ما الّذي قدمه/ وما الّذي يمكن أن يقدمه المثقف العربي للقضية الفلسطينية، (في السابق وفي الحاضر أو المستقبل)، وماذا عن دوره في قضية الصراع العربي الإسرائيلي، وما مدى إيمان هذا المثقف بدوره تجاه هذه القضية، وبأنهاّ هي قضيته أيضًا كإنسان في المقام الأوّل وكمثقف له صوته ورأيه وأفكاره في القضايا المصيرية الكُبرى ومن ضمنها أم القضايا -فلسطين-؟ أيضا ما مدى وعي هذا المثقف بالقضية الفلسطينية، ومحوريّتها ومركزيّتها وعدالتها وكونيّتها؟
*  إستطلاع/ نــوّارة لحــرش
حول هذا الشأن «المثقف العربي والقضية الفلسطينية»، كان ملف «كراس الثقافة» لهذا العدد مع مجموعة من الكُتّاب والدكاترة الأكاديميين الذين تناولوا المسألة، من خلال مساهمات ومقاربات، وكلٌ حسب رأيه وقناعاته وجهة نظره، لكن تلتقي المساهمات والآراء تقريبًا في نفس المعطى والسياق.

نبيل دحماني كاتب وأستاذ وباحث أكاديمي –كلية العلوم السياسية- جامعة قسنطينة3
دور المُثقف العربي اِنحصر في التباكي على الأطلال والاِندماج في قضاياه المحلية
تُعد القضية الفلسطينية أحد أهم القضايا العالمية والإنسانية العربية خلال أزيد من قرن من الزمن، أي منذ وعد بلفور المشؤوم1917، والّذي اِعترفت بموجبه الحكومة البريطانية بحق اليهود في وطن قومي على أرض فلسطين. وهي الفترة التي كانت فيه أقطار العالم العربي في معظمها تحت الاِنتداب والاِحتلال البريطاني والفرنسي. مِمَّا يدل على أنّ القضية ككلّ لم تكن في يد العرب طالما أنّ هؤلاء لا يمتلكون تقرير مصيرهم وهي إحدى المصائب الكُبرى التي ألمت بالعالم العربي المُتشتت والمُمزق بين قِوى الإمبريالية التقليدية والاِستعمارية الحاقدة.
في العقود اللاحقة وبتواطؤ بريطاني وأمريكي صريح تمّ إعلان قيام دولة الكيان الصهيوني الدخيل في مارس 1948، في ظل غياب أي دور مُناهض عربي اللّهم حركات المقاومة من داخل فلسطين أو بدعم بعض الدول العربية التي لا تزال تابعة بشكلٍ أو بآخر للاِحتلال أو الاِنتداب على طول الاِمتداد الجغرافي العربي من الخليج إلى المحيط. حيث تمّ زرع كيان دخيل على المنطقة العربية يقسم جغرافية عالمنا العربي إلى قسمين، بعدما أخذ جزءاً هاماً من سوريا التاريخية وامتد عبر صحراء النقب ووصل إلى خليج العقبة من خلال مرفأ إيلات المُطل على البحر الأحمر جنوبًا، والبحر الأبيض المُتوسط في الشمال الغربي، ونهر اليرموك شمالاً وبحيرة طبرية ونهر الأردن والبحر الميت شرقًا.
لم تكن هناك مساهمات أو أدوار بارزة للمثقفين العرب في دعم هذه القضية في بداياتها بفعل اِنغماسهم في قضايا قطرية مرتبطة بالتحرّر كما هو الشأن في سوريا والعراق ولبنان أو مصر وتونس والجزائر، وما وُجِدَ من إرهاصات لم تكن بالقدر البارز أو المُؤثر على الأقل إلى غاية بداية مشاريع الوحدة بعد ثورة الضُباط الأحرار في مصر23جويلية 1952. وهي حركة اِنقلابية عسكرية كان الهدف منها اِستعادة الدولة المصرية من التبعية للوصاية البريطانية. هذه الوضعية تجد ما يُشابهها في سوريا والعراق، وقد تبدو بأكثر حِدة كما هو شأن الحرب التحريرية في الجزائر التي كانت تحت الاِحتلال المُباشر. فقد اِندمج المثقفون العرب في قضاياهم المحلية أكثر من اِهتمامهم بالقضايا العربية.
