لا أعبأ بالجوائز العربية ولا يهمني التطبيل على مواقع التواصل
تتحدث الكاتبة والروائية فضيلة الفاروق،في هذا الحوار، عن كتابة الواقع والإضاءة عليه، دون تجميل أو تمويه ومزايدة، وعن تقنيات الكتابة الخاصة بكلّ كاتب والتي تختلف حسب أهواء الكُتّاب، كما تتحدث عن اِبتكار الشخصيات والأماكن والأحداث، وتعدّد الأصوات وتداخل الأزمنة، وعن مُتعتها الخاصة حين تقف في مواجهة الأزمنة، وتـتبع الأحداث لمعرفة نتائجها. وهنا تعترف أنّها مفتونة بالماضي وتأثيراته في مستقبلنا.
حاورتها/ نـوّارة لحـــرش
صاحبة «مزاج مراهقة»، تحدثت أيضا عن كتابة السيرة الشخصية التي تقول إنّها تختلف تمامًا عن السيرة الأدبية، كما تختلف عن كتابة الرواية التي تُوظف بعض السيرة.
الكاتبة التي تُرجمت روايتها «تاء الخجل» إلى الفرنسية والإسبانية والكردية. تقول إنّها مسرورة جدا بالترجمة الكردية، وأنّها أكثر ترجمة أسعدتها. مؤكدةً في هذا السياق، أنّ العبور نحو لغة الآخر مُثمرة لكنها تعتبر نفسها بعيدة عن القطاف الحقيقي لثمار الترجمة ما لم تُترجم للإنجليزية. اِبنة آريس، تطرقت أيضا لموضوعات أخرى، ذات صلة بالرواية والترجمة والجوائز العربية، نكتشفها في هذا الحوار الصريح.
كتابة الواقع والإضاءة عليه دون تجميل أو تمويه أو مُزايدة، وبجرأة وتعرية أيضا. هذا ما نُلاحظه في كلّ رواياتك. كأنّ فضيلة الفاروق تقول للقارئ لا مجال لتجميل الواقع؟
فضيلة الفاروق: بالنسبة لي الكتابة أداة نضال، لهذا فهي تعتمد أساسًا على الصدق، إن لم نقل الحقيقة بدءاً بِمَا نشعر به في أعماقنا إلى ما نلمسه من الذين يحيطون بنا فلا داعي لممارستها. يجب أن تكون دافعًا لرؤية الجرح الّذي نُعاني منه، لأنّ تجميله دون مُعالجته مجرّد عملية اِحتيال. نعم إذن لا مجال لتجميل الواقع لأنّ عواقب هذا التجميل وخيمة.
لدي مُتعة خاصة حين أقف في مواجهة الأزمنة وتتبع  الأحداث لمعرفة نتائجها
«اِكتشاف الشهوة» اِشتغلتْ على تقاطع الأزمنة. كما كان هناك بعض اللعب على الأحداث وبالأحداث. برأيك كيف يُوفق الكاتب في هذا الاِشتغال وفي هذا النوع من اللعب الضروري في الكثير من الأعمال؟
فضيلة الفاروق: حين يكون الموضوع مُتشعبًا وطويلاً ويصعب الإحاطة به، يلجأ الكاتب لتقنياته الخاصة، هناك من يُطيل ويسترسل في السرد، وابتكار الشخصيات والأماكن والأحداث، وهُناك من يُكثف عملية السرد، ويلجأ لتعدّد الأصوات أو لتداخل الأزمنة، تختلف تقنيات الكتابة حسب أهواء الكُتّاب، وأنا لدي مُتعة خاصة حين أقف في مواجهة الأزمنة، وتتبع الأحداث لمعرفة نتائجها. أعترف أنّي مفتونة بالماضي وتأثيراته في مستقبلنا، أقرأ كثيراً وأعقد تلك المُقارنات بين أعمال لكُتّاب مختلفين، وأستمتع باِستخلاص النتائج. ثمّ دون مُنازع سرّ حياتنا جميعًا يكمن في تقاطعات زمنية. قبل الزمن لم نكن، بدأ الكون مع أوّل لحظة زمنية اِنبثقت من العدم، نحن كائنات زمنية، رقمية، السرّ هنا. نقطة على السطر.

