابات إيديولوجية، إذ في الغالب الأعم لا يخلو أي منجز أدبي من أطروحات أيديولوجية تقرأ المُتناقضات والواقع والحياة والإنسان، بصيغ وأفكار وقناعات وأراء ووجهات نظر لا يمكن معها تصوّر اِنحصار الإيديولوجيا عن مساحات الأدب. وهذا تقريبًا ما يذهب إليه أيضا الدكتور عبد الحميد بورايو في نص مساهمته، إذ يقول في هذا السياق: «لن يكون الفنّ عامّةً والأدب بمنجاة من تدخل الإيديولوجيا في من ينتجه ومن يستهلكه أيضا لأنّ محورهما الذات؛ فالأديب يخضع في كتاباته لإيديولوجيته، كما أنّ القارئ يُحكِّم إيديولوجيته في تقييم ما يقرأ وحتّى في فهم ما يقرأ وتأويله».
استطلاع/ نــوّارة لحــرش
أيضًا وفي ذات المعطى والسياق، تبرز وتظهر أسئلة أخرى، مثل: كيف/هل/ومتى ينجو الأدب من الإيديولوجيا أو الاِشتغال الإيديولوجي والخطاب الإيديولوجي بسهولة؟ وهل يمكن القول أنّ العلاقة الشائكة أو المُربكة والإشكالية بين الأدب العربي والإيديولوجيا ساهمت بشكلٍ كبير أو بعبارة أصح جعلته مؤدلجًا أكثر؟
حول هذا الشأن «الأدب والإيديولوجيا»، كان ملف «كراس الثقافة» لهذا العدد مع مجموعة من الباحثين والنُقاد الأكاديميين الذين تناولوا المسألة من وجهات نظر مختلفة ومتباينة لكنّها تتقاطع في الكثير من النقاط والتصورات.

مخلوف عامر ناقد وأكاديمي
إقصاء البُعْد الإيديولوجي عن الأدب هو في ذاته مُوقف إيديولوجي
نال موضوع الأدب والإيديولوجيا رواجاً كبيراً في القرن العشرين. فكثرت فيه المؤلَّفات والدراسات الأكاديمية. ولعل العامل الأهم في ذلك يعود إلى الثورة الروسية وظهور المعسكر الاِشتراكي. حيث شاع مفهوم الاِلتزام وأصبح لصيقاً منذ بداياته بالفكر الاِشتراكي. لكن تصنيف الأدب إلى ملتزم وغير ملتزم ينطوي على مُغالطة يفضحها المنطق. إذ كان الغرض أن الأديب المُلتزم هو أديب مُقيَّد مسلوب الحرية، لتصبح الحرية -حينئذ- مقصورة على ما هو غير اِشتراكي أو رأسمالي تحديداً. بينما قد يعتنق المرءُ فكراً ما عن قناعة فلا يتعارض مع حريته.
وزاد من حدَّة هذا التقسيم الفيلسوف الفرنسي (جون بول سارتر) وأضاف إلى ذلك أن أخرج الشِّعر والموسيقى من دائرة الاِلتزام. كما يُخرْج آخرون الدِّينَ من دائرة الإيديولوجيا. ولكن بالنظر إلى طبيعة الأدب من حيث إنّه لا بدّ أنْ يتضمن دلالة ما، فإنَّ أيَ نص سيكون مُلتزماً بالضرورة ويبقى الفرق في طبيعة هذا الاِلتزام. لذاك، فإنَّ إقصاء البُعْد الإيديولوجي هو في ذاته مُوقف إيديولوجي بالأساس مهما تذرَّعت الدراسات النقدية بالاِقتصار على البنية اللغوية.
