تحريـف بحاجــة إلى ضبـط وتقويـم علمـي طوبونيمـي
يستدعي الجدل الذي أثير حول حقيقة تسمية بعض المدن و المناطق في الجزائر، حسب ما أكده باحثون ومختصون، الوقوف بجدية عند حجم المغالطات التي يحاول البعض التسويق لها على أنها حقيقة، والتوجس من توسع هذه الظاهرة، لتضاف لما قامت به قوات المستعمر الفرنسي من تحريف لتسميات المدن والأماكن، في محاولة لطمس معالمها وهويتها اللسانية والثقافية وحتى امتدادها الحضاري والجغرافي، وتكوينها من حيث التركيبة الاجتماعية، إذ يعتبرالأستاذ حمزة محمد الباحث في الطوبونيميا والثقافة الأمازيغية أنه من الغريب أن تتم ترجمة أسماء بعض المناطق ترجمة حرفية من الفرنسية إلى العربية، دون مراعاة لخصوصيات المنطقة وأهلها وتاريخها، وامتداد قاموس كلماتها إلىاللسان الأمازيغي، مستدلا بما حدث مؤخرا من خلط بعد الإعلان عن أسماء الولايات الجديدة، بوضع تسمياتها الأصلية في حالتي إن صالح و إن قزام، وتوسع دائرة الجدل بشأنهما وإصرار البعض على فرض التسميات المتعود عليها (عين) صالح و (عين)قزام، رغم أنها مغلوطة ومحرفة،والدفاع عن الترويج  لها دون بحث ولا دراية، حتى من قبل بعض الفئات الجامعية و الطبقة المثقفة، ما استدعى في هذه الحالة بالذات على سبيل المثال تدخل سلطة ضبط السمعي البصري لتصويب الأخطاء التي عادة ما تتكرر عبر وسائل الاعلام.
 كما تتحدث الباحثة خديجة ساعد،عن أهمية الطوبونيميا، منبهة إلى أن تسمية الأماكن لا تطلق بمحض الصدفة بل لها دلالات ومعان، يتطلب التنقيب عن أصولها اتباع منهج بحثي مفصل يهتم بالأصل اللغوي الأنتروبولوجي لأسماء الأماكن والمناطق الجغرافية، أو ما يعرف بعلم الطوبونيميا الذي لا يزال فتيا و متوار و منسيا عندنا، داعية إلى الاعتماد عليه لتفادي الوقوع في المغالطات والتحريفات والتحولات التي رافقت مختلف الحضارات للعابرين بأرض الجزائر والغزاة المتعاقبين عليها، التي كان من أسوئها فترة الاستعمار الفرنسي، حسب ما أشارت إليه في مساهمتها  البحثية التي خصت بها النصر في هذا الملف.
عثمان بوعبدالله

* الباحثة والكاتبة خديجة ساعد
تسمية الأماكن لا تطلق بالصدفة والطوبونيميا علم منسي عندنا
تنبه، خديجة ساعد، الباحثة في اللغة والثقافة الأمازيغية، والكاتبة التي أصدرت عددا من المؤلفات، منها كتاب بعنوان الطوبونيميا الأمازيغية أسماء وأماكن من الأوراس، إلى أهمية علم الطوبونيميا المتعلق بتسميات الأماكن، باعتباره فضاء خصبا للتواصل مع الماضي والتصالح مع الحاضر، والتطلع إلى مستقبل أكثر انسجاما مع الذات والهوية، فالطوبونيميا كما تضيف هو ذلك الحيز الجغرافي والبنك اللغوي والشاهد التاريخي الذي يحفظ ذاكرة الأمة ويبقيها حية نابضة، لما له من أهمية في حياة الفرد والمجتمع، من خلال صياغتها وتطورها الذي يرسم إشارات لافتة إلى مختلف التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية التي طرأت على المجتمع عبر مُختلف الحقب التاريخية  فكل شبر من هذا الوطن هو قصة لارتباط أزلي بين الأرض والإنسان.
و أوضحت، أن النقاش الذي أثير منذ مدة حول حقيقة تسمية ولايتي إن صالح و إن ڤزام ومدى صحة كلمة «إن» بدل «عين» تحتم العودة إلى موقع التسميتين، مشيرة إلى أن الاعتقاد السائد  لدى إموهاغ  بأن الطوبونيم ينقسم إلى قسمين، « إن « حرف ملكية، بينما لفظ «أڤزام» فيشير إلى حادثة تاريخية مرتبطة بمعركة تم فيها القضاء على الأعداء بقطع رؤوسهم، والقطع يسمى أڤزام، كما أن هذا اللفظ يشير أيضا إلى حيوان الضب والذي يدعى أڤيزام.
