الفكر العربي لا يزال ساحة صراع بين  السردية  التراثية  و السردية  الكولنيالية
* ظهور السلفيات في الثقافة العربية المُعاصرة أدى إلى إعادة تنشيط السردية التراثية وتضخيمها
في هذا الحوار، يتحدث الدكتور إسماعيل مهنانة (أستاذ محاضر للفلسفة الغربيّة المعاصرة في جامعة قسنطينة)، عن كتابه الجديد، «في نقد العقل السردي»، الصادر عن منشورات الاِختلاف/الجزائر، ودار ضفاف/ بيروت. وعن بعض أفكاره ومحاوره ومقارباته واستشكالاته. منها العلاقة بين السّرد والعقل. خاصّة في المحيط/ والسيّاق العربي. وفي هذا الشأن يرى أنّ أكثر السرديات التي تحضر وتتكرر في العالم العربي هي سرديات تراثية وكولنيالية على وجه الخصوص. كما يرى من جهة أخرى أنّ الثقافة العربية، كلّها تسبح في السرديات والحكايات والأساطير، والعقل العربي، -إذا صحّت العبارة-، هو عقل سردي باِمتياز، أي أنّه عقل يستمّد كلّ وظائفه الحالية، وممارساته وتصوّراته الكُبرى من السرديات والأساطير والإيمان المُسبق بالحكايات التي يعتقد أنّها حدثت تاريخيًا.
*  حاورته/ نــوّارة لحــرش
لهذا يرى أنّ مهمّة الأدب والسينما أيضا هي إعادة كتابة قصص التراث العربي كتخييل أدبي بعيداً عن تشنّج الحقيقة التاريخية. وهو معنى الحداثة هنا.

الفكر العربي لا يزال لحد الآن ساحة صراع بين السردية التراثية والسردية الكولنيالية
كتابك الجديد «في نقد العقل السردي»، عبارة عن مدخل ابستيمولوجي حول ظاهرة السرديات التي لا تزال تحكم عصرنا. وإلى جانب هذا هو أيضا مراجعة للسرديتين الأساسيتين اللتين تحكمان الفكر العربي المعاصر، (السردية التراثية والسردية الكولنيالية). لماذا برأيك أكثر السرديات التي تحضر وتتكرر في العالم العربي هي سرديات تراثية وكولنيالية على وجه الخصوص؟
إسماعيل مهنانة: ذلك لأنّ أوّل صدمة حضارية أيقظت الثقافة العربية الحديثة من سباتها التاريخي الّذي دام أكثر من سبعة قرون، جاءت كحملة اِستعمارية، وهي حملة نابوليون على مصر سنة 1800. فالمعروف أنّ نابوليون جلب معه في تلك الحملة جيشًا من العلماء والباحثين للبحث في ثقافة الشّرق، والحضارة الفرعونية وكذلك الحضارة العربية الإسلامية، وقد تُوجت تلك البحوث بموسوعة «وصف مصر» الشهيرة. وهي بداية الاِستشراق، أي معرفة ثقافة الشرق بالأدوات العلمية الغربية، وهنا تشكّلت السردية الاستشراقية. كما انتهت الحملة بيقظة ثقافية في مصر، انتهت بما يُسمّى النهضة العربية خلال حُكم محمّد علي باشا، الّذي أرسل الكثير من الطلبة المصريين إلى باريس لتعلم الثقافة الأوروبية والأخذ بأسباب النهضة والقوّة. وهي نقطة اِنطلاق الفكر العربي المعاصر مع الطهطاوي ومحمّد عبده، وغيرهما. لكن الاِستشراق لم يكن معرفة بريئة بل هو معرفة محكومة بإرادة الهيمنة والسيطرة وإعادة تشكيل المجتمعات الإسلامية حسب المنظور الغربي وتصوراته الكُبرى. ويمكن القول إنّ المفكرين العرب الأوائل كانوا يشعرون بذلك وقد تفطنوا لتلك الإرادة، يُمكننا قراءة ذلك مثلاً في المناظرة الشهيرة التي جرت بين محمّد عبده وأرنست رينان حول اِبن رشد والرشدية.وفي نفس الوقت وجد الفكر العربي نفسه في حاجة دائمة إلى مناهج الاِستشراق في تشكيل سرديته الخاصة، وهو ما أدى إلى ظهور علاقة ملتبسة ومتململة بينهما، علاقة تطبعها الحاجة والشكّ معًا، هذا ما دفع بعض المفكرين إلى تبنّي السردية التراثية على علاّتها.
كما أنّ ظهور السلفيات في الثقافة العربية المُعاصرة أدى إلى إعادة تنشيط السردية التراثية وتضخيمها، ولا يزال الفكر العربي لحد الآن ساحة صراع بين السردية التراثية والسردية الكولنيالية. والفكر الآن مطالب بتنمية حسّ نقدي رفيع ضدّ السرديتين. خاصةً وقد أصبح كلاهما يتغذى على خصومة الآخر.