ولمَّا صادفت مقولة الاِلتزام نهوض حركات التحرّر، فقد كانت القضية الوطنية تحتلُّ الصدارة، فكان (اِبن باديس مثلاً، قد رفض أْن ينشر قصيدة في الغزل. ثمَّ إنّ البلدان المُتحرِّرة من الاِستعمار غالباً ما تبنَّت النهج الاِشتراكي، ما أدَّى إلى أن يتصدَّر البُعْد الإيديولوجي واجهة العمل الأدبي لدى كثير من الأدباء، وساد الاِنطباع بأنَّ الإيديولوجيا بدورها لصيقة بالاِشتراكية. وفعلاً ظهرت كثير من الأعمال الأدبية التي اِتَّسمت بنوع من التقريرية والتسطيح. إلاّ أنَّ ذلك ليس من شأنه أنْ يُجرَّد الأدب غير الاِشتراكي من الإيديولوجيا بوصفها ((النسق الكلي لـلأفكار والمُعتقدات والاِتجاهات العامة الكامنة في أنماط سلوكية معينة)). كما تًعرِّفها القواميس.
إنّ اِنحياز بعض البلدان العربية إلى المعسكر الاِشتراكي بحكم كون هذا الأخير قد ساند حركات التحرّر ودعا إلى مجتمعات تسود فيها العدالة والمساواة، أدَّى إلى الاِحتفاء الزائد بالمضمون على حساب البُعْد الفنِّي، ما جعل الدعاية السياسية تُروِّج لأدباء دون سواهم.
ولقد عرفت الجزائر هذه التجربة في سبعينيات القرن الماضي. حيث إنّ أكثر الأعمال الأدبية كانت صدى للخطاب الرسمي دون تشبُّع أصحابها بالفكر الاِشتراكي، بينما تغذَّى آخرون من الفكر الماركسي ونظروا إلى الواقع من خلال الصراع الطبقي وقد تجلَّى ذلك في قاموس أدبي واضح يُصوِّر الاِستغلال ومعاناة الكادحين والفقراء ووضعية المرأة ويدعو إلى الثورة والتغيير.
في هذه الفترة كان المضمون يتصدَّر الواجهة، خاصةً وأنّ معظم الكُتَّاب كانوا مندفعين -يومئذ- بحماس الشباب، حتّى إنّ المقياس في المحاولات النقدية نفسها لم يكن أدبياً خالصاً بقدر ما كان يخضع للاِصطفاف السياسي/الإيديولوجي وهو الّذي كان مصدر شهرة كثيرين وإنْ تنكَّر بعضهم لماضيه.
لكن التحوُّلات التي عرفها العالَم، ثمّ ما تسرَّب إلينا من المدارس النقدية المعاصرة حمل كثيرين على مراجعة كتاباتهم لخلق قدْر من التوازن بين الشكل والمضمون. فإذا جاز لنا أن نُشبِّه تلك الفترة بـ»الجدانوفية»، فإنّها كانت في الواقع عتبة ضرورية اِرتكز عليها الكاتب ليقوم بنوع من النقد الذاتي وليُعيد للنص الأدبي أدبيّته وإن كان بعضهم قد اِنكفأ على ذاته إلى حد الاِنغماس في جو من الضبابية والنرجسية المُفْرطة.
فمن حيث المبدأ، فإنّ أيَّ عمل أدبي مصدره الواقع بأبعاده المختلفة، ومادام أيُّ خطاب أدبي لا يخلو من مضمون، فإنّه ملتزمٌ -حتْماً- بِمَا يحمله. لكن العمل الناجح يصوغ المألوف بطريقة تبدو غير مألوفة. إنّه يُحيل إلى ذاته قبل أن يُحيل إلى غيره. فما يُميِّز الأدب أنَّه يعتمدُ المداورة والتلميح لا التصريح. لذلك قيل: (( إنّ أنجح الأعمال الأدبية أقدرُها على إخفاء الإيديولوجيا)).

عبد الحميد ختالة ناقد وباحث أكاديمي
المحمولات الإيديولوجية تعكس حالة الوعي لدى الكاتب
الحق أنّ الكثير من الأفهام المُتعلقة بالأدب تحتاج إلى إعادة قراءة، ولعلّ من أهمها ذلك السؤال التقليدي الّذي يُحاول دومًا أن يسبر طبيعة العلاقة بين الأدب والأيديولوجيا، وقد وصفْتُه بالسؤال الكلاسيكي لأنّه قد يعود كما يرى البعض إلى بداية مرحلة النهضة في أوروبا، عندما مارس الفكر وقتها نوعًا من التعتيم جعل الإيديولوجيا تشكلُ وصمًا يُحاول الكثير التنصل منه وكأنّه معرة، رغم أنّ الأيديولوجيا ترتبط في واحدة من تعريفاتها بالقناعات الأساسية لدى الكاتب والتي لا يمكن بأي حال أن يتجاوزها في أي لون فني يُنتجه ويُحقّق به وجوده.