الأدب بالنسبة لي قضيّة خاصة و ليس وجاهة اجتماعيّة

فترة الإرهاب لم تُكتب بعد  كما يجب
فيها أيضًا إسقاطات وراهنية لفترة الإرهاب. برأيك هل اِنكتبت هذه الفترة سرديًا وروائيًا كما يجب وبشرط الفن والإبداع والخلق، يعني دون الإخلال بشرطها الفني والسقوط في التقريرية؟
فضيلة الفاروق: الجواب عن سؤالك يتطلب دراسة طويلة عريضة، وأنا اِطلاعي غير كاف لأعطي رأيًا حاسمًا، ما أعرفه أنّ هذه الفترة لم تُكتب بعد كما يجب، هناك أعمال تصدر بين الفينة والأخرى، أمّا المقاييس فلا يُمكننا فرضها، هناك أعمال تحمل فكرة، وأخرى تحمل كمًا هائلاً من جماليات اللّغة، وأخرى قليلة تجمع بين الإثنين، المهم أن يعرف القارئ كيف يُميز، ويكون النقد مُنصفًا في تقديمه لأعمال أدبية ناضجة دون تحريف ذائقته بسبب مؤثرات خارجية كالعلاقات الخاصة بين بعض الكُتّاب أو التعامل مع شهرة الكاتب وليس مع عمله.
نصوصي الروائية إلى هذه اللحظة تُدين الاِغتصاب
يحضر الجنس في كتاباتك كما يحضر كُتّاب الجنس، أو الذين اِشتهروا بهذا النوع من الكتابة، واستشهادك بمورافيا وغيره من الكُتّاب الذين كتبوا عن الجنس. لماذا هذا الحضور للآخر الّذي تخصص في هذا النوع من الكتابة؟
فضيلة الفاروق:حين كتب فيكتور هيغو روايته «البؤساء» اِنتشرت مثل النار في الهشيم، تُرجمت و قرأناها بكلّ اللغات، الرواية تُصنف بين الأدب العالمي الجميل «العفيف جداً» حسب المقاييس النقدية الإجتماعية، لكن الصدمة أين؟ الصدمة يا عزيزتي أنّ فيكتور هيغو كان زير نساء، وظل يُلاحق النساء ويُغير عشيقاته إلى آخر يوم في حياته، بل إنّه في الثمانين من عمره لم يخجل من شيخوخته فأدخل إبنة صديقه وهي لم تتجاوز السادسة عشرة في فراشه، وهذا مُجرّد نموذج عن «كُتّاب الجنس» وهم كُتَّاب نهمون للجنس لكن يتغنون بالفضيلة، هذا جانب من جوابي على سؤالك، أمّا الجانب الثاني فهو أنّ قارئنا العربي المسكين يبحث عن ذلك السطر الوحيد الضائع في نص طويل عريض من 300 أو 400 صفحة، وحين يجده يُهلل ويُثير الضوضاء ويُعلن اِنتصاره على أنّه وجد ما يُدين كاتبه على أنّه كاتب جنس. هذا كله مُمتاز لقد وجد ما يُدين الكاتب لكن الّذي لا نعرفه هو أنّ هذا القارئ نفسه يُمارس الجنس بشكل عادي، مع زوجته، مع عاهرات يُصادفهن ويشتهيهن في الطريق، يتحرّش بزوجة أخيه في السرّ، يتحرّش باِبنة الجيران كلما مرت بقربه، وهذا كله يبقى خفيًا بسبب العهر الاِجتماعي الّذي نعيش فيه، ويبقى هو محميًا بسبب صمت ضحاياه، ما أريد أن أنهي به ردي المُقتضب هو أنّ نصوصي الروائية إلى هذه اللحظة تُدين الاِغتصاب، وأعتقد أنّي شرحتُ بِمَا يكفي أنّ الجنس يجب أن يُمارس عن حب واحترام للطرف الآخر وإلاّ فهو مغامرة لا تحمد عقباها، غير ذلك عندنا كُتّاب «بلغوا سقف العظمة والتقديس» من طرف فئات شاسعة من قرائهم، لكنّهم لا يعرفون أنّهم أبشع من فيكتور هيغو في سلوكهم الجنسي في الحياة. دعينا لا نتوسع في الموضوع حتّى لا أنفجر...!
كتابة السيرة الشخصية تختلف عن السيرة الأدبية، كما تختلف عن الرواية التي تُوظف بعض السيرة

في «مزاج مراهقة» هناك إسقاطات للوضع السياسي ولفترات مختلفة، كما هناك إسقاطات أو توظيفات لحقائق عائلية. مثل طبيب العائلة الّذي تم رميه من الطائرة. كما فيها بعض توابل السيرة. كيف يمكن للكاتب أن يستثمر في سيرته وفي محيطه دون الإخلال بالشرط الفني الضروري للأدب؟
فضيلة الفاروق: الصراحة أني حين أكتب لا أضع القواعد أمامي، تعرفين أني قارئة نهمة للرواية منذ طفولتي الباكرة، فقد كنتُ أقرأ أعمالاً عالمية مُترجمة وأنا في السادسة إبتدائي من عمري، وأشعر أنّ الكتابة تنساب من قلمي وأناملي دون إرشادات، لكنّي أحب أن أوضح أنّ كتابة السيرة الشخصية تختلف تمامًا عن السيرة الأدبية، كما تختلف عن كتابة الرواية التي تُوظف بعض السيرة، نحن هنا أمام ثلاثة أنواع من الكتابة، لهذا سأخبرك أني حين كتبتُ كلّ رواياتي وظفت جوانب من سيرة عائلتي، وذكرتهم بالأسماء في «مزاج مراهقة»، تكريمًا لهم لأني أعرف أنّ اِنتشار الرواية سيوصل المعلومة التي طمسها كُتّاب تاريخ الجزائر في العهد البومدييني والذين شطبوا أسماء مهمة من صانعي الثورة في بعض المناطق لإذلالها، وإبعادها عن السلطة، تاريخنا في الحقيقة موجود في مراكز الأرشيف الفرنسية ومؤسسات أخرى أجنبية، وفي الكُتب المكتوبة باللّغة الفرنسية، أمّا اللّغة العربية فللأسف اُستعملت كهدف ووسيلة لخدمة نظام ما بعد الإستقلال، لصنع قطيعة بين الأجيال، وقد صنعت فعلاً، اليوم تجدين المعربين في الغالب يميلون لمحاكمة أي عمل، فمن يكتب بالفرنسية عميل بالنسبة لهم، من يكتب عن الحب قليل تربية، من يكتب عن الجنس قذر وبذيء، من يكتب عن الأمازيغية عميل ، وهكذا.... تم تجنيد ثلثي الشعب الجزائري ليُراقب بعضه بعضًا دون هوادة ودون أن ينتج شيئًا يجعلنا نتقدم للأمام، هذا طبعًا موضوع آخر، لكني شرحتُ لكِ أبعاد توظيفي لبعض سيرة عائلتي في نص روائي، ضمن المنظومة الجمالية للحكاية كوني إن قلتها بطريقة أخرى فستُعتبر مجرّد أكاذيب.