و لتجنب الوقوع في الخلط بين التسميات، قالت إنه من الواجب خوض غمار البحث الطوبونيمي الذي يدخل في إطار علم قائم بذاته، ويتطلب التعمق والتحليل في عدد من الحقول المعرفية التي لا يمكن بأي حال اهمالها، كاللغة والتاريخ والأنثروبولوجيا والجغرافيا، ما يعطي صورة مقربة عن تاريخ هذه الأرض، مناخها، طبيعتها، عمرانها ومعتقداتها.
هكذا أثرت الحضارات و الغزاة المتعاقبون على التسميات بالجزائر
وتعرج الباحثة إلى جزئيات مهمة في تسميات الأماكن و تغييرها، إذ تشير إلى محاولة كل مستعمر ووافد على هذه الأرض، ترك بصمته في تسميات الأماكن إما تخليدا لثقافته، أو تقليلا من شأن ما هو محلي لأغراض ايديولوجية، غير أن الأضرار كانت متفاوتة من مرحلة لأخرى، فاقتصر تأثير الفينيقيين بحسبها على المدن الكبرى والساحلية بصفتهم تجارا، ولحد اليوم لا يوجد جزم حول المدن التي يعتقد بأن تسمياتها فينيقية مثل سكيكدة وجيجل وغيرها خاصة بعد انقراض اللغة الفينيقية.
أما الرومان فلقد أطلقوا – حسب ما توصلت إليه في دراساتها – تسميات رومانية للمدن التي أسسوها حديثا على غرار هيليوبوليس بقالمة و لومبازيس بباتنة، بينما حافظوا على التسميات الأمازيغية للمدن المؤسسة على أنقاض مدن أمازيغية مثل تيمقاد وثيمقال المحرفة إلى تاموقادي، وهناك من المدن الأمازيغية التي بقيت على حالها مع إضافة اللاحقة اللاتينية (س) فتحولت سطيف (الأرض السوداء) إلى سيتيفيس، و تبسة أو تيفست (أنثى الضبع) إلى تيفيستيس والقائمة طويلة.
ومع وفود الثقافة العربية المقترنة بالدين تم تعريب آلاف التسميات الأماكينية، خاصة تلك المرتبطة بالمعتقد (سيدي عبد الله) و ( سيدي عيسى)، و ما تبعها من تحوير فعلى سبيل المثال تحولت تسمية «م لبواغي» ( ذات البرك ) إلى أم البواقي، وبعض قرى بلديات باتنة مثل « تيزي ن تسيرث» إلى ثنية المطحنة، و ثيطأولوض إلى عين الطين وغيرها من الأمثلة. أما بالنسبة للتأثير التركي والعثماني، فتشير إلى أنه لا يكاد يذكر باعتبار أن اللغة التركية لم تؤثر بشكل كبير في المجتمع الجزائري، فالأتراك لم يؤسسوا لمنظومة تعليمية أو ثقافية تذكر، لانشغالهم بالإتاوات والمعارك البحرية، فنجد تسمية « ايغزر ن والداش» في الأوراس (يولداش / رفيق السلاح) وهم فرسان الأناضول الذين نشروا الرعب والقتل في الوطن، وباقي التسميات مثل باي، بايلك، ناهيك عن تسميات القصور المخصصة للرياس والحكام، كقصور حسين داي وأحمد باي بقسنطينة ومصطفى باشا ورياس البحر بالعاصمة.
التأثير الفرنسي كان مدمرا
و تعتبر الباحثة خديجة ساعد، أن التأثير الفرنسي كان مدمرا لأن الادارة الفرنسية لم تراع بتاتا المكون الأمازيغي كلغة وثقافة وهوية، ما أدى إلى تعريب مغلوط في الطوبونيميا، وإلصاق صفة الفينيقية بكل التسميات المبهمة لديها، ناهيك عن إطلاقها لتسميات كولونيالية لتمجيد عظمائها، كانروبار (أم لبواغي حاليا) سان توجان وسان بيار بوهران ومدينة كورني ( مروانة حاليا) دون أن ننسى التسميات المجهرية التي  تم تعريبها على الخرائط مما يصعب من مهمة البحث والدراسة .