وبالأحرى متى كان الأدب بمعزل عن التعبير الشامل والمُجرّد عن صيغ الوعي الاِجتماعي التي تتجلى في كلّ البُنى الفوقية المُوازية تمامًا للبُنى التحتيّة والمُعبرة عنها بطريقة مُباشرة أو غير مُباشرة؟ وهنا قد يتحوّل السؤال بطريقة عكسية فيصبح ما جدوى الأدب الّذي لا يُمارس دوره في قراءة الوضع المقلوب للبُنى التحتيّة؟ حينما تُصبح مُهمة الأدب مُجسدة في بنيته التي تتناسب من حيث مدى تماسكها أو تهلهلها مع طبيعة المصالح ونوعية التناقضات الكامنة في الواقع الّذي تصدر عنه الأيديولوجيا كما يذهب إلى ذلك لوكاتش.
كثّف الدرس النقدي جهوده من أجل فهم دور الأيديولوجيا في الفن بعامة، من خلال دراسة الطريقة التي تسهم بها المعاني والدلالات ومضامين النُظم الإرشادية المُتنوعة في تعزيز علاقات الهيمنة، وهي بذلك وطيدة الصلة بحركية القوّة كما جاء في دراسات ميشال فوكو، ولن نُجانب الحقيقة إذا ما قُلنا بأنّه لا يخلو أي منجز أدبي من أطروحات أيديولوجية تقرأ المُتناقضات في البُنى التحتيّة بالصيغة التي تراها مُلائمة قبولاً أو رفضًا أو تعديلاً.أجد مِمَّا ذُكر أنّه لا يمكن أن نتصوّر اِنحصار الأيديولوجيا عن مساحات الأدب بخاصة، إلاّ في حالة ما إذا تصورنا أدبًا بلا إنسان وهذا ضربٌ من اللاممكن، ورغم ما يُمارسه الأدب من تظاهر بالنأي بنفسه عن الأيديولوجيا فإنّه في الحقيقة يحمل كينونتها في نبضه وقد يضمرها في أنساق خطابية مُختلفة، لتضطلع مهمة النقد بكشف ذاك المخبوء الأيديولوجي في النص، ليس فقط من أجل الكشف بل من أجل اِستكمال الوظيفية الأساسيّة للعلمية الإبداعية وهي قراءة التحوّلات التي مست البُنى الأساسيّة لأي مُجتمع من المجتمعات اِجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا.
والحقيقة أنّ الأدب العربي ظل مُتخمًا بمحمولات أيديولوجية تعكس حالة الوعي لدى الأديب، إذ لا يمكن أن أتصوّر إمكانية الكتابة في لحظة اِنعزال تام عن الذات التي هي جزء طبيعي من البنية التحتية، وهي الأخرى لها اِنطباعها ورأيها في السائد، كما لا يمكن أن نفصل بين وعي الأديب برسالته الّذي هو جزء من وعيه بأيديولوجيته، حتّى وإن عمد إلى إخفائها لأنّه غير مُلزم أصلاً بالتصريح اِحترامًا لقدسية الفن ومستلزمات التخييل.
إنّ القيمة الأيديولوجية التي تتحرك كالهيولى في جسد النص الأدبي لَأجدها كفيلة بصناعة هوية خاصة بالأدب في مختلف مستوياته بدءًا باللّغة وصولاً إلى جوهر الفكرة، وقد يكون هذا بالذات الحقل المعرفي الّذي نفهم فيه قيمة الاِلتزام في الأدب، فالأدب يتحرك فوق الأرضية التي يتخلق فيها الدّيني والسياسي والاِجتماعي، وأنا هنا أُشاطر سلامة موسى عندما انتظر من الأدب أن يُعبر عن اللحظة الزمنية التي ينتمي إليها فكريًا وفنيًا، أضف إلى ذلك اِحترام الأديب للقاموس اللغوي الّذي يتوسله في التأثيث البلاغي لنصه، فقد تتأدلج اللّغة في رحلة اِنتقالها من المعنى القاموسي إلى معانيها التي يستدعيها السياق، إذ ليست هناك لغة بريئة أبداً.