سيأتي وقت ينال فيه أدبي حقه

على الجزائري أن يتصالح مع لهجاته المتنوعة ومع اللّغة عمومًا دون أدلجتها
«مزاج مراهقة» اِشتغلت أيضا على التعدّد اللغوي، إذ حضرت اللّغة العربيّة والفرنسيّة، واللهجة العاميّة واللهجة الشاوية. هل يمكن القول إنّها بشكلٍ ما رسالة أو إشارة لضرورة توظيف التعدّد اللغوي في أعمالنا الأدبية وفنوننا. أم أنّ سياق العمل تطلب هذا دون أن يحمل أي رسالات أو إشارات أخرى؟
فضيلة الفاروق:في الحقيقة أريد أن يتصالح الجزائري مع لهجاته المتنوعة، ومع اللّغة عمومًا دون أدلجتها، ودون السقوط في الإسقاطات التي تخوِّن أي جزائري بسبب لغته أو لهجته، يمكن للجزائري أن يتكلم بالفرنسية وسيبقى جزائريًا قحًا حتّى يموت، يمكنه أن يتحدث بلهجته القبائلية أو الشاوية أو المزابية أو الشنوية أو غيرها دون أن يُتهم تهمة تُسيء لوطنيته، لا أدري لماذا بلغنا هذا المستوى من تحقير قدرة اللسان على إيصال المعلومة للآخر، لكني أعرف على الأقل أنّ هذه العقدة جزائرية باِمتياز، لم أصادفها في المشرق أو الخليج، وما زلتُ أذكر حادثة مُؤثرة عشتها شخصيًا، حين صادف في مؤتمر فكري أن اِلتقينا على طاولة الغداء أساتذة من السعودية ودكتورا من جامعة باتنة لا أذكر اِسمه للأسف، وأنا، حين اِختلفنا أنا وابن بلدي على فكرة التعريب الإجباري رداً على سؤال أحد السعوديين، فإذا بالباتني يحتد ويشرح كيف أنّنا عرب أقحاح من اليمن، وهنا سأله أحدهم هل أنت عربي؟ فأجاب مُتحمسًا نعم، فما كان من السعودي سوى أن سأله: من أي بطن أنت؟ فارتبك الدكتور، وأدخلنا في متاهة أنّ فرنسا طمست البطون، وزورت تاريخنا، فما كان من السعودي إلاّ أن أضاف أنّ فرنسا شجعت التعريب، وأنّ السعودية مولته، وأنّ العرب الحقيقيين في الخليج كلٌ يعرف من أي بطن هو، لأنّه مجتمع مختلط بأجناس آسيوية مختلفة وأنهم ليسوا جميعهم عربًا، وأنّ بينهم عائلات فارسية تحتفظ إلى اليوم بهويتها رغم تفضيلها لجنسيات البلد الّذي تقيم فيه.
لقد أخطأ النظام الجزائري -في السابق- حين تعامل بقلة تقدير مع لهجاته وثقافاته المتنوعة، مُعتبراً ما استورده من ثقافات المشرق أفضل مِمَّا نملكه، إنّ هذا التنوع هو كنزنا الحقيقي، وهو ما يجعل الجزائر بلداً مُتميزاً عن غيره ليس فقط في القارة الأفريقية، بل في خارطة العالم أجمع. قارئ «مزاج مراهقة» يفهم ما ورد في الرواية، دون تأفف، حتّى أنّها رواية محبوبة في العالم العربي كله، هل تعرفين لماذا؟ لأني قدمت هذا التنوع اللغوي دون إدخال الحدة التي زرعها الإيديولوجيون في موضوع اللّغة.
البعض يحرصون على تقديم صورة جميلة جداً عنهم ولا يقبلون حتّى بذكرهم بأقل مِمَّا يتخيلون
في «مزاج مراهقة» وظفتِ أيضاً أسماء حقيقية لأصدقاء حقيقيين من الواقع. أسماء تحركت على أرض الرواية بكثير من الوضوح والصراحة بعيداً عن التمويه الّذي يُصاحب شخصيات الروايات عادةً. كيف استقبل أصدقاؤك هذا التوظيف لأسمائهم في الرواية؟
فضيلة الفاروق:سبحان الله اِختلفت ردات الفِعل من طرف الجميع، هناك من سُرَ لذلك، وهناك من غضب، في الطبعة الثانية شطبت أسماء من غضبوا، تلبيةً لرغبتهم، وتعلمت أن أستشير من أريد ذكر أسمائهم في مرّة أخرى، لكنّي لم أكرر التجربة. بل إني اِكتشفت أنّ البعض علاقتهم جد اِصطناعية مع محيطهم وأنّهم يحرصون على تقديم صورة جميلة جداً عنهم ولا يقبلون حتّى بذكرهم بأقل مِمَّا يتخيلون، البعض الآخر ظنّ أني ذكرته لأستمد من شهرته ما يجعلني أشتهر، طبعًا من الغباء أن نفكر كذلك، لأني بعد شطب أسمائهم لا أحد شعر بأي خلل في الرواية، وظلت «مزاج مراهقة» مطلوبة وناجحة.
كلّ نص يُعيد القارئ صياغته وهذا من أجمل ما يحدث للكاتب، وأنا أكتب لقارئ يشبهني
الرواية كانت تُكتب بالتوازي في النص أو في المتن. يعني كُنتِ على تواصل شبه مباشر مع القارئ في كِتابة الرواية. إذ في الأخير يشعر القارئ أنّه كان شاهدا على كتابتك لفصول الرواية وأحداثها. كما يشعر أنّه بشكلٍ ما كان شريكًا في كتابتها. ما رأيك وإلى أي حد يمكن للكاتب أن يُشرك القارئ في عمله أو يمكن للقارئ أن يكون أثناء القراءة شريكًا للكاتب بشكلٍ أو بآخر؟