غير أنّ الوضع تغير تقريبًا بعد العدوان الثلاثي على مصر 1956، والتي كان الكيان الصهيوني أحد أطراف هذا العدوان في ثاني حرب عربية صهيونية بعد حرب 1948. في كلّ هذه الفترة كان الحوار السائد هو حوار السلاح الأداء العسكري والسياسي العربي وحركات التحرّر القطرية كما يحب البعض وصف ذلك غير أنّ الوضع تغير بعد نكبة 1967. بحدوث اِستفاقة فكرية وثقافية عربية أرادت مجابهة هذا الاِحتلال ومحاولات التمدّد الصهيوني على جغرافية المشرق العربي، فاشتغلت الصحف والأقلام والخطابات والندوات والفعّاليّات الفكرية كلٌ حسب مرجعياته الثّقافيّة والإيديولوجية للتصدي لهذا العدوان وبأداء أكثر وضوحًا ولكن أقل اِستقلالية وفعّاليّة وهو واقع يطبع الكثير من النُظم العربية التي ظلت تُقايض مثقفيها ونُخبها الحية وحتّى شعوبها باِحترام الخطوط الحمراء مُقابل هامش من التفكير والتعبير ولدينا في الصُحف المصرية الكُبرى خير دليل وهي الصُحف التي كانت تزخر بأقلام عربية ذات باع وأثر في توجيه الرأي العام العربي والمحلي، وهو فضاء يعجُ بالكثير من المخاطر على المُثقف نفسه طالما أنّ السلطة القائمة آنذاك لا تسمح بالكثير من الحرية.
ولعلّ ذلك ما دفع نزار قباني في قصيدة من قصائده المعنونة بــ"أطفال القدس" يصف المُثقف العربي بالدببة القطبية، حين قال: "... بهروا الدنيا/ وما في أيديهم إلاّ الحجارة/ وأضاؤوا كالقناديل/ وجاؤوا كالبشارة/ قاوموا/ وانفجروا/ واستشهدوا/وبقينا دببا قطبية/ صفحت أجسادنا ضدّ الحرارة...". أو ما قاله معين بسيسو عن بؤس الأداء العربي واصفًا السلطان بأقذع الصفات، أو كما وصف ذلك محمود درويش في قصيدة له، قائلاً: "تركوك وحدك يا اِبن أمي يا اِبن أكثر من أب"، وهو الواقع الّذي يلخص أداء المُثقف العربي تجاه قضايا الأمة نتيجة اِنشغاله بمآلات أخرى ومصالح ضيقة في أحايين كثيرة مُتسببًا عن قصد أو غير قصد في اِستمرار نزيف الأمة العربية وتشتتها، ناهيك عن دور السلطة العربية والتي تعرف علاقتها بالمُثقف حالة من التشنج المُزمن والقطيعة التامة.
لذلك فقد اِنحصر دور المُثقف العربي خلال الستين سنة الماضية في التباكي على الأطلال والتغني بأمجاد واهمة لسلطان لم ينجح في اِسترداد الحق المهضوم. وعلى هذه الأرض أمّ البدايات والنهايات ما يستحق الحياة على حد تعبير محمود درويش كانت تُسمى فلسطين ولازالت تُسمى فلسطين وستبقى فلسطين مهما خذلناها كمثقفين بائسين أو ساسة متآمرين.