وتختم إلى الإشارة لأهمية الذاكرة الجماعية في محاربة محاولات طمس معالم الهوية الجزائرية، حيث لا تزال هي الحامية للتراث وحارسة الثقافة، وهذا من شأنه أن يشكل نقطة انطلاق لإعادة الواجهة الحقيقية للطوبونيميا باعتبارها المرآة العاكسة للهوية، مع ما يتطلبه ذلك من تضافر الجهود، ودعم بقرارات سياسية صادقة وبحماية من قوانين صارمة، والتي برزت في وجه من أوجهها كما أكدت عليه في الاتفاق الأخير الذي تم بين المحافظة السامية للغة الأمازيغية ووزارة الداخلية، الذي يدخل ضمن هذا الإطار الذي يشكل حماية فعلية لجزء هام من هوية هذا الوطن، مبدية أهمية مثل هذه القرارات، ففي الدول المتقدمة تعتبر الطوبونيما موضوع بحث مستمر في الجامعات والمؤسسات الرسمية، لأن الأمر لا يتعلق بقضية تراث فقط، بقدر ما هو مسألة سيادة وطنية وعلامة خصوصية لتاريخ دولة وحدود لشخصيتها، وأحد مكونات هويتها الأساسية التي لا تقبل المساس بها .     

* الباحث في التسميات والثقافة الأمازيغية محمد حمزة من تمنراست
تحويل (إن) إلى (عين) تحريف في هوية المكان
يعتبر، الأستاذ محمد حمزة، من ولاية تمنراست، مفتش و باحث في التراث والثقافة الأمازيغية، أنه من الظواهر الغريبة في التعامل مع الطوبونوميا الجزائرية ذات الأصول المشتقة من اللغة الأمازيغية، أن جميع الأسماء المركبة من (إن)أو(تين)إضافة إلى الاسم الذي يقرن بها، لم تترجم أو تكتب في أغلبها بطريقة  صحيحة باللغة العربية، رغم أنها من أكثر تركيبات الطوبونيميا شيوعا في الجنوب وحتى في الشمال.
و يضيف، أن العديد من التسميات تعرضت إلى التحريف بترجمتها الحرفية من الفرنسية إلى العربية، دون مراعاة لمدلولها الأمازيغي، حيث تكتب(عين) في بداية التسمية بكل بساطه مثل (عين) صالح،(عين)تاي، (عين)أمناس، (عين) قزام  و (عين)أزوا وكل هذه التسميات تحمل الكثير من الغرابة لدى أهلها، باعتبارها محرفة وغير منطقية لكل من يجيد ويفهم كلمات اللغة الأمازيغية في هذه المناطق من الوطن، التي لا يمكن أن تطلق فيها أسماء لا تربط بين الدال والمدلول في تسمية المناطق الجغرافية، حيث هناك فرق شاسع بين مدلول(إن) أو(تين) التي لها دلالة خاصة بها في اللغة الأمازيغية، وعين التي لها  دلالة مختلفة تماما في اللغة العربية بسلخها و ترجمتها حرفيا من الفرنسية (in …) .
تسميات شوهت بترجمتها الحرفية من الفرنسية إلى العربية
و يشير إلى أن المعنى الوظيفي الأصلي  كما أطلقه الأجداد وسكان هذه المناطق الأصليون له مدلول آخر، باعتبار أن التسميات التي تبدأ بكلمة ( إن) على غرار إن صالح وإن أظوا أو إن قزام هي تسميات مركبة في الأصل، و تنقسم إلى قسمين إن في حالة المذكر أو تين في حالة المؤنث حسب الاسم المضاف إليه لتكتمل صفه الملكية أو الانتماء والإشارة في بعض الأحيان  إليها حسب خاصية الأمكنة والأشياء النباتية والحيوانية و المعدنية والمرفولوجية وحتى الانسان، وهي مميزات تنفرد بها هوية وخصوصية ذلك المكان المراد تمييزه عن باقي الأماكن، لكي يجد الإنسان أو المسافر شواهد أوصفات تدله على أن هذا المكان هو بالذات اسم على مسمى، إذ أن ترجمة تسمية إن صالح مثلا من اللغة الأصلية التماهق (التارقية) إلى العربية تعبر عن المعنى التالي›› ملك صالح›› وهذا يدل على الملكية، واذا ترجمت تسمية إن أمناس إلى العربية فهي تعني ملك الجمال أو المكان الذي تتواجد به الإبل والجمال، مضيفا أن مفردة إن أو تين هي ضمير ملكية يعطي الاسم المضاف إليه صفة الملكية والانتماء، وليس  عين التي تدل على منبع المياه أو بئر كما رسخته الترجمة الحرفية للكلمة من الفرنسية أو الكتابة اللاتينية، وحولت كل الأسماء التي تبدأ بكلمه إن في الجزائر إلى عين، وهو