فضيلة الفاروق:إنّها طريقتي في الكتابة ولعلي أخذتها من غادة السمان من شدة إعجابي بها في فترة معينة من حياتي، فقد كانت تُخاطب القارئ مُباشرة، وقد طرحتُ أسئلة عديدة على نفسي لماذا تُخاطب القارئ؟ ولماذا تهديه نتاجاتها؟ ألا يُوجد عندها «شخص» مُميز ينال شرف الإهداء؟ فأجيب بتخميناتي الخاصة أنّ كلّ قارئ يعنيها، حين ينكب على قراءتها ويصغي لمواجعها. بالطبع هناك أنواع من القُرّاء ومن بينهم قُرّاء يملأهم الجحود والغضب والنقمة والحقد، لكن أغلبية من يقرأون كاتبًا هم المخلصون له والذين يتقاسمون معه مواجعهم المشتركة. أنا هكذا قارئة محبة، قارئة صادقة مع كاتبي، لا أخجل من الإعلان عمَّن أحب، ولهذا أكتب لقارئ يشبهني أيضا، قارئ أبكي له فيُكفكف دموعي، قارئ أفضفض له فيصغي إليّ دون أن يُقاطعني ويُحاكمني ويُوجه لي أصابع الاِتهام. تعرفين في مجتمعنا حتّى صديقك المُقرب يرفع سبابته ليقول لكِ أنّكِ مخطئة وتستحقين العقاب حين تكثرين الشكوى، حتّى أنّنا نُقدس حكمة غريبة «صاحبك اللي يبكيك ماشي اللي يضحكك» أليس هذا غريبًا؟ أنا أقول إن كنتَ تسعى لتدمير نفسك إبحث عن الصديق الّذي يُبكيك..! غير ذلك أهمس لكِ أنّ كلّ نص يُعيد القارئ صياغته، وهذا من أجمل ما يحدث للكاتب..!
أعتبر نفسي بعيدة عن القطاف الحقيقي لثمار الترجمة ما لم أُترجم للإنجليزية
تُرجمت «تاء الخجل» إلى الفرنسية والإسبانية والكردية. كيف تستقبلين فُرص الترجمة التي تأخذ نصوصك إلى الآخر وبلغاته؟
فضيلة الفاروق: سررتُ جدا بالترجمة الكردية لأنّها جاءت من كاتب شغوف بالأدب، وحساس جدا تجاه قضايا المرأة، إنّها أكثر ترجمة أسعدتني، صحيح العبور نحو لغة الآخر مُثمرة لكني أعتبر نفسي بعيدة عن القطاف الحقيقي لثمار الترجمة ما لم أُترجم للإنجليزية. أُشير إلى أنّ فصولاً من «تاء الخجل» تُرجمت للإنجليزية والإيطالية... ولكن هذا لا يكفي.
أنا أصلح في لجان التحكيم لأني صارمة، وهذا يبقيني خلف الستارة، لكن أن أنال جائزة فتلزمني معجزة
الكاتبة فضيلة الفاروق. بعيدة عن دوائر الجوائز. لا جائزة أصابت فضيلة حتّى الآن. لماذا؟
فضيلة الفاروق: قد لن يعجب تفسيري للأمر الذين نالوا جوائز قبلي، هناك دور نشر تُحرم من جوائز خليجية معينة، مثل دار «الفارابي» التي تعتبر «دارا شيوعية» ودار «رياض الريس»، «الناشر المُزعج» لأغلب الأنظمة العربية. والفارابي ناشري ورياض الريس ناشري، سواء شئتُ أو أبيت فأنا أُحسب عليهما، هناك من كرهني في الوسط الأدبي والإعلامي فقط لأنّي نشرت عند رياض الريس، مع أنّه ناشر نزيه، ولا تنفع معه أي وسائط، غير ذلك حين كنتُ أناضل من أجل قضية المغتصبات كان الموضوع مرفوضًا، ما جعلني أتعرض لهجمة طويلة شرسة، حتّى تغيرت بعض الأنظمة، كانت رواياتي قد أصبحت من الماضي وبدأ تشجيع أقلام شابة كتبت في الموضوع بشكل يرضي «الساهرين على الجوائز»... أيضا حدتي مرفوضة، وصراحتي أيضا، أنا أصلح في لجان تحكيم لأني صارمة، وهذا يبقيني خلف الستارة، لكن أن أنال جائزة فيلزمني معجزة، لأحصد بعض الضوء الّذي يُناسب الكثيرين. على كلّ عليّ أن أشكر من يُحاربني من تحت لتحت، في مواقع كثيرة، إنّه يجعلني أزداد إيمانًا أنّ قضيتي صح وسيأتي وقت ينال فيه أدبي حقه، مع أني صراحة سعيدة جدا لأنّ التقدير الأكاديمي الّذي ناله أدبي لم يُحظَ به إلاّ قلة من مشاهير الأدب العربي وحاصدي الجوائز. سأخبركِ عن حادثة حدثت معي، ذات يوم اِتصل بي المرحوم  صادق جلال العظم، وأخبرني أني مرشحة للقاء مهم في جنيف، الصراحة الدنيا ما هزتنيش، وأكد لي أنّه اقترحني بقوّة كونه قرأني، لكن بعد عدة أشهر وصلني خبر أنّ اِسمي شُطب وأنّ كاتبة أخرى حلّت محلي، الكاتبة لكي تغيظني وكلت أحدهم ليوصل لي الخبر عبر صفحتي –فايسبوك-، هكذا تمشي الأمور حين يتعلق الأمر بالأدب المكتوب باللّغة العربية، حتّى خارج أسوار العالم العربي. لهذا يا صديقتي لم أعد أعبأ بالجوائز العربية، فحين يقرأني عملاق بحجم صادق جلال العظم ويشيد بأدبي أكون حققت هدفًا نبيلاً عجز عنه غيري.