محمّد تحريشي كاتب وأستاذ في النقد الأدبي، وعميد كلية الآداب واللغات -جامعة بشار
اصطدام المثقف العربي مع سلطات بلده أثّر على اهتمامه بالقضية المركزية
إنّ الحديث عن المُثقف العربي وقضية العرب المركزية فلسطين هو حديث عن دور المُثقف العربي بغض النظر عن كلّ التنظيرات لهذا المُثقف وبصفاته ونعوته المُختلفة، وبحسب ميوله السّياسيّة والإيديولوجية وبحسب الطبقات الاِجتماعية التي ينتمي إليها، أو حتّى بالنسبة لتحوّلات درجات الوعي عند هذا المُثقف أو ذاك ليمثل النُّخبة الفكرية للمجتمع. جاء في تعريف فيلتشيف (عن صلاح كامل، الانتلجنسيا، دار الفارابي): «إنّ ما يعين تعيينًا دقيقًا، الأفراد الذين ينتمون إلى الانتلجنسيا هو المقام الخاص الّذي يحتلونه في التقسيم المجتمعي للعمل، فالانتلجنسيا تشمل جميع أولئك الّذين ترتبط مهنتهم بالعمل العقلي: علماء، أدباء، مدرسين، فنانين ورسامين، أطباء، ومهندسين وتقنيين... وتشمل جزءاً كبيرا من ملاكات المناصب العامة، والمؤسسات والمنشآت... والاِقتصاديين والمحاسبين والخزنة، ومن ثمّ، فإنّ الوظيفة المجتمعية الجوهرية للانتلجنسيا، هي الفاعلية الذهنية في جميع الميادين». واِنطلاقًا من هذا التحديد الإجرائي فيمكن القول أنّ الحديث عن دور المثقف هو حديث عن كلّ هذه النُّخبة بكلّ فئاتها، ومن ثم فكلنا معنيون بهذه القضية المركزية، وكون قضية فلسطين هي جوهر الصراع العربي الإسرائيلي، فقد شكلت تجاذبات كثيرة بدءاً من مواقف تقليدية اِرتبطت بوضع سياسي للعرب في اِتفاقية سايكس بيكو ومخلفات الحرب العالمية الأولى والثانية، وما عرف الوطن العربي من أنظمة سياسيّة أنتجت نخبها التي تعاملت مع القضية بين التعامل العاطفي والتعامل الثوري والتعامل الراديكالي والتعامل العضوي، وفي حالات تعاملاً مُتخاذلاً لغياب الاِنسجام بين المواقف السّياسيّة ومواقف النُّخبة وتطلعات المجتمعات العربية قياسًا إلى هذه القضية الجوهرية.
الواقع أنّ المثقف العربي تُواجهه الكثير من الصعوبات والعوائق للقيام بدوره المنوط به في هذه القضية، من ذلك تصادمه مع السلطة السّياسيّة لبلده خاصةً لما لا تتوافق مواقف بلده السّياسيّة وما يتبعها من قرارات ومواقف مع موقف هذا المثقف. ومن ثمّ فإنّ دور المثقف يرتبط بدرجة أكبر بالعلاقة بينه وبين السلطة السّياسيّة في بلده وبالهامش الّذي يمكن له أن يُناور فيه للتعبير عن موقفه عن هذا الصراع. إنّ هذه العلاقة تؤدي حتمًا إلى فئتين من المثقفين؛ فئة خاضعة لإغراءات السلطة إلى درجة أن تصير بوقًا من أبواق الدعاية السّياسيّة، وفئة ترفض هذا الاِنصياع وتُمارس نوعًا من المعارضة حفاظاً على اِستقلالية الرأي والموقف، ومن ثمّ يكون التعامل مع هذه القضية المركزية اِنطلاقًا من موقف كلّ فئة بحسب التوجيه السلطوي السياسي أو بحسب القناعة الشخصية بعيداً عن الموقف السياسي لكلّ بلد.