ما يستدعي حسب ما أشارت إليه دراسات وبحوث معمقة وعدم التسرّع في محاولة فرض مثل هذه الترجمات المحرفة، التي تعتبر حسب رؤيته اجحافا في حق  جغرافية وهوية المكان، وتحويرا لما صممته عبقرية الإنسان الجزائري الأمازيغي الذي سكن هذه الأماكن منذ مدة تزيد عن  مليونين و 400 سنة، ولهذا تصنف الطوبونوميا حسب ما كشف عنه في حديثه ضمن الثقافة والتراث الجماعي الذي يجب الحفاظ عليه من طرف الأجيال القادمة، بالنظر إلى ما تكتسيه من أهمية إستراتيجية كبيرة بالنسبة للدول والمجتمعات التي ترى فيها فائدة وطنية ودولية، من خلال الاستعمال الصحيح لها الذي تكون من نتائجه جني ثمار وفوائد متعددة في ميادين مختلفة مثل الإعلام والخرائط والسياحة والاتصال وحتى التعليم وفي ميدان الدفاع أيضا، حيث تعتبرها الكثير من البلدان مسألة سيادية ووطنية، كما أن دراستها والحفاظ عليها من مقومات الحفاظ على قوة الوطن وتماسكه، حيث تساهم في توطيد العلاقات التي تربط بين الانسان أو المواطن بإقليمه ولغته وتاريخه وهويته وحضارته والوطن بأكمله، وتعتبر في كثير من الأحيان بطاقة هوية للمكان للكشف عن تكوينه الجيولوجي ومرفولوجيته وجغرافيته والنباتات والحيوانات والمعادن الموجودة فيه، حتى الإنسان الذي يسكنه أو كان يسكنه، أين تطلق على بعض الأشخاص والقادة أسماء مناطق بأكملها كلقب أو اسم لقبيلته في بعض الأحيان.
أخطار ومشاكل تعرضت لها الطوبونوميا الأصلية
و من ذلك، أكد الأستاذ حمزة محمد، أن الطوبونوميا والاثنونيميا تعتبران من أهم المصادر للحفاظ على الذاكرة الجماعية للشعب ولمعرفة ماضيه،  وكانت دائما أول خطوة يقوم بها أي عدو بعد أن يستولي على الأرض البحث في طوبونوميتها وأسماء قبائلها وحتى الأشخاص، مستدلا بقيام قوات المستعمر الفرنسي بإصدار قوانين ادارية تمنع وتشوه هذا الإرث، ففي عام 1867 مثلا ولكي لا يبقى أي ارتباط بالماضي، قامت فرنسا بإلغاء أسماء القبائل الأصلية فمن أصل 2177 اثنونيما أصلي لم يتبق سوى 446 بعد تطبيق هذا القانون، كما أن طريقة إعادة كتابة الطوبونيميا من الفرنسية إلى العربية كانت خاطئة، حسب ما توصل اليه في دراسته، ومن أشهرها أن كل الأسماء التي كانت تبدأ بلفظ (إن- in  ) تمت ترجمتها حرفيا و تحويلها ببساطة إلى (عين)، فعلى سبيل المثال إن صالح أصبحت عين صالح و إن امچل أصبحت عين امچل ، و إن ڤزام تحولت إلى عين ڤزام وغيرها. كما أشار إلى توظيف إيديولوجية التعريف غير العقلانية، التي ذهب منظروها إلى اعطاء تفسيرات أسطورية خيالية لكل ما هو جزائري أصيل، في شكل تاغيت من الغيثة وڤانت جنات وتيماسنين نمت ياسين وإن امناس عين أمناس، وهي في الحقيقة تفسيرات خاطئة، مثلها مثل اطلاق أسماء من طرف العامة على الأماكن، فأصبح الجميع بإمكانه أن يسمي أو يخلد اسمه بإطلاقه على تسمية واد أو جبل أو منطقة. و بغية التقليل من أثار هذه التحريفات والتقليل من المغالطات، أصبح من الواجب حسب ما تطرق إليه في حديثه للنصر، و وفقا لما استنتجه من خلال دراسته البحثية، إنشاء أقسام ومعاهد على مستوى الجامعات المحلية تهتم بالتراث واللغات المحلية، على غرار اللغة الأمازيغية (تماهق)، ومنح الإمكانيات وإصدار التعليمات والأوامر للمؤسسات ذات الطابع الثقافي والتاريخي للقيام بترقية وجمع الطوبونوميا، وإنشاء دليل أو بنك أو قاموس محلي وطني للطوبونيميا (احصاء وترجمة)، و عدم اغفال مطلب انشاء لجان على المستوى المحلي تتوفر فيها الشروط العلمية والثقافية للقيام بهذه المهمة، بهدف تصحيح الأخطاء السابقة وتوظيف التعدد اللغوي.                                                                                           

الرجوع إلى الأعلى