قلولي بن ساعد كاتب وناقد
التسنين الإيديولوجي لا يضرّ بالقيمّ الجمالية والفنيّة
لا أظن أنّ هناك أدبًا دون إيديولوجيا، وحتّى المعرفة النقدية والفلسفية ذاتها فهي غير بريئة من الإيديولوجيا أيًا كان شكل هذه الإيديولوجيا ومضمونها. وعندما يتعلق الأمر بالمكون الإيديولوجي المبثوث بين طيّات النص الإبداعي الحاضر فيه حضوراً لافتًا للنظر أو حضوراً غائمًا فإنّ ذلك يستدعي من الناقد والباحث تفكيك مضمون هذا الحضور للوقوف على مدى صلته بقناعات الكاتب السياسية والإيديولوجية. ولستُ هنا في وارد تكرار ما قِيل بشأن جناية الإيديولوجيا على الأدب التي أُشبعت بحثًا وتنظيراً في الدراسات النقدية والأكاديمية التي تناولت هذه العلاقة الشائكة بين الأدب والإيديولوجيا منذ أن كتب السوسيولوجي الجزائري عمار بلحسن كتابه الرائد (الأدب والإيديولوجيا) في تسعينيات القرن المُنصرم وحلل فيه بكفاءة علمية نادرة علاقة الإيديولوجيا بالأدب من خلال طروحات فيورباخ وماركس وألتوسير وغرامشي وغيرهم.
وهذا بالطبع لا يُبَرر بأي شكلٍ من الأشكال الحط من شأن بعض النصوص الإبداعية الحاملة للمكون الإيديولوجي، ولا حق لنا في إصدار بعض الأحكام الجاهزة على مؤلفيها، وليس معنى هذا التعامل بنوع من الطهرانية أو الأصلانية مع نماذج أخرى من الإيديولوجيا المُضادة للإيديولوجيا الماركسية التي هيمنت طويلاً على المُحمول الفني المُلتبس بها في نصوص الأدب العربي في مرحلة ما بعد الكولونيالية في قلب المواجهات الجذرية لنصوص (الإمبريالية الثقافية) من طرف كُتّاب الطبقات الوسطى القادمين من الأرياف والأحياء الشعبية الحاملين في نصوصهم الإبداعية نوعًا من الإيديولوجيا الضمنية غير المُصرح بها بشكل علني، كما تتجلى في المجهود النقدي الّذي يُقدمه ناقد عربي هو السعيد بن كراد في كتابه (النص السردي: نحو سيميائيات للإيديولوجيا) وفيه يكشف عن الأنساق الثقافية المُضمرة لتجلي المكون الإيديولوجي الضمني في النص السردي.
ويُطلق على هذا النوع من المكون الإيديولوجي (التسنين الإيديولوجي) وهو تسنين يرى أنّه لا يملك (وجوداً ماديًا) بمفهوم ألتوسير، وبالتالي لا يمكن مُحاسبة الكاتب الحامل لهذا التسنين الإيديولوجي الّذي لا يضر بالقيم الجمالية والفنية للنص الإبداعي بوصفه فنًا وليس خطابًا حزبيًا خلافًا للإيديولوجيا المُباشرة المُعلن عنها، أو تلك التي تتبدى في النص الإبداعي بوصفها تمتلك (وجوداً ماديًا). حتّى ولو كانت تتخذ من قضايا الكفاح المُسلح والتحرير والتحرّر والاِلتزام السارتري والصراع الطبقي والنزاع اللغوي ومن الخطاب الهووي أو الهوياتي ومن الهويات والأصوليات الحداثية منها أو الأصلانية مرجعًا لها. دون أن تتجرأ على نقد مُسلمات هذا التحيّز الإيديولوجي وآليّاته المركزية وإخفاقاته المُمارساتية شكلاً ومضمونًا أو التعامل معه بوصفه معطى جاهزاً قابلاً للنقد والمُساءلة الجذرية داخل طوق عام سيّج المنجز الإبداعي الجزائري وأقعده طريح الأدبيّات السياسيّة لمرحلة معينة من تاريخ الجزائر الثقافي تم فيه تحويل المنجز الإبداعي الجزائري وحتّى الخطاب الفكري والأكاديمي إلى مجرّد (سلعة ثقافية) بمفهوم أدورنو تحتاج هذه (السلعة الثقافيّة) إلى جهاز إيديولوجي من أجهزة الإعلام والثقافة والنشر والتقويم المعياري يضفي عليها المشروعية لدخولها مجال التبادل الرمزي والثقافي ضمن (الفضاء العام) بحسب المفهوم الّذي يضعه هابرماس.