إنّ للتنشئة الأسرية والاِجتماعية دوراً مهمًا في مواقف المُثقف من القضايا الجوهرية والمركزية للأمة؛ من ذلك أنّ إدوارد سعيد صرّح في كتابه (خارج المكان، ص:158،159، دار الآداب، بيروت) قائلاً: «بفضل عمتي نبيهة اِختبرت فلسطين أوّل الأمر تاريخاً وقضية من خلال الغضب والاِستنكار اللذين أثارهما في عذاب اللاجئين. هؤلاء الآخرين الّذين أدخلتهم هي في حياتي. وهي أيضاً أوّل من نقل إلى مشقات أن يكون المرء بلا وطن أو مكان يعود إليه، محروماً من حماية سلطة أو مؤسسات وطنية، عاجزاً عن أن يعطى ماضيه أي معنى غير الأسف المرير العاجز، وعن أن يعطي أي معنى لحاضره غير الوقوف في الصف يومياً والبحث القلق عن العمل ومعاناة الفقر والجوع والمذلة. أحسست إحساساً حاداً جداً بكلّ هذا من خلال الاِستماع إلى أحاديثها ومراقبة تنظيم عملها اليومي المحموم». وبالقدر ما يكون الواقع نبراسًا يدق في عالم النسيان، بالقدر الّذي قد يُشكّل ضغطًا رهيبًا مع خيبات الأمل مع بعض الاِنكسارات، ومع تطورات هذه القضية بين القوّة والضعف، وبين الاِنتصار وبين النكسة، وبين التخاذل والالتزام وبين الفعّاليّة والواقعية.
تجلت قضية الصراع العربي الإسرائيلي في كثير من مواقف المثقفين العرب وفي أعمالهم الفكرية والفنية انتصاراً للقضية ودفاعًا عن موقف مبدئي إنساني وجودي يرتبط بالحق في العيش بسلام وبكرامة وبالحق في العودة وبالحق في الحرية.

عبد القادر رابحي كاتب وناقد وأكاديمي –جامعة سعيدة
سرديّة متهافتة قايضت «الحداثة» بالتنازل عن القضية المركزية
هل ثمّة من داع للتذكير بأنّه إذا كان من ضرورة قصوى لحمل سؤال الوجود عبئًا وسلّما ومآلاً بالنسبة للمثقف العربي، فإنّه سيكون بالضرورة هو نفسه سؤال القضية المركزية التي هي قضية فلسطين وليس غيره ولا يمكن أن يكون بأي حال من الأحوال سؤال آخر غيره. هكذا كان مصير المُثقف العربي فيما مرّ عليه من تجارب تاريخية، وهكذا يجب أن يكون في مستقبل ما تُخبئه له التجارب القادمة مهما تغيّرت الظروف السّياسيّة والمُعطيات الاِجتماعية والمقاربات الفلسفية والثقافية التي عاصرها وجرّب مكنوناتها في السابق، أو التي يعيشها الآن في راهن الأزمة التاريخية التي يُعانيها جرّاء اِنجراره وراء تيارات وتصورات إيديولوجية أرّقت وجوده وشوّشت على رؤيته وغيّرت موقفه، أو التي سيُكابدها في مستقبل الأيّام بِمَا يحمله مستقبل الأيّام من إبهام وغموض لا بدّ له من الاِستعداد لمفاجآته. إنّ سؤال الوجود بالنسبة للمثقف العربي هو سؤال القضية الفلسطينية مهما حاول أن يتهرب منه أو يتبرّأ من تبعاته أو يختلق للحالتين تبريرات منطقية أو تعلاّت فلسفية أو أسباب تاريخية للهروب من قضيته المصيرية، لأنّه سيراها أمامه، تُلاحقه في حلمه وفي واقعه، في حلّه وفي ترحاله، في عبوره الحياتي وفي مستقره الأخير. ذلك أنّ القضية المركزية هي قضية الأرض ولا يمكن للوجود أن يتحقّق خارج الأرض أو بفقدانها النهائي، أو بالاِستسلام لمتغيّرات عابرة أو ظروف قاهرة تؤدي إلى فقدانها النهائي.