الكتابة أداة نضال ولا مجال لتجميل الواقع لأنّ عواقب ذلك وخيمة

لماذا نحلم بالعالمية ونحن لا نصل حتى لعشرة آلاف قارئ باللّغة العربية؟
هل يمكن لجوائز الرواية العربيّة أن تنطلق حقًا بالرواية العربيّة نحو العالميّة؟ هل بإمكان جائزة ما أو ترجمات إلى لغات أخرى أن تمنح هذه العالمية للرواية العربية وللكُتّاب العرب المتوجين بجوائز؟
فضيلة الفاروق:لماذا نحلم بالعالمية ونحن لا نصل حتى لعشرة آلاف قارئ باللّغة العربية؟ الجوائز العربية لها حسناتها وسيئاتها، من حسناتها أنّها باذخة وتُوفر للفائز صمام أمان يجعله يُركز على الكتابة والإنتاج دون أن يهدر وقته في تأمين رزقه بمهن تمص طاقته، وقد تُوصله للترجمة ولكن المفاجأة هنا، فقد يُترجم العمل لثلاث أو أربع لغات وأهمها الإنجليزية فيأتي جهابذة النقد الأجنبي فيجهزون على العمل ويُحولونه إلى «سَلَطَة» لا تصلح إلاّ كأكلة للأرانب، وقد حدث ذلك عدة مرات. ما دام الكاتب عندنا يتملق السلطة من تحت الطاولة فهذا يعني أننا أخفقنا في إنتاج أدب لقارئ حر، هو يرفع الكاتب وهو يُسقطه.
لستُ جيدة في التسويق لنفسي، ولا أعتبر الأدب نوعًا من الوجاهة الاِجتماعية
آخر ما صدر لكِ كان مجموعة نصوص شعرية «منهكة بحبك يا ابن دمي» عام 2015. في وقت فر/أو تسرب فيه الكثير من الشّعراء إلى الرواية، ذهبتِ أنتِ إلى الشِّعر. ما الحكاية؟
فضيلة الفاروق: كتبتُ نصوصًا كثيرة، جمعتها في كِتاب وأرسلتها لدور النشر، رفض الجميع نشرها لأنّها شعر، أنا لم أصنفها، أنا كتبتُ ما أشعر به، كون الشِّعر أصبح مُستباحًا من الجميع، لكنّها نصوص ذات إيقاع داخلي، ذات موسيقى تنبع من القلب، ونصغي إليها عند القراءة السليمة. صديقي لزهاري لبتر لأنّه شاعر أحب النصوص لكنّه أخذ جزءاً منها ونشرها تحت هذا العنوان. عنوان المجموعة كاملة هو «قبلات لجرجرة»... أنا أكتب ما يخرج من جوارحي، لستُ جيدة في التسويق لنفسي، ولا أعتبر الأدب نوعًا من الوجاهة الاِجتماعية، إذا كان الجميع يسهل عليهم خيانة الشِّعر من أجل الشهرة التي تمنحها الرواية لأصحابها، فأنا لا يهمني حجم شهرتي، ولا التطبيل الّذي يتلقاه الكُتّاب في صفحات التواصل الاِجتماعي ولا الجوائز التي يتهافتون عليها، الأدب عندي قضية خاصة.

كتابات فضيلة الفاروق صورة مطابقة لها

إسكندر حبش

أذكر ذلك الصباح جيداً، حين دخلت فضيلة الفاروق لأوّل مرّة إلى مكاتب الصفحة الثقافية في جريدة السفير (اللبنانية). لم أكن أعرفها شخصيًا من قبل، ولم أتعرف إليها في ذلك اليوم. تحدثتْ مع مسؤول القسم آنذاك، واتفقا على أن تنشر مقالاتها، لاسيما تلك المُتعلقة بالحياة الثقافية الجزائرية. اِمتدّت فترة تعاملها، وبدأت أقرأ لها ما تنشره، من دون أن نتبادل أي كلمة، سوى كلمة التحية. ربّما طبيعتي المُتحفظة جعلتها تعتقد أنني «كاره للبشر» –مثلما أسرّت لي لاحقًا– لذا حافظت هي بدورها، على هذه المسافة، التي اِمتدت لسنوات، إلى أن رحل الكاتب محمّد ديب، حيث قررنا يومها إفراد صفحتنا الثقافية له، فكتبت فضيلة مقالة عنه، مثلما كتبتُ بدوري مقالة طويلة عن الكاتب الراحل. لأتفاجأ بعد أيّام قليلة بدخول فضيلة، إلى المكتب، قائلةً لي: «صحيح أنّني أتابع مقالاتك باِستمرار، لكنّني اِكتشفت أمس بمعرفتك الكبيرة بالأدب الجزائري، بعد أن قرأتُ مقالتك عن ديب». اِبتسمتُ لها، داعيًا إيّاها أن تجلس لتناول القهوة، شارحًا لها، إنّ معرفتي بالأدب الجزائري تعود لسنوات ماضية عديدة، ما دفعني إلى اِختيار رشيد بوجدرة موضوعًا لبحثي الجامعي (الماستر2).
ربّما كانت جملتي هذه مفتاح تلك الصداقة التي لا تزال تربطني بالعزيزة فضيلة، إلى الآن. صداقة لا تمتدّ فقط عبر السنين، بل أيضا، عبر العديد من التفاصيل اليومية، كأن تتصل بي كلّما تريد السفر إلى الجزائر، عمّا أريده من هناك. ولتعود وتؤكد عمّا أنا بحاجة إليه، قبل عودتها إلى لبنان حيث تقيم. كانت مفاجأتها الثانية –الكبيرة– إذا جاز التعبير، معرفتها مدى ولعي بالأغنية الشعبية الجزائرية، لأتفاجأ ذات يوم، وبعد عودتها من الجزائر بأنّها أحضرت لي معها «سيديهات» (كانت تنقصني) للحاج محمّد العنقا، والهاشمي قروابي، وعمّار الزاهي وغيرهم من أساتذة هذا الفن، كي تكتمل السلسلة عندي، من دون أن تنسى سلامات الأصدقاء الذين يعرفونني في بعض المحافظات الجزائرية، (أصلاً في رحلاتي إلى الجزائر كانت تُعيرني فضيلة شريحة هاتفها الخليوي قائلةً لي لا داعي لتشتري رقمًا، اِستعمل هذا الرقم)...
أقول هذا، أي أتحدث عن علاقتي الشخصية –(في هذه الشهادة الصغيرة)– بالصديقة العزيزة فضيلة، لا لأُظهر مدى هذه الإنسانية الكبيرة التي تتحلّى بها –(ربّما هي من القلة القليلة التي وقفت إلى جانبي في محنتي الصحيّة قبل سنين كما في محنتي قبل سنوات قليلة حين مررت بفترة «عاطل عن العمل»)– بل لأشير إلى أمر جوهري: لا يمكن لأي شخص أن يكون كاتبًا حقيقيًا، من دون أن يتحلى بهذا الحسّ الإنساني. لكي تكتب حول المفاهيم الإنسانية عليك أن تكون إنسانيًا قبل أي شيء آخر. لا تكفي ثقافتك الصادرة من الكُتب، بل عليك أن تعجن هذه الحياة، أن تختبرها وأن تحبها. من هنا، تبدو لي كتابات فضيلة، بأنّها كتابات إنسانية وإنسانوية بالدرجة الأولى، مليئة بهذه المحبة التي نفتقدها، وهذا ليس بالأمر اليسير. فعلاقتها مع الآخرين، ووضوحها، ينعكسان على كتاباتها التي تأتي صورة مطابقة لها. الأدب ليس فقط كتابة، الأدب أيضا هو هذه القدرة على مخاطبة الآخر، ومن لا يعرف مخاطبة النّاس وجهًا لوجه، لا يمكنه –ولا بأي طريقة– أن يُخاطب ذاك القارئ المجهول.
لا أقدم هنا، عبر كلماتي القليلة، بحثًا في أدب فضيلة. هي تحية فقط لشخص، تحية لكاتبة، وتحية –وقبل أي شيء– إلى إنسانة وصديقة فعلية. هذا الأهم بالنسبة إليّ، وإلاّ لا معنى لكلّ أنواع الكتابة والأدب.
كلمة أخيرة، كنتُ أرغب في أن أوقع كلماتي هذه باسم «ساندرو» كما تناديني فضيلة دومًا، لكن بِمَا أنّ أحداً لا يعرفني بهذا الاِسم، سأكتب تحت كلماتي هذه... (إسكندر حبش-كاتب يعيش في لبنان).