و(الفضاء العام) كما هو معروف يُقدم في الفضاء الثقافي العربي الّذي لم تهب عليه بعد رياح التعدّدية الثقافية نتائج عكسية إذ يعمل على مأسسة الخطاب الثقافي والتعامل معه بوصفه خطابًا مُلحقًا بالخطاب السياسي الإيديولوجي أو معبرا عنه. وهذا هو بكلّ أسف حال بعض نصوص المُثقف العربي المُنتمي أو (اللامنتمي) وليس المثقف الجزائري اِستثناء.

عبد القادر رابحي شاعر وناقد وأكاديمي
الإيديولوجيا كانت وستبقى قرينة الكتابة وروح النص
هل يمكنُ لنص أن يخلو من فكرة؟ وهل يمكن أن يكون مجرّد رصف لمعنى أو تأثيث لقضية أو تقريب لهدف؟ وهل يمكن للغة أن تكون خالية تمامًا من المعنى؟ ليس ثمّة شك في أنّ كلّ نص إنّما صار نصًا بمقتضى ما حمَّله صاحبه من معان ومن غايات يرمي إليها ومن أهداف يريد تحقيقها. وليس ثمّة من شك كذلك في أنّ النص يتحوّل إلى أداة توصيل لهذه الغايات وتحقيق لهذه الأهداف بمجرّد أن يتحقّق على بياض الكتابة. ليس هناك نصٌ بريء أو نصٌ مُحايد أو نص لا نص. كلّ كتابة هي في الأساس حاملة لفكرة وحمّالة لأوجه تحقيقها ومخفية لسُبل فهمها في ما يسعى الكاتب إلى الوصول إلى تحقيقه بأقصر الطُرق وبأوضح السُبل أو بأكثرها غموضًا. لا خلاف في هذا الأمر نظراً لِمَا حقّقته الدراسات اللسانية والنصانية من لوازم تفكيك لبنيات النصوص، ولكن وبموجب ما حقّقته من فهوم لبواطن النصوص، فقد صار من المستحيل أن يعتقد المُعتقد بخلو النص من غاية أو هدف بِمَا تُتيحُهُ الكتابة من لوازم إقناع ومن بلاغات إخفاء وإظهار. وربّما كان من نافل القول الاِقتناع الجازم بِمَا تحويه النصوص من مُمكنات لامُتناهية التي لا تزال آفاق البحث تُخبر عنها في كلّ مرّة تتوفر طرائق جديدة لفهمها ومناهج مُستحدثة للنظر إليها من زوايا لم يكن مُمكنًا النظر بها إليها من قبل.
