لست كاتبة موضة وقطاريي يمشي على مهل
ساخطة على ما يعترض المشهد الأدبي الجزائري، راضية عن تجربتها الطويلة لكن البطيئة، غارقة في أسئلة لا تطرح...
سلوى لميس مسعي..
واحدة من الأسماء الفاعلة في المشهد. من جيل اشكالي، هو جيل أكتوبر 88. شهد مرحلة حاسمة من تاريخ الجزائر الحديث، عايش تحولات كبرى ضمن واقع سياسي واجتماعي بصمت الانسان الجزائري، وكانت مسعي وأدباء هذه المرحلة أبطالا لها. شكلوا الحساسية الجديدة في الأدب، حيث نقلوه من الرقابة والايديولوجيا إلى الانسان، والحياة الرحبة.
تتحدث مسعي في هذا الحوار حول «سراديب» ديوانها الجديد، وعن واقع هو الآخر جديد بفعل وسائط ميديا مستحدثة قلبت يومياتنا، وقلبت موازين الأدب.
*  حاورها: محمد رابحي

لماذا سراديب؟
يعلق»سراديب» من سنوات في عنقي كما يعلق سجين في مقصلة، وما طبعه على شكل كتاب إلا محاولة لإشراك الآخرين في وقائع سيرة لهيكل الروح في رحلته المضنية إلى نور الفكرة.
إنه وثيقتي الهاربة من عتمة الحياة وقلق الوجود إلى الوجود نفسه، وأنا مطمئنة أن سراديب اكتشف فجيعة العالم وهو في عتمته الأولى، وما خروجه إلى هذا النور سوى كشف لتبصراته داخل كهفه، سوف يروي لنا حكاية عريه وبرده،جوعه وعطشه لمعرفة الحقيقة أو ربما لتعرفه الحقيقة، ففي طريقنا إليه سنصادف البحر المشتاق للنهر،الحشائش التي لا تعرف جذورها،البجع الوحيد في رمله، الاحراش المنسية،وسوف يصادفنا زجاج وجوهنا المتكسرة.
كيف ترين ديوان «سراديب» في مقابل ديوانك السابق «مسروق من النعاس»؟
إنهما كتوأم أخطأ التوقيت في ولادتهما، الخطة أن أقطر الشعر على مسمع القارئ، كما أقطر العطر على جسدي.. يلتقي مسروق من النعاس بسراديب في المضمون بوصف الأول يوجز تجربة حياة ورحلة سؤال عن الذات، فيما يمعن سراديب في الإجابة وإحاطة مسروق من النعاس بيقين المعنى.
«سراديب» قاموس رؤيا  ووثيقتي عن الحياة
إنهما وجهان لقصة واحدة حيث يستعين الكتاب الثاني بالنهاية ليبدأ من جديد أو بالأحرى ليكمل باقي الرحلة. ربما الاختلاف يترصد اللغة في سراديب لأنه في الأصل يمهد لنص ثالث سردي، سيكون خاتمة تجربة شعرية في الفصيح. حيث سأنتقل بعدها إلى تجارب أدبية بقوالب مختلفة.
اخترت فصل التجربتين وطبع كل واحدة منهما على حدة لخلق متعة الكتابة، ومتعة تلمسها والتعرف عليها عن قرب، فمن حق القارئ أن يتذوق طعم كتابين أحدهما كتب ليلا والثاني كتب نهارا.
يمكنني القول إن التجربتين تختلفان شكلا وتقنية، لكنهما تلتقيان في خط التعبير عن هاجس واحد وهو الذات الكاتبة، ولا يهمني في هذا السياق حجم الكتاب بقدر ما تهمني القيمة الفنية التي يوفرها كمنجز، يمكن التعامل معه كطاقة إيجابية لفهم طبيعة العلاقة بين الإنسان وما يحيط به من تأثيرات.
كأن الديوان قاموس يقدم معان جديدة للعالم. هل تعتقدين أننا أخطأنا في تعريف العالم أو شوهنا هذا التعريف؟
لا يمكن فصل الشعر عن الوجدان، أو تقليص مهامه من حيث كان ولا يزال لغة التعبير الأولى عن هموم الإنسان. وترجمانه لهموم أوطانه، رغم تراجع مهامه كمؤثر فعال أمام أنواع أدبية أخرى في مقدمتها الرواية.وبالتالي فإن الشعر كحالة كامنة من شأنها معاصرة القضايا والحياة ولو على مستوى شخصي. من خلال ترجمة هذه التعابير وتطويرها وجعلها رؤية جديدة للعالم، تغييرا للمفاهيم الجاهزة، لذلك أظنك قد أصبت في قولك إن سراديب قاموس رؤيا أكثر منه ترجمة لغوية جاهزة.
ماذا يعني لك الشعر، في وسط أدبي (بل عالم معاصر) لا ينتصر للشعر؟
وما المضامين الأخرى سوى الشعر بتقنيات وعناصر لتركيبه في شكل رواية أو قصة؟!
من حقي الانتصار للشعر. لأنه الأصل. ولأنه حبيب اللغة، من حقي تقديمه في طبق ملائم للقراءة،فأنا أظن أنني أتعامل ككاتبة مع قراء أذكياء بالأساس، إنهم ذوو حس وادراك عاليين، لأن أرواحهم شغوفة للمعرفة وبالذات للاقتراب منها عن طريق ايجاد أغراض أدبية شبيهة أو على الأقل مناسبة لترجمة أفكار أو هواجس معينة.
خطأ كثير من الكتاب هو الاستعجال والتماهي في تقليد المشاهير، أنا عكس هؤلاء قطاري يجري على مهل، لأنني لست كاتبة موضة تتنصل من ثوبها الإنساني لترتدي جبة على مقاس الآخرين. ثم إن همي ليس حشد أعداد معتبرة من القراء إنما نوع خاص من متلقين يجيدون قراءة ما أكتب، ويعتبرونني شبيهة بهم، أنا بحاجة إليهم ربما أكثر من حاجتهم إلي، رغم أن كتابي الأول حقق صدى حسنا في الأوساط الأدبية، إلا أنني أكون سعيدة جدا لحظة الكتابة وسرد وقائع من يومياتي وتجاربي في نسق شعري، وحتى لا أتعارض مع كتاب الرواية، خاصة لأنها في الواجهة عالميا، إلا أنني اعتبر الشعر نفسه رواية بلغة أخرى وتقنيات أخرى، وما فوز الشعر بنوبل السنة الماضية إلا إعادة اعتبار لشعرية الإنسان التي فقدها في خضم الأحداث الدموية التي تغمر العالم، وركوبه موجة التكنولوجيا الحديثة،إن نوبل قدمت رسالة أخلاقية للعودة إلى شعرية النص الأدبي حتى لو كان رواية.