اِختارت الأدب كسلاح وليس كمنتجع للعواطف الباذخة
فضيلة الفاروق.. الكاتبة  التي تُضيء كوكب الأدب بأكثر الكلمات ضراوة

عبد العزيز غرمول

الكتابة عن فضيلة الفاروق أشبه بمخاض قصيدة حب، كيفما اخترت لها الكلمات، وشحنتها بالعواطف، يبقى الحب دائمًا أرقى وأجمل، ويبقى التعبير عن المشاعر أقل من المشاعر في حد ذاتها. منذ ثلاثين سنة أحاول كتابة هذه المرأة فتفلت مني مثل فكرة لا تستطيعها الكلمات، وكلما دنوتُ من روحها الشغوف بالأدب ينتابني ذلك الإحساس بأنّها أوسع من حضن، وأكبر من قلم، وأعمق من أي قراءة متأنية.
كثيراً ما تمر كذكرى حميمة بقلبي، وكثيراً ما تراودني نفسي على كتابتها، أجمع لها بعضًا من شذرات وقتي، وحواسي، ومواهبي في فن تسلق المصاعب، ثمّ أتردّد في المغامرة... ما هي الكلمات القادرة على تسلق جبال الأوراس التي نحتت منها شخصيتها العالية؟. وما هي الأفكار القادرة على صب هذا المعدن الثمين، الّذي اِسمه فضيلة الفاروق، على ورق لا يُقاوم بلل الكلمات ولا لهيب العواطف؟... قبل روايتها الأولى بزمن طويل، كانت قد شرعت في كتابة روايتنا التي لم تنضج أبداً كما ينبغي، تبادلنا رسائل، وإعجاب، ومجاملات تليق بالمهذبين، وربحت من أجلي -شكراً لها- بعض العداوات الثمينة في الأوساط الأدبية، وربحتُ من جانبي قارئة مُتسامحة مع حماقاتي... كانت قادمة للتو إلى ساحة الأدب، ترتدي أكثر المشاعر شفافية واشتعالاً، وتستعرض بلغة مرتعشة موهبتها الصاخبة كهدير مياه عميقة، وككلّ قادم جديد إلى هذا المحفل الحزين، كانت ذخيرتها من التفاؤل والصدق تزيد قليلاً عن كمّ المساوئ التي تصطف على جنبات الساحة الأدبية، وكانت فضلاً عن ذلك مُسلحة بعناد وإصرار من ترك دراسة الطب لتلحقه مهنة الأدب القاسية، كانت أشبه بنجمة ولدت للتو من سديم غير مرئي، تكتب لي بكثافة عن زمنها، تكتب مشاعر، وسرائر، و مناثر دافئة كرسائل العُشاق، وكان شعوري إزاءها في ذلك الوقت المُبكر من موهبتها، أنّها تصنع على عجل أجنحة لقدميها، وكنتُ أقترب منها بخوف مُمزوج بفرح عظيم.
هذه الكاتبة -قلتُ في نفسي- قادرة على إضاءة كوكب الأدب بأكثر الكلمات ضراوة، ولم يكذب حدسي. منذ قصصها الأولى التي حاولت أن تختلس فيها لحظة حب، كشفت عن ركوبها الصعب لتيمة الأدب. اِختارت جانب المقاومة والنضال، اِختارت الأدب كسلاح وليس كمنتجع للعواطف الباذخة. حين قرأتُ الإهداء الّذي كتبته لي: «كثيرا ما نعشق الوطن، قليلاً ما نعرف الكتابة عنه»، طويتُ الكتاب وانتظرتُ ابتلاع مرارة الحقيقة، قبل أن أنخرط في شقائها الجميل. يومها قلت، مع كلّ التحفظات الواجبة إزاء كِتاب أوّل، أنّ فضيلة الفاروق وضعت قدمها المُجنح على عتبة الحرب، الحرب على الخوف، على الحرية الناقصة، عن الأنوثة المهضومة، على «التأنيث بدون جناحين» كما عبرت عنه الكاتبة الكبيرة زهور ونيسي في مقدمتها للمجموعة القصصية. وكم سيكون صعبًا على قارئ مزاجي مثلي أن يقرأ بحياد رواياتها اللاحقة، التي لا تشبه روايات عادية، فكلّ رواية لها هي لهب يُضيء جانبًا من العتمة المُسدلة حوالينا. إنّها تمامًا كما آمنت بالأدب (ليس خلقًا، إنّه عملية تفكيك وإعادة تركيب لصور الحياة)، وخاصةً صورة الأنثى الشرقية التي تُكافح من أجل أن تُحظى بحياة عادية كإنسان، بدون أثقال «تاء الخجل» ولا مخاطر «أقاليم الخوف»... وهي في إعادة تركيبها لصور الحياة لا تجلس ككاتبة على كرسي الحياد الوثير، ولا كرسي