لعلّه من الضروري الإلحاح على أهمية الدور الّذي لعبه المُثقف العربي منذ عصر النهضة في حمل لواء التنوير بمختلف توجهاته الفكرية والإيديولوجية من أجل توعية الشعوب العربية المغلوبة على أمرها بِمَا كانت تُعانيه من أمية وجهل وتخلف جراء المحق الكولونيالي. وقد أدى هذا الدور إلى التأسيس لوعي تاريخيّ عميق كان عاملاً حاسمًا في بلورة النُّخب العربية لمشاريع تحرّرية أعادت الوعي للإنسان العربي وحملت الإنسان على اِستعادة حريته المسلوبة بالرغم من العراقيل والمُثبطات التاريخية التي وضعها الاِستعمار في طريقه.
لقد كان المُثقف العربي حاضراً في التأسيس للوعي النظري بدوره المفقود جراء تخليه عن لعب دوره التاريخي في صناعة القيمة الحضارية وضمان مكانته في العالم بكلّ جدارة واستحقاق. كما كان حاضراً في بلورة الوعي الثوري التحرّري ورسم إحداثياته الفلسفية والفكرية والسّياسيّة التي أدت إلى صناعة جيل ثائر على الوضع الاِستعماري، مُتحرر من عوالق المحق الكولونيالي والخمول الفكري والسياسي، ومستوعب لجدلية اللحظة التاريخية الحاسمة التي كان لابدّ للنُّخب الثّقافيّة والسّياسيّة أن تستوعبها وتحولها إلى مخزون اِستراتيجي أدى بالشعوب العربية إلى الخروج من النفق الكولونيالي وتأسيس الدولة الوطنية الطامحة إلى تحقيق العدالة الاِجتماعية وتكوين أجيال جديدة تتمسك بدورها الحضاري في تحقيق ما لم تستطع تحقيقه الأجيال الأولى من المثقفين والسياسيين الوطنيين.
غير أنّ ثمّة إشكالات جوهرية بقيت عالقة في صلب المعركة النضالية التي خاضها المُثقف العربي خلال مسيرة ما يُقارب القرن من النضالات التاريخية على مختلف الجبهات لترسيم رؤيته التحديثية في الواقع السياسي والاِجتماعي للشعوب وتوثيق اِلتزاماته بقضاياه المصيرية التي كانت دائمًا المُحفز الحقيقي لكلّ رؤية ثقافية تطمح إلى اِتخاذ مواقف من مستجدات العصر التي كانت تجتاح العالم بقوّة وعنف كبيرين. لقد لعبت التغييرات التاريخية التي كانت تُواجه النُّخب الثّقافيّة العربية دوراً فاعلاً في ترجيح كفة الشكّ على اليقين فيما يتعلق بتجربة هذه النُّخب مع الإشكالات المصيرية التي واجهتها خلال معركتها التحرّرية وأثناء بناء الدولة الوطنية. شكّ متولدٌ أساسًا من خضم ما واجهته التصورات النظرية لهذه النُّخب من معوقات واقعية مُتعلقة بفشل تجارب التحديث السياسي والاِقتصادي والاِجتماعي على مستوى الواقع، مِمَّا ولّد اِرتدادات رهيبة على مستويات النجاح في بناء الركائز الصحيحة للدولة الوطنية الخارجة من الاِستعمار كما كان يحلم بها المُثقف العربي وكما كان يطمح إلى تحقيقها في وطنه وهو يراها تتحقّق في مجتمعات أخرى غير عربية بأقل الإمكانات والمجهودات. إنّه الشّك الّذي اِنعكس على إيمانه العميق بالقضايا المصيرية الكُبرى ومن ضمنها أم القضايا التي هي القضية الفلسطينية.