هذا عن الكتابة في ذاتها، فماذا عن مستوى الكتابة اليوم، وكنت قد أدرجت على صفحتك الفيسبوكية منشورات عديدة ساخطة بهذا الخصوص؟  
الكتابة مشروع تاريخي ضد النسيان. هناك صلة وطيدة بين الكتابة والأخلاق. فتعاملنا معها من الضروري أن يكون بالمستوى الذي تستحقه،لأن ذلك ما سوف يبين مستوانا نحن بالذات.
إن كانت الكتابة تمنحك فرصة أن تكون مميزا عن غيرك، فلماذا لا نحترم هذه الهبة، لماذا نتعدى على هذه القيمة والمرتبة والمهمة؟
إن الكتابة بمثابة جينة تتطابق مع الحمض النووي للإنسان،إنها شهادة على خارطة العقل، وطريق الإدراك.ولا أشك أن لحظة الكتابة هي ذلك المفاعلالذي يصهر الشخصية التي يتمتع بها الكاتب مع ثقافته ولغته ومعارفه ومخياله. أغلب الكتاب يسجلون البصمة الخطأ في مسيرتهم، فإما يقلدون كاتبا أخر، أو يفرغون جيوبهم الأنفية بما اشتمته من بلاغات الورق،أي أنهم يمارسون لعبة التفريغ المسلية: أعرف من يكتب يوميا مجموعة من النصوص، ويبعثرها على القراء في شبكات التواصل، دون انشغال بسلامة اللغة أو توليد المعنى. همهم الوحيد تكديس الجمل. هؤلاء يصلحون باعة خضرلأنها الوحيدة التي تملأ البطون.
أنتصرُ للشعر لأنّه الأصلُ ولأنّه حبيبُ اللّغة
أما عن سخطي واحتجاجي المتواصل على صفحتي الفيسبوكية بخصوص الشأن الإبداعي، و سفاحي المعنى والجمال فلا أشك أنه في غير محله، أنا امرأة أكتب بلغة عقلي، ولا أمتهن الكتابة كوسيلة لتأنيثي، إنما أغرد خارج هذا السرب ذاهبة إلى أبعد من ذلك.إلى حدود اللغة، هاربة من الثرثرة وتحنيط الحقيقة.. سوف يقصف النقد يوما آلاف الكتب المكررة لنسخة واحدة هي الرداءة.
هناك رأي سائد وغير معلن يرى بأن الكاتبات النساء أكثـر من يسئن اليوم للأدب عندنا؟
في نفس السياق هناك أيضا كتاب رجال يسيئون للأدب. من خلال كتابات تخلف في نفسك الكدر عندما تقرأها. سيما عندما تكون أنت كقارئ على يقين بأنه أساء بالدرجة الأولى لنفسه. لأنه إن صح التعبير عجز عن الموازنة بين ما يشعر وبين ما يعبر. وهذا نفسه خلل أخلاقي، يستوجب الاعتذار. فبدل أن يقدم أدبا يترجم قيمة جمالية أو معرفية ذات أسلوب ورؤى ورسائل جديدة.تجده قد عطل آلة الزمن وهي الكتابة، أي أنه جرد الأدب من ثيابه، وأقحمنا في أجواء خالية من المتعة والفائدة.