الاِعتراف الذليل، بل تمتشق قلمها لتفكيك قطع غيار حياتها التي تعطل مسيرتها باِتجاه الحرية وترمي بها في وجه ميراث الخوف اللعين. ليس من السهل على كاتبة بمثل هذه الجرأة أن تخترق فخاخ الحريم، ومساوئ الواقع، فضلاً عن قتامة المسكوت عنه في مستودع الشهوات. لقد دفعت الثمن فوراً: تجاهل الناشرين.. واِحمرار وجه القُرّاء!.. ولا بدّ أنّ بعض أشباه المثقفين قد نصحوها بالاِستكانة لفردوس الأنوثة الأحمق، وربّما تساءلت جواري الحريم عن «الشجرة» التي تستمد منها هذه المرأة عزيمة الأبطال في المقاومة... لكن الجميع يشهد لها اليوم، بعد تكريس اِسمها في قائمة الكاتبات الشهيرات، بأنّها اِستثنائية وأصيلة.
لقد حُظيت بالكثير من الدراسات لأعمالها من طرف نُقاد وأكاديميين صارمين، وأجمعت أغلب الآراء على هذه الاِستثنائية، فهي التي نقلت قريتها الشاوية من أعالي جبل الأوراس إلى أولمبياد الأدب، وهي التي لم تسكت عن المسكوت عنه، وهي التي وضعت خوف الأنثى في خطر التحدي، وهي التي كشفت معاناة ومعاداة المرأة في إمبراطورية البطريرك... وبعد ذلك كله كتبت بصدق ومزاج امرأة غير معنية بترسانة الاِنتقاد التي يصطلي وراءها كهنة معبد التقاليد. لقد نحتت، ولا تزال على كلّ حال في مرسمها، صورة ضوئية للكاتبة العربية المُتحرّرة من أثقال عصرها، المُناضلة من أجل حريتها، الجسورة على الفكرة قبل العبارة، وعلى التشخيص قبل التجريد والتجميل، وعلى الرسالة قبل التكنيك الروائي، فهي صاحبة قضية، تتقدم جيلها برؤيتها الواضحة للطريق، وتعمل برهافة حس، وانفعال أحيانًا، على نحت تلك الصورة الصادقة لنساء جيلها اللواتي يعملن على تقليص معاناتهن إلى حد المساواة والشراكة والتفاعل مع الرجال لبناء مجتمع جديد بعيداً عن الإيقاع المُخيف لتقاليدنا المُجحفة. غير أنّ فضيلة الفاروق ليست كاتبة فحسب، إنّها أكثر من ذلك جزائرية (أصل العناد والسمو)، تنحدر من سلالة نساء كُن يقُدْنَ الرجال إلى الحروب من أجل الدفاع عن الوطن، منذ الملكة ديهيا إلى فاطمة نسومر، مروراً بالكاهنة وحتّى جميلة بوحيرد... من هذه «الشجرة» اِنحدرت سلالتها المُحاربة، وهو دم لا يتحوّل بفعل التقادم إلى ماء. لعلّ البعض ينسى عنوة فضائل فضيلة الفاروق، الجزائرية المُجاهدة، التي تحملت كسفيرة غير مُعتمدة في العواصم العربية، وخاصةً بيروت، مسؤولية الدفاع عنا حين كان الإرهاب صورتنا-سورتنا في العالم.
لقد حملت مجد الجزائر على كاهلها النحيف، وخرجت لصحف وشاشات العالم مُتبرجة بوطنيتها التي لا يرقى إليها القبح ولا الاِستنكار، دافعت كمُقاتلة شائكة الكلمات عن بلدها، وواجهت السخرية والشكّ والضحكات العاقة، ووقفت ككتيبة من الحرس الجمهوري في الخندق المُتقدم للدفاع عن مُمتلكات وطن عظيم لا تكسر قامته صفاقة وغطرسة الدمويين، كانت تعرف أنّنا «كثيراً ما نعشق الوطن، قليلاً ما نعرف الكتابة عنه»، لكنّها كتبت، صرخت، عاندت، صرحت بأنّ الجزائر كانت على مر التاريخ أقوى من أعدائها... هل كان حينها أحد يصدق، لولا صدقها، أنّ الجزائر ستنتصر على فداحة زمنها؟ ومع ذلك لم يُخامر الشكّ أبداً قلب وقلم فضيلة. عند هذه اللحظة الفارقة من الزمن أتوقف قليلاً كي أُسائِل نفسي: هل طوّعت أخيراً هذه المرأة الفذة لكلماتي المُتواضعة.. هل قلت بعضًا من فضيلة الفاروق بأفضل ما عندي من مشاعر، وفضيلة أوسع من أي حضن، وأكبر من أي قلم، وأعمق من هذه الشهادة العجلى؟ لا أعتقد.