لقد كانت القضية الفلسطينية المصدر الحقيقي لكلّ وعي حقيقي بتغيير الواقع المُزري للشعوب العربية وحملها على توطيد علاقتها بالمعركة المصيرية التي حسب البعض أنّها اِنتهت لمجرّد التحرّر الشكلي من الكولونيالية والاِستقلال الظاهر من الاِستعمار. ولم تكن هزيمة 67 غير علقم مُرّ في كأس ما سيتجرعه المُثقف العربي من مرارات مُتتالية طالت كلّ المسلمات التي لم يكن أحد يعتقد أنّ العالم العربي سيصل إليها. لقد تمّ إيهام النُّخب العربية، أو يمكن تسميتهم بـ»المثقفين الجُدد» بألاَّ إمكانية لتحقيق نقلة نوعية تُمكّن المجتمعات العربية من الدخول في العصر بِمَا هو حداثةٌ من دون القبول بِمَا يحمله المشروع الحداثي من شروط ضاغطة مُتضمنة العديد من التنازلات التاريخية للدول العربية الراغبة في نقل الحداثة  ليس أقلها التنازل على فكرة الإيمان المُطلق بالقضية المركزية بِمَا تُشكله من ضرورة الاِلتزام التاريخي بتحرير الأرض الفلسطينية كاملة غير منقوصة والتخلي عن قضية القدس مهبط الوحي ومركز الوعي والقبول بالكيان الصهيوني شوكة دائمة في قلب الأرض العربية. كما لعب وعي المُثقف العربي بتبعات هزيمة 67 وبِمَا حملته على اِنتكاسة تاريخية على مستوى البنيات السّياسيّة للمجتمعات العربية في ترسيخ منطق الهزيمة نظراً لطغيان تسرّب التصورات اليائسة إلى/في المجاري الجافة لبنية الخطاب الثقافي العربي بسبب ما صارت تُعانيه الدويلات الوطنية من حرَنٍ على مستوى تجديد إمكانات تجاوزها لتبعات الهزيمة نظراً لتغوّل الأنظمة العربية في التأسيس المرَضي للأنساق الدكتاتورية التي وُلِدت من رحم الدولة الوطنية ودورها السلبي في تزييف الحقيقة التاريخية لأجل الحفاظ على مصالحها الضيقة وضمان ديمومة حكم العائلات المحلية، وكذا على مستوى تقهقر طموحات الشعوب في رؤية القدس متحرّرة من أغلال الكيان الصهيوني الدخيل بصورة نهائية نظراً لغياب هيبة الأنظمة العربية أمام الواقع الدولي الّذي ما اِنفك يزداد شراسةً وتجبراً في مواقفه تجاه الشعب الفلسطيني والأرض الفلسطينية، وتحيزه اللامشروط للكيان الصهيوني، ودفعه للأنظمة العربية إلى طاولة المفاوضات/التنازلات التي أثبتت الأيّام أنّها كانت أخطر الخيانات التي تعرض لها الإنسان العربي عبر التاريخ.
لقد لعب براديغم الهزيمة دوراً أساسيًا في صياغة سردية مُتهافتة على الأطروحات التحديثية كبديل لمذلة الخضوع المنهجي للدكتاتوريات المحلية من جهة، والخضوع لسطوة الأنغراس القسري للكيان الصهيوني في بنية الواقع الجغرافي للإنسان العربي ككلّ، وفي بنية الواقع الثقافي للمُثقف العربي من جهة أخرى. ولعلّ من أبزر الأكاذيب التي اِنطلت على هذه السردية التي تكاد تصبح حقيقة مرّة في واقع المُثقف العربي، هي قبوله المبدئي باِستحالة تحرير الأرض العربية بالإرادة نظراً لاِستبداله منطق الإرادة بمنطق القوّة المفقودة مِمّا أدى إلى الجنوح إلى البحث عن السلم الوهمي كمبرر منطقي للهزيمة، هزيمة الدويلات الوطنية في التحديث وفي توفير الأسباب التاريخية لمواجهة الكيان الصهيوني من جهة، وهزيمة المُثقف العربي في الحفاظ على المناعة الفكرية والفلسفية للأنساق الثقافية الظاهرة والمُضمرة التي كانت تُشكل سدَّا منيعًا أمام منطق الهزيمة مِمَّا أدى إلى اِختراقها فعليًا من طرف التيارات الفكرية والفلسفية التي كانت ترفع لواء التحديث مُقابل السلام مع العدو الصهيوني، وتُنادي بقبول الحل المفروض من طرف القِوى المُساندة للكيان الصهيوني.