ليست الفكرة التي تحملها النصوص غير الإيديولوجيا التي حركت كاتبها إلى كتابتها، وغير الغاية التي تريد أن يصل إليها. ولعله لهذا، كانت الإيديولوجيا قرينة الكتابة وروح النص وكان النص مسكن الفكرة ووسيلة تحريك الكتابة وتحقيق ما يطمح إليه الكاتب. لقد كانت الفكرة/الإيديولوجيا، وحتّى قبل أن تُصبح علمًا مُنفصلاً يبحث في ميلاد الأفكار وفي مصائرها ووسائل تحقيقها، غاية كلّ ناقل أو مُرسل أو خطيب أو داعية لرؤية ما أو مدع يريد ركوب موجة عابرة أو تاريخ متحرك أو أوطان جامدة أو شعوب تستسلم بسهولة لبلاغة الأذن. ولعله لذلك، كان الأدب والإبداع عمومًا هُما المجال الأكثر ثراءً والتربة الأكثر غنى لتمرير الأفكار بوسائل إقناع هي أبعد ما تكون عن النظر إلى الأهداف والغايات التي تحملها النصوص بعين العقل والمنطق. لقد وجدت الأفكار المُتحيزة في الأدب بيتًا عامراً بالتأويلات ومجالاً مشحونًا بالأبعاد التي تتماهى مع ما يمكن أن يخفيه الكاتب بالإظهار أو ما يمكن أن يُظهره بالإخفاء. وكانت البلاغات تقية وأقنعة لتمرير الأهداف الخفية وتثبيت الأهداف الظاهرة في العقول.في العقول المُتعلقة بمعرفة ما يجري والتوّاقة إلى أن تقبل بغطاء البلاغات وجماليّاتها ما لا يمكن أن تقتنع به بحكم العقل والمصلحة والترجيح. ولعله لذلك، كانت الإيديولوجيا تتحكم في المنطلقات والأهداف والغايات. وصارت مُقسمة، بناءً على ما تحمله من شحنات موزعة بين النص وبين الكاتب وبين المتُلقي، إلى إيديولوجيا المُؤلف، وإيديولوجيا النص وإيديولوجيات المُتلقين بمختلف أنواعهم ومصائرهم. وربّما صار ما كتبه أيسكاربيت عن الأدب والإيديولوجيا مجرّد مُقدمة سطحية لعالم مُتشابك ومُوغل حد الجنون في اِستحداث وسائل جديدة للإظهار والإخفاء لم يعد بموجبها الحديث عن الإيديولوجيا بوصفها أداة إقناع سياسية تتخذ من البلاغة وسيلة لإقناع الجموع غير طريقة قديمة، بِمَا يحمله عصر الثورة الرقمية من آفاق جديدة لجماليات تُبهر ولأهداف لا تخبر.

عبد الحميد بورايو كاتب وناقد وباحث أكاديمي مختص في التراث
لا منجاة للكاتب منها ولا للقارئ أيضاً
لما نتحدّث عن الإيديولوجيا معنى ذلك أنّنا نتحدث عن رؤية الإنسان للكون وعن موقفه من الحياة ومن النّاس ومن ذاته، وهي رؤية ومواقف تتشكل منذ الطفولة المُبكّرة. تُساهم فيها ثقافة التنشئة الاِجتماعية في محيط الأسرة وفي محيط جميع النّاس الذين نتعامل معهم، ونقصد هنا الثقافة بالمفهوم الأنثروبولوجي، أي كلّ ما يتعلمه المرء من سلوكات ومعتقدات ومعارف وقناعات وأفكار طيلة مسار حياته، وبالتالي تتشكل هذه الرؤية وهذه المواقف عبر الخطابات التي نتلقّاها، ومن خلال المواقف التي نعيشها والتأثيرات المُختلفة التي نتعرض لها، ومن أهمها ما تبثه فينا مُختلف السلطات المتحكمة في المجتمع مثل السلطة الدينيّة والسياسيّة والثقافيّة والاِجتماعيّة، أضف إلى ذلك ما نقتنع به عن طريق وسائط التعليم والتثقيف والترفيه وكذلك الإعلام. اِنطلاقًا من هذا المفهوم تصبح الإيديولوجيا جزءاً من كياننا وبالتالي تكون لصيقة بكلّ ما نُمارسه في الحياة، وخاصةً تلك المُمارسات التي يطغى عليها الجانب الذاتي، وطبعًا لن يكون الفنّ عامّةً والأدب بمنجاة من تدخل الإيديولوجيا في من ينتجه ومن يستهلكه أيضا لأنّ محورهما الذات؛ فالأديب يخضع في كتاباته لإيديولوجيته، كما أنّ القارئ يُحكِّم إيديولوجيته في تقييم ما يقرأه وحتّى في فهم ما يقرأه وتأويله. يمكن القول بأنّ الإيديولوجيا تتمثّل في القناعات التي تصدر عنها جميع سلوكاتنا وتصرفاتنا وخطاباتنا، وهي قناعات قد تكون وجوديّة وسياسية ودينية واِجتماعيّة الخ...