مشكلة السرديات السائدة تقع في الاِلتباس بين الفنّي والتاريخي وبين الأدبي والفلسفي
الكِتَاب يُحاول أن يطرح السّرد بمفهومه الفلسفي وليس بمفهومه الأدبي الفني، أي من زاوية فلسفية وليس أدبية. لماذا هذا الاِتكاء على الطرح الفلسفي لمقاربة سرديات مزدحمة بالأدب والتراث الأدبي؟ ما الفرق بين المفهوم الفلسفي والمفهوم الأدبي في عالم السرديّات؟
إسماعيل مهنانة: مشكلة السرديات السائدة كلها تقع في هذا الاِلتباس بين الفنّي والتاريخي، بين الأدبي والفلسفي. فالسرديات الكُبرى تشكّلت في البدء بوصفها أدبًا وفنّا أي (تخييل حكائي) يهدف إلى المتعة الفنية، لكن ذلك التخيل تحوّل مع الوقت إلى حقائق تاريخية راسخة يصعب الشكّ فيها. ومن هنا تأتي حاجة الفكر المُعاصر إلى الأدوات النقدية والرؤية الفلسفية التي تُعيد ما هو أدبي إلى الفن، وما هو تاريخي إلى عِلم التاريخ.
لقد قام هذا الفصل والتمييز بين الفني والتاريخي كشرط للحداثة الغربية، هذا ما قام به مفكرو النهضة الأوربية في إيطاليا في القرن الخامس عشر والسادس عشر: إعادة مُساءلة التاريخ من حيث هو عمل فنّي، وإعادة تخييله تخييلاً فنّيًا وأدبيًا.
وهذه مهمّة حاسمة تنتظر الفكر العربي حاليًا، أي إعادة تخييل السرديات التاريخية وتأويلها تأويلاً فنيًا وليس بوصفها حقائق التاريخ. إنّ السرديات تحمل في طيّاتها العنف حين نأخذها كحقائق راسخة أمّا تخييلها فيخفّف من حمولتها السلفية الجدّية ويحولها إلى موضوع متعة أدبية وفنية، وهي مهمّة الأدب والسينما أيضا أي إعادة كتابة قصص التراث العربي كتخييل أدبي بعيداً عن تشنّج الحقيقة التاريخية. وهو معنى الحداثة هنا.
لا توجد عقلانية خالية من بعض الاِعتقاد والإيمان
كيف ترى العلاقة بين السّرد والعقل. خاصّة في المحيط والسيّاق العربي؟ وهل نقد العقل السّردي نوع من المعالجة الضرورية؟
إسماعيل مهنانة: العقل مفهوم مجرّد، لكن العقلانيات التي سادت في تاريخ الشعوب والثقافات كانت دومًا تستند إلى سرديّات. أي إلى الإيمان ببعض المبادئ والأصول. فالسرد الإيمان والاِعتقاد، ولا توجد عقلانية خالية من بعض الاِعتقاد والإيمان. فالعقلانية الغربية الحديثة مثلاً تقوم على الثقة في الملَكات الإنسانية كالتفكير والوعي والإرادة والحواس، وهي مفاهيم ميتافيزيقية تحتاج إلى إيمان مسبق وليست مبرهنات علمية. وكذلك الليبرالية والديمقراطية الحديثة تقوم على الإيمان المُسبق بملكة الاِختيار الحرّ التي يتمتع بها الإنسان. وكلها مبادئ ميتافيزيقية، لجأ مؤسسو الحداثة الغربية إلى دعمها بسرديات وأساطير، مثلاً أساطير «العقد الاِجتماعية» وحالة الطبيعة البشرية الأولى، التي تكلّم عنها توماس هوبر، وروسو، وجون لوك، وحتّى ماركس (حالة المشاعية الأولى).
أمّا الثقافة العربية، فهي كلّها تسبح في السرديات والحكايات والأساطير، والعقل العربي، إذا صحّت العبارة، هو عقل سردي باِمتياز، أي أنّه عقل يستمّد كلّ وظائفه الحالية، وممارساته وتصوّراته الكُبرى من السرديات والأساطير والإيمان المُسبق بالحكايات التي يعتقد أنّها حدثت تاريخيًا.
إنّ اللحظة المؤسسة لكلّ الثقافة العربية هي بالتأكيد لحظة ظهور الإسلام، ولقد خضعت تلك اللحظة المؤسِّسة إلى الكثير من المُزايدات السردية والتأويلية طوال كلّ العصور الإسلامية اللاحقة. فكلّ عصر يأتي بروايته حولها، اِنطلاقًا من واقعه السياسي والمذهبي والإمبراطوري السّائد، حتّى ضاعت الحقيقية التاريخية تحت طبقات التأويل والسّرد.
لقد وجد الفكر العربي المُعاصر نفسه أمام كلّ تلك الطبقات في مهمة شبه مستحيلة، خاصّة وأنّه فكر غير مسلّح بأدوات علمية وبحثية نابعة من ثقافته لهذا لجأ إلى أدوات الفكر الغربي والاِستشراق خاصّة. وهو ما أدى إلى ظهور محور صراع آخر، بين السردية التراثية والسردية الإستشراقية حول الثقافة العربية.