هل ثمّة من طريق آخر غير عودة المُثقف العربي إلى المرجعيات التاريخية التي أسست لمبدأ تحرير الأرض من الاِستعمار من أجل تغيير براديغم الهزيمة ببراديغم النصر؟ وهل ثمّة من إمكانية لاِقتناعه النهائي بمبدأ الإرادة الصلبة التي تهزم القوّة المُتغطرسة؟ وكيف يمكن للمُثقف العربي أن يتحرّر فلسفيًا ومعرفيًا من النسق الكولونيالي المُهيمن بنسخته الجديدة الأكثر شراسة على الإطلاق؟ وكيف له أن يخرج نهائيًا من عباءة وهم التحديث القسري الّذي جربه لمدة زمنية تُقارب القرن من الزمن من دون أن يجني منه غير الخسران والثبور والهزائم المُتكررة من دون أن تعود الأرض لأهلها الأصليين؟ وهل له غير العودة مُجدداً إلى المرجعيات التاريخية والحضارية لإعادة زرع القضية المركزية التي هي القضية الفلسطينية مرجعًا أساسيًّا وموضوعةً مُهيمنة في عُمق الأنساق الفكرية والثّقافيّة والإبداعية العربية؟ ذلك ما يمكن أن تُراهن عليه الأجيال الحاضرة والقادمة من المُثقفين العرب وهي ترى مدى تشتّت راهن الأُفق الوجودي للإنسان العربي أمام طغيان الأطروحات الهووية والعرقية والجهوية وخطورة ما يمكن أن تُؤدي إليه من تلاعب خطير بمصير وحدة الأرض والإنسان والمصير.

إبراهيم بن دايخة باحث وأستاذ محاضر بكلية العلوم السياسية جامعة قسنطينة3
سقوط غير مفهوم  لفلسطين من اهتمامات المثقفين
كثيراً ما مثلت قضية الصراع العربي الإسرائيلي قضية العرب والمسلمين خارج الحدود الفلسطينية، ومن خارج الحدود الجغرافية والحضارية للوطن العربي، فلطالما شكلت القضية الأولى لكلّ عربي ومسلم، بالنظر إلى اِرتباطاتها الدينية، التاريخية، القومية والقيمية بكلّ أقطار العالم العربي والإسلامي، وحتّى لدى المُدافعين عن قيم الإنسانية والحرية من بقية شعوب العالم.
في مقابل ذلك، عرفت القضية الفلسطينية محطات كُبرى ومفصلية، أعطت في كثير من الأحيان اِنطباعًا عامًا باِنقلاب موازين القِوى لصالح الكيان المُحتل وحلفائه الغربيين. وخلفت بذلك شعوراً بالإحباط والاِستسلام بشأن تحقيق النصر على الأمد المنظور. وعلى وقع أحداث كبيرة عايشتها الأقطار العربية على غرار وقائع ثورات الربيع العربي، التي شتتت اِهتمام الشارع العربي وحادت باِهتماماته بعيداً عن قضيته الأولى، ناهيك عن الخلافات والاِنقسامات الفلسطينية/الفلسطينية على وقع توتر العلاقات بين التيارات والفصائل الفلسطينية، والتي أفقدت وأضاعت الأمّل لدى الشعوب العربية في إمكانية تقوية الداخل الفلسطيني ورصّ صفوف الجبهة الداخلية وتوحيد جهودها خدمةً للقضية الأم. فقد ساهمت هذه العوامل وبشكلٍ كبير في تراجع بريق ومكانة القضية الفلسطينية لدى أوساط رسمية وشعبوية عربية.
