كثيرا ما نقرأ هنا وهناك أنّ الأدب الجزائري المكتوب باللّغة الفرنسية أكثـر حضوراً ورواجًا من ناحية المقروئية وإقبال القُرّاء، ما يدفع في كلّ مرة للتساؤل عن مكانة الأدب الجزائري المكتوب باللّغة العربية لدى القارئ وفي خارطة المقروئية. فهل حقًا الأدب الجزائري المكتوب باللّغة الفرنسية أكثـر إقبالاً من طرف القرّاء وأكثـر رواجًا ورسوخاً من ناحية المقروئية؟، أم أنّ الأدب المكتوب باللّغة العربية بدأ يحظى بإقبال القُرّاء من مختلف الشرائح وبشكل كبير. وهل يمكن القول أنّ الجوائز العربية أعطت حضوراً لافتًا للنص الأدبي الجزائري باللّغة العربية وساهمت في خلق قرّاء أكبر وأكثـر؟ وهل يمكن الجزم من جهة أخرى أنّها قد ساهمت في أن تكون لهذا الأدب مكانة لدى القارئ الجزائري وحتّى العربي، وأنّها –أي الجوائز- ساهمت في رواجه وفي توسيع رقعة قُراء هذا الأدب؟ أو أنّها دليل على سعة المقروئية؟
إستطلاع/ نــوّارة لحــرش
حول هذا الشأن «مكانة الأدب الجزائري المكتوب باللّغة العربية لدى القارئ»، كان ملف هذا العدد من «كراس الثقافة» مع مجموعة من الكُتّاب والدكاترة النقاد، من مختلف الجامعات الجزائرية.

مخلوف عامر
القول بأنّ الأدب المكتوب بالفرنسية أكثر رواجاً حكم اعتباطي
قد نقرأ أنَّ الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية أوسع رواجاً، أو أنّ الذين تَكوَّنوا بالفرنسية يقرؤون أكثر. لكنَّه حُكْمٌ اعتباطي في غياب سبْر للآراء مؤسَّس على معايير ذات مصداقية. لذلك يظل مجرَّد اِنطباع ذاتي. وحتّى حين نقصد قراءة الأدب تحديداً، فَعَن أيّ جنس أدبي نتحدَّث ونحن في «موْسم الهجرة» إلى الرواية؟!. للأسف أنّ معظم المتعلِّمين اليوم وفي جميع الأطوار لا يُتْقنون لا العربية ولا الفرنسية.
ربّما كان الجيل السابق من الذين درسوا الفرنسية قد نشأت لديهم علاقة حميمة بالكِتاب وأنَّ طبيعة النص المكتوب بهذه اللّغة كانت تُوفِّر لهم فسحة من الاِنفتاح لا تعوقها الطابوهات. لكن بدْءاً من سبعينيات القرن الماضي لم تَبْقَ العربية مُحاصَرة كما عانتْ زمن الاِستعمار، بل شهدنا موجة جديدة ممَّن تعلَّقوا بالعربية وسارعوا إلى الكتابة بها شِعراً ونثراً. وأنجبت هذه الفترة أسماء مرموقة نراها اليوم أكثر حضوراً بكتاباتها المميَّزة.
لا شكَّ أنَّ حماس الشباب يومئذ كان مشدوداً إلى الثورة التحريرية من جهة، وحريصاً على ثورة اِجتماعية لاِستكمال المشوار من جهة أخرى. وبالرغم مِمَّا طبع الكتابة الأدبية من توجُّه شَحَنَ الكتابة ببُعْدٍ إيديولوجي/سياسي تصدَّر الواجهة في العمل الأدبي، إلاّ أنَّه شكَّلَ في الوقت ذاته حافزاً كبيراً على القراءة بالعربية. وما كان ذلك ليتحقَّق لولا وجود نسبة تجاوزت ما يُقرأ بالفرنسية.
لعلَّ المنظومة التربوية التي تبنَّتْ العربية قد لعبت دوْراً لا يُنكر ولو أنَّ اِحتفاءها بالنص الأدبي لم يكن كافياً فضلاً عن طريقة التدريس التقليدية المُملَّة. لذلك فإنَّ ظهور جيل جديد من المهتمِّين بالأدب الجزائري المكتوب بالعربية مرتبطٌ أساساً بوجود شريحة واسعة من القرَّاء بهذه اللّغة، والذين لم يكتفوا بِمَا تلقَّوْه على مقاعد الدراسة، بل تعدَّوا المناهج الرسمية ليُصبحوا أشبه بعصاميين وسَّعوا دائرة اِطلاعهم واستفادوا من زحمة النشاطات الثقافية التي كانت منتظمة ومتنوِّعة.