 

مايحدث أن هذه العملية غير الأخلاقية للأسف تتكرر وتشيع في أوساطنا الأدبية، سواء من الرجال أو النساء، ويتم التكريس لها من خلال المتاجرة بها وتبريكها وشرعنتها، حتى باتت الدخيلات على الأدب أكثر حضورا من الكاتبات الحقيقيات، يمكنني الجزم أن الأدب الجزائري صار ضحية، وهو بحاجة لمحاكمة سريعة تنقذ ماتبقى من عمره وتحمي حريته كمنجز انساني وحقه في أن يكون أدبا محترما.
وماذا عن النقد؟
طبعا غياب النقد أسهم بشكل كبير في ترسيخ ثقافة استسهال الكتابة، وحل محله نقد منحرف اجرامي، يعمل على التشجيع والانتصار للرداءة والضحالة خاصة في «الأوساط النسوية» وبات منذ سنوات تقليدا ما فتئ يتجدر ويترسخ إلى درجة قد تصعب مستقبلا مواجهته إلا من خلال حرب إبادة.  
استسهال الكتابة نتيجة لغياب النقد وسيادة نقد إجرامي مُنحرف يشجّع الرداءة
يبدو المشهد مهدود الأركان، يصعب ترميمه؟
الحلول مكتملة وجاهزة لكنها تصورات ونظريات في أدراج مغلقة. المشهد الأدبي هو صورة عن المشهد الثقافي ككل الذي تجاوز حالة الخلل إلى حالة الخراب الشامل. فالأمر لا يقتصر على الاديب. بل يشمل الكل تشكيليين موسيقيين سينمائيين.  بمعنى آخر هو الانسان الجزائري المتردي.. المنهزم في داخله. مهزوم بالسياسة والاقتصاد. ولا سبيل لترميم روحه إلا بالثقافة. يجب محاصرة الجزائري بالشعر واللوحة والرقص.. الثقافة مرآة الإنسان المتفانية الخدومة. ننظر إليها لنرى خريطة سحرية نتتبع رموزها إلى عرش الأنا.
م/ر

الرجوع إلى الأعلى