ليس صدفة أنّ رواد أطروحات نهاية التاريخ وصدام الحضارات من مفكّري اليمين الذين بشروا بنهاية كلّ السرديات
نظريات كثيرة جاءت بفكرة أو بعبارة أصحّ، زعمت أنّ عصر ما بعد الحداثة سيتّصف بافتقاد الثقة في السرديات الكُبرى، لكن الحاصل أنّ هذه السرديات حاضرة وبشكل كاسح.
إسماعيل مهنانة: كان «جان فرونسوا ليوطار» قد بشّر بنهاية السرديات الكُبرى، في بداية سبعينيات القرن العشرين، ويقصد بها نهاية سرديات العقلانية والتقدم والتنوير والسرديات الشمولية كالشيوعية. وقد اِستمدّ فكرته تلك من ثورة مايو 68. وهي ثورة شبابية وإيروسية (جنسانية) متمرّدة على السرديات الغربية القديمة. لكن التاريخ يتطور تطوراً جدليًا وليس خطّيًا، أي ثمّة دائمًا فعل ورد الفعل، ثورة وثورة مضادة، وهو ما حدث لثورة 1968، حيث جُوبهت بثورة مضادة قادتها القِوى اليمينية في أوربا، واليمين بطبعه يُدافع وينشِّط السرديات السائدة. لهذا يمكن تفسير حضور السرديات الكُبرى حاليًا بصعود القِوى اليمينية أيضا.
ليس صدفة أنّ رواد أطروحات نهاية التاريخ وصدام الحضارات من مفكّري اليمين مثل فرانسيس فوكوياما، وصموييل هيتنغتون. وهؤلاء بشروا بنهاية كلّ السرديات، سوى سردية واحدة هي السردية النيوليبرالية في نسختها الأمريكية. أي أنّ بقاء السرديات الكُبرى مرهون أيضا بالهيمنة والإمبراطورية، وما تُثيره في الشعوب المُهيمن عليها من ردة فعل بإعادة تنشيط سردياتها الخاصة، كما يحدث حاليًا في العالم الإسلامي، فاتشار السردية السلفية يمكن تفسيره كرد فعل على هيمنة السردية الأمريكية الحاملة للواء العولمة.
كلّ السرديات تقوم على رواية معينة للتاريخ، ليست بالضرورة هي الصحيحة ولكن هي السائدة
ماذا عن السرديات التاريخية ونقدها؟
إسماعيل مهنانة: النزاع كلّه يقع داخل عِلم التاريخ، وأدواته. فكلّ السرديات تقوم على رواية معينة للتاريخ، ليست بالضرورة هي الصحيحة. ولكن هي السائدة. المشكلة أنّ التاريخ كعِلم يتطوّر في الغرب بسرعة كبيرة، عكس ما يقع في الجامعات العربية والإسلامية فقد أصبح مجالاً لاِنتشار الأكاذيب والإيديولوجيات الوطنية والسلفية وغيرها.
يتجه عِلم التاريخ حاليًا إلى الاِعتماد أكثر على المعطيات الأركيولوجية والأنثربولوجية، وهي تخصصات لا تزال تعاني من الشيطنة والريبة في العالم الإسلامي. لنذكر مثلاً أنّ عِلم الآثار لم يبدأ تدريسه وتطوير البحوث فيه في المملكة العربية السعودية سوى قبل عشر سنوات، وقد حقّق اِكتشافات باهرة. أمّا بناء الحقيقة التاريخية حول الإسلام المُبكر اِنطلاقًا من معطيات أركيولوجية فلا يزال فكرة مخيفة بالنسبة للسردية التراثية المهيمنة. ويصعب تحمّل نتائجها من قِبل المجتمعات فالأركيولوجيا قد تهدم كلّ التمثّلات السائدة حول مرحلة معينة بضربة واحدة.
هناك عائق إبستمولوجي آخر، وهو أنّ كتابة التاريخ في الدول العربية والإسلامية خاضعة بشكل مُطلق لهيمنة الدولة والأنظمة السياسية الحاكمة وهو ما يجعل الحقيقة التاريخية صعبة المنال أو الظهور والاِنتشار.
ماذا بعد «نقد العقل السردي»، هل من نقد لعقل آخر، ومن مشروع فلسفي آخر؟
إسماعيل مهنانة: نعم. لقد كان «نقد العقل السردي» اِمتداداً للأسئلة التي بقيت عالقة من كِتاب «العرب ومسألة الاِختلاف» وكذلك المشروع الّذي أشتغل عليه حاليًا هو الأسئلة العالقة من «نقد العقل السردي». أي مسألة الجماليات كما أشرت إليها هنا، وعلاقة ذلك بالصورة والتخييل الفني.

الرجوع إلى الأعلى