يوجد عددٌ كبيرٌ ممَّن يكتبون الشِّعر أو النصوص السردية بأنواعها، ومنهم مَنْ يكتبون في النقد. فمَن يُتابع الحركة الأدبية في بلادنا يدرك أنَّ عدد الكُتَّاب والقُرّاء بالعربية في تزايد دائم، عِلْماً بأنَّ الأدب بطبيعته نشاطٌ نُخْبوي.
فأمَّا الجوائز التي نالها جزائريون داخل الوطن وخارجه، فقد لا تدلُّ على سعة المقروئية بقدر ما هي تثمين لما بلغتْه بعض الأعمال من مستوى إبداعي أو نقدي جدير بالتكريم.
يبقى أنَّ المقروئية لها صلة بالوضع العام للمجتمع، وخاصةً بمكانة الثقافة والمثقَّف. ففي مجتمع تحكمه العقلية الريعية والربح السريع وتتفشَّى فيه الرداءة، يميل المواطن عادةً إلى الاِستخفاف بكلّ ما له علاقة بالعِلم والمعرفة. وزاد من تراجع الإقبال على الكِتاب هذا التطوُّر التكنولوجي المُدْهش، ما جعل الفرد -بغضِّ النظر عن لغته- يكتفي بأنْ يستلقي ليسمع ويشاهد ما يروق له بلا عناء.. فأمَّا إذا أقبل على الكتابة عبر وسائل التواصل الاِجتماعي، فإنَّها تأتي مختزلة وغالباً ما تكون خليطاً من العربية والفرنسية أو العامية. وأمام الاِنجذاب المحموم نحو هذا العالَم الساحر، فإنَّ الكاتب مُلزمٌ بأن يُحقِّق لنصِّه قدْراً من المتعة مقبولاً، لأنّ القارئ الّذي لا يشوِّقه النص منذ بداياته فإنَّه -حتْماً- سيتركه.
وهي ظاهرة لا تخصُّ الجزائر وحدها. فبعض الإحصاءات التي نشرتها الأمم المتحدة تذهب إلى أنَّ العربي لا يقرأ سوى ربع صفحة سنوياً. وحسب مؤسسة الفكر العربي، فإنّ معدل القراءة لديْه هو ستّ دقائق في العام، بينما معدَّل القراءة لدى الأوربي هو 200 ساعة سنوياً.
ثمَّ، إنَّ توسيع دائرة القراءة مرهونٌ بمشروع مجتمعي حضاري مُحدَّد المعالم، لا يُصْلح العملية التعليمية/ التعلُّمية فقط، وإنّما يُعيد للثقافة مكانتها اللائقة، وحيث تلعب الأسرة دوراً ريادياً في تنشئة الأطفال على حبِّ القراءة.

عبد الحفيظ بن جلولي
صراع الثنائيّة اللّغويّة تجاوزه الزّمن
يُمثل الإشكال اللغوي وخصوصًا في البلاد التي خضعت للاِستعمار عقدة تُلاحق الوعي بالشّخصية، إذ كلّما تعلّق الأمر باللّغة، فإنّ المسألة تتحوّل إلى عنصر مرتبط بالهويّة، وفي جانب آخر الأفضلية، وبالتّالي، تصبح «الوطنية» بكلّ أبعادها محصورة في هذا المضيق، مِمّا يخلق كافّة المآزق الثّقافية والصّراعات الهامشية، مع ذلك لا يمكن التغافل عن الصّراع اللغوي عندنا، وما يثيره من حساسيات لدى بعض الفصائل الثّقافية.
من أكبر المعوقات للمسار الأدبي ما يمكن تسميته بالميز العنصري اللغوي، إذ يمكن أن لا يكون له أي أثر في الواقع إلاّ من حيث ما يركب بعض المثقّفين من ذهنيات تفاضلية، أو أسْبَقَوِيَة (من السّبق)، فمثلاً أقرأ في مذكرات أحمد توفيق المدني رحمه الله «حياة كفاح»، وهو العروبي القح، إنّه تعلّم الفرنسية في السّجن وكان يترجم بعض المواضيع، وهو في ذلك لا يجد هذا الميز بين اللغتين، ويذكر أنّ بعض من كانوا يُنادون بالتّجنيس والفرنسة في العهد الاِستعماري أصبحوا في توصياتهم يُؤكّدون على ترسيم اللّغة العربية، إذا يبدو لي تاريخيًا أنّ الأمر فيه شبهة اِستعمارية، وما يمكن قوله، إنّ للأدب المكتوب باللّغة الفرنسية قرّاءه، وللأدب المكتوب باللّغة العربية قرّاءه، كلا الطرفين الفرنكفونيين والمعرّبين يسعون إلى ترجمة أدبهم، وهذا من حقّهم.
عندما نقول: «المُلاحظ أنّه في الأعوام الأخيرة يبدو أنّ الأدب المكتوب باللّغة العربية بدأ يحظى بإقبال القُرّاء من مختلف الشّرائح». أوّل سؤال يتبادر إلى الذّهن وكيف