ما هو رائج في محيطنا الثقافي هو اِستعمال مصطلح إيديولوجيا للقناعات الكُبرى ذات الطبيعة الفكرية والسياسية، والتي ظهرت في محيطنا، وكانت تُمثل الخلفية لكثير من مواقف السلطة التي تحكمنا، مثل الإيديولوجيا الاِستعماريّة والإيديولوجيا الاِشتراكية (أو الماركسيّة)، الإيديولوجيا الدينيّة، الإيديولوجيا الليبراليّة، الخ... وهي مُصطلحات تعيّن مواقف فكرية اِتخذتها الجماعات المُؤثرة في حياتنا في فترة تاريخية مُعينة. وكثيراً في محيطنا الثقافي والسياسي ما اُستعملت لفظة الإيديولوجيا لتعيين الأفكار والمواقف التي يتخذها الخصم (العدوّ)، وهو ما روّجت له الإمبرياليّة الرأسماليّة الغربيّة أثناء صراعها مع الشرق الاِشتراكي، فأشاعت بأنّ الإيديولوجيا هي الأفكار التي تنبع منها سياسة العدو أو الآخر المُعادي، وهو مفهوم ظل رائجًا بيننا بسبب ما تعرضت له مجتمعاتنا من تضليل أثناء الحرب الباردة، بغرض تحويلنا عن المُعسكر الاِشتراكي إلى المعسكر الرأسمالي. اُستُخدمت أيضًا كلمة إيديولوجيا في العقود الأخيرة في مجتمعنا بمفهوم مُشابه، وهو الدلالة على أفكار الخصوم ومواقفهم من طرف التيار الديني المُحافظ في المجتمع في محاربته للحداثة أو أي فكر لا ينبني على خلفية دينيّة. مثل هذا الاِستعمال يُعتبر مغالطة للتضليل من أجل تنفير النّاس من الأفكار المُخالفة، فيصبح للإيديولوجيا معنى سلبيًا أو تتمّ شيطنتُها.
بالنسبة للأدب، تظل الإيديولوجيا بالمفهوم الأوّل الّذي ذكرناه حاضرة فيه؛ غير أنّ هذه الإيديولوجيا تكون مقبولة وطبيعية إذا ما راعى الكاتب طبيعة النص الأدبي وآلياته الفنية وخصائصه الذاتيّة، وقدّم نصًا أدبيًا بخصائصه الفنيّة، بينما عندما يتحوّل النص الأدبي إلى خطاب إيديولوجي مُباشر بغرض التوجيه، نكون حينئذ أمام أدب ضعيف يُسْتَخْدَمُ بهدف الدعاية والترويج لإيديولوجيا معيّنة، ولعله يُضِرُّ بهذه الإيديولوجيا أكثر مِمَا ينفعها.
يختلف تدخل الإيديولوجيا في النص الأدبي من نوع أدبيّ إلى آخر؛ فهي تظهر بوضوح مثلاً عند تناول تيمات اِجتماعية أو سياسيّة، وخاصةً في الأدب الّذي يكون موضوعيًا، أي يتناول ظاهرة موضوعية كالمجتمع أو الحكم (خاصةً في الرواية وفي الملحمة والمسرح)، بينما تكون هذه الإيديولوجيا متخفية ولعلها منعدمة في الشِّعر، الّذي يُعالج تيمات إنسانية عامة، ولا تتعلق بجماعة اِجتماعية أو سياسية مُحدّدة. يمكن القول، وفق مصطلحات باختين في النقد الأدبي، أنّ النصوص الأدبية مُتعدّدة الأصوات هي التي تُعبر عن الإيديولوجيا أكثر من النصوص وحيدة الصوت التي تبتعد عن تعدّدية الصوت في الخطاب، وعادةً ما يكون الشِّعر هو مجالها، وهو ما يُفسر فكرة اِستبعاد سارتر للشِّعر من مجال الإيديولوجيا.

 

الرجوع إلى الأعلى