ورغم كلّ ذلك، لا نجد عذراً للشعوب العربية الحائرة، وأنظمتنا المُتهالكة المُنشغلة بسفاسف الحُكم وتفاصيل الصراعات الداخلية وتوازنات القِوى إقليميًا ودوليًا، في خذلانها للشعب الفلسطيني وتناسي قضية العرب والمسلمين الأولى.
من جانب آخر، يُلاحظ غياب شبه تام للقضية الفلسطينية على مستوى الكِتابات والاِهتمامات الفكرية لدى أوساط عديدة من مثقفينا، أين غابت القضية الفلسطينية ولسنوات عديدة عن كِتابات وإسهامات مفكرينا وكُتَّابنا، ناهيك عن محدودية الفعّاليّات الثّقافيّة التي تُعنى بإعادة الأنظار نحو القضية والعودة بها إلى تصدر المشهد الثقافي العربي.
قد نتفهم وضعية الأنظمة العربية المغلوب على أمرها، في صرفها النظر عن دعم القضية الفلسطينية، في الوقت الّذي سارعت الكثير منها نحو تسوية وضعيتها مع الكيان المُعتدي في إطار مساومات واتفاقيات تطبيع، حرصت على إنجاحها سلطة الاِحتلال برعاية أمريكية، زادت من مآسي الشعب الفلسطيني، وأتت على ما تبقى من بوادر أمل بشأن مستقبل الشعب الفلسطيني. كما قد نتفهم غفلة الشعوب العربية وحيرتها جراء وضعياتها المأساوية، إلاّ أنّنا لا نجد تفسيراً مُقنعًا لغياب القضية الفلسطينية عن اِهتمامات وإسهامات العقول العربية ومثقفيها. في الوقت الّذي أثبت التاريخ الإنساني دور وتأثير الكِتابات والإسهامات الفكرية في دعم عديد القضايا الإنسانية العادلة، ولعلّ كِتابات مفكري العقد الاِجتماعي وغيرهم من دُعاة الفكر اللبرالي في العالم الغربي حول دعم قضايا الحرية وحقوق الإنسان، ناهيك عن قيم المساواة والمشاركة السياسية، لخير دليل على قوّة وأهمية الفكر والكتابات في دعم القضايا الإنسانية العادلة.
فأمام محدودية دور الشعوب العربية، وخذلان أنظمتها العربية للقضية الفلسطينية، ساهمت أقلام مثقفينا المنكفئة على قضايا سطحية في مأساة الشعب الفلسطيني الّذي اِنتظر دعم مفكرين وتوجيه مثقفين في مسار نضاله، لكن اِنتظاره قُوبل بصمت وخذلان من نوع آخر غير الّذي عهده عن الأنظمة العربية. فإذا اِنزوت الكِتابات والإسهامات العربية في خندق التوازنات السّياسيّة، وقايضت شهرتها ومستقبلها بتهميش وتناسي القضية الفلسطينية، فإنّ ذلك في نظري أخطر من سياسات الخذلان والتطبيع التي سارعت إليها عديد الأنظمة العربية. لأنّ حركة العقول والأفكار لا يمكن طمسها بأي حال من الأحوال حتّى مع تعدّد القيود. لذلك فإنّ تراجع الاِهتمام العربي بالقضية الفلسطينية، وضعف مشاعر الاِنتصار للمظلوم والتعاطف مع الشعب الفلسطيني، من أهم مخلفات تجاهل مثقفينا العرب في دعمهم للقضية الفلسطينية التي اِنتزعت اِهتمام العالم وتحكمت بمصيرها بسواعد شبابها رغم تخاذل المتخاذلين وخيانة الخائنين.

الرجوع إلى الأعلى