مُدّعية القسوة هي التفهّم واحترام الآخر بكلّ خصوصياته ونقائصه

كريمة بن دراج

إذا كانت المشكلة في كلّ ما تعلق بالإنسان هي الذاتية فذاتيتي في الحديث عن فضيلة الفاروق هي قمة الموضوعية لأنّني سأحاول أن أُحدثكم عن الإنسان الّذي لا نلمسه، لا نحسه، لا نراه إلاّ إذا قاسمناه الحياة.
علاقتي بفضيلة لا تعود للعمر الزمني الّذي جمعنا (30 سنة) لأنّنا من فرط تشابهنا نُؤرخ للقائنا بزمن آخر وعالم آخر، فهي كما أنا نُؤمن بالعوالم الأخرى حتّى أنّها تقول لي دومًا «كون جابتك اما ما كناش راح نتشابهو لهاد الدرجة». في الزمن الأرضي قاسمتُ فضيلة أروقة عمارة الآداب بجامعة قسنطينة رغم اِختلاف تخصص كلّ منا، كانت في قسم اللّغة وآدابها، وكنتُ ولا أزال في قسم عِلم الاِجتماع، والغريب في الأمر أنّني لا أذكر تفاصيل كيف صرنا صديقتين، كلّ ما تقوله هي أنّها وإلى اليوم تشكر إحدى الزميلات فهي من جمعتنا، ثمّ من الجامعة خُضنا غمار تجربة الصحافة ونحن بعد طالبتين، ونذكر لحد اليوم مطاردتنا لحكايا وخفايا قسنطينة بسطوة جغرافيتها، تاريخها وعاداتها وقصص المنسيين فيها. تُداهمني اللحظة الدموع والذكريات، أخاف أن لا أُنصف فضيلة في صدقها، عفوها وكرمها، فلا أحد غيري يعرف قدرتها الكبيرة على الحب، حتّى هي تجهل ذلك، فهي لا تكف عن الحديث عن قسوتها قائلةً أنّ الحياة غيرتها، ناسيةً أنّ الأواني تنضحُ بِمَا فيها وصديقتي ملأى بكلّ الجمال المُحرّض على الحياة.. أذّكرها كلّ يوم بقوّتها، صبرها، اِجتهادها وكفاحها دون هوادة، أزوّدها بجرعات من الأمل والإيجابية ليس كذبًا، لكن إيمانًا بها وبخير الإنسان، أجّمل حياتي، حياتها وحياة المحيطين بنا، فالخير معد تمامًا كما أي شيء آخر..
فضيلة المُدّعية للقسوة هي التفهّم واحترام الآخر بكلّ خصوصياته ونقائصه، الوحيدة التي أتعرى في حضرتها وأنا آمنة ودون أن أخاف من المُحاكمة، فهي القلب والفكر المنفتحين على الآخر والمحترمين له ولاِختلافه.تحدثني فضيلة يوميًا عن ذكرياتنا، عن قسنطينة وعن الجزائر الألم الغائر الّذي لم تُشفَ منه حتّى أنّها كثيراً ما أخبرتني أنّها في سنواتها الأولى ببيروت كانت تحس بمسؤوليتها تُجاه أي جزائري ساقته قدماه والظروف إلى لبنان وطرق بابها طالبًا المساعدة، ولم تتوقف عن ذلك إلاّ والكثير من قاصديها يُسببون لها المتاعب، لكن لم يثنها ذلك عن الاِعتزاز باِنتمائها للجزائر، بل أنّها لا تخلّف مناسبة تُعبر فيها عن اِعتزازها بجزائريتها وأظن أنّها شيمة الأوفياء والمخلصين من أبناء الجزائر، زد على أنّ فضيلة هي سليلة الثوّار والمجاهدين ولا تكف عن تذكر سنوات صباها التي قضتها في «آريس» مهد ثورة نوفمبر المُظفرة في كنف ذاكرة ما فتئت تغرس فيها كيف رمى جنود فرنسا جدها الطبيب من الطائرة وكيف يُلطّخ وجه ماما كلثوم (أمها التي ربتها) وغيرها من جميلات المكان حماية لهن من الاِغتصاب..
سبعة وعشرون عامًا مرت على مغادرتها للوطن الّذي لم يُغادرها، سبعة وعشرون عامًا من الشوق والحنين المُتجددين ففضيلة ضاربة العمق في جزائريتها، فكما تحسن اللهجة اللبنانية على اِختلاف مناطقها لم تُغادرها لهجتنا العامية بجُملها الشعبية البسيطة، فضيلة عاشت دومًا قريبة من البُسطاء على اِختلاف فئاتهم، حساسة للكلمات وطريقة نطقها وسياقات اِستعمالها وقد أخذ اِبنها طارق عنها ذلك فتعلم منذ نعومة أظفاره كيف يُعبّر عن اِزدواجية أصوله حتّى الأمازيغية منها، بالإضافة إلى أنّه مُناصر مستميت للفريق الوطني الجزائري ولكلّ لاعب جزائري على مستوى  الفِرق الأجنبية.
صدق فضيلة الفاضح خلق لها مكانًا في لبنان كإعلامية وكاتبة، أمّا أكثر ما تعتز به هي هو مكانها في مجتمع «رومية» الضيعة الجبلية اللبنانية التي أحبتها ورحبت بها، فحالها حال كلّ القُرى، كلّ الأبواب مفتوحة فيها، والكل يعرف الكل، والكل يعرف الست فضيلة ويُقاسمها الفرح والقرح ولن أنسى يوم واقعة «أم درمان» وفوز المُنتخب الوطني الجزائري حين جاء الجميع للاِحتفال معنا ومُقاسمتنا الفرحة لأنّني كنتُ هناك ولم تُفوّت فضيلة فرحة رفع عَلم الجزائر فوق سيارتها لنجوب يومها نصف شوارع بيروت.فضيلة ومن فرط إنصافها لا تكف عن تذكير كلّ الدنيا أنّي من فتح لها الأبواب المُوصلة إلى قسنطينة الأزقة، العادات والتقاليد مُؤكدةً سمة الاِعتراف وعدم النكران ناسيةً أنّنا نجني الحب حين نزرعه وهو موهبة صديقتي الأولى، حب نمارسه على طريقتنا، حول فنجان القهوة صباحًا في قاعة الجلوس ببيتها، في إحدى قاعات السينما ببيروت لأنّها عاشقة للشاشة الكبيرة، ونحن نزور قلعة موسى أو زوق مكايل.. فضيلة عكست زمن صداقتنا الجميل، فهي من فتحت لفضولي نوافذ أطل من خلالها على جغرافيا واسعة لبلد صغير وثقافة أكثر تنوعًا وثراءً أغنت تجربتي الإنسانية والعلمية، وكانت قبل ذلك قد اِستفزت الإنسان داخلي، فلا أحد كفضيلة علمني كيف أُقبل على الجمال.
حين طلبت مني «نـوّارة لحـرش»، كتابة شهادة عن فضيلة، قلتُ لها أنّي الأحق بذلك، لكنّني اِكتشفتُ أنّ الكلمات قد تُصاب بالعاهات هي الأخرى حين تعجز عن إيفاء أرواحنا حقها.. عذراً صديقتي لأنّ الكلمات خانتني ولم تتسع لإنصافك ولِمَا عشناه وللأحلام التي ما تزال تُراودنا../(بكلّ حب كوكو شانيل). 

الرجوع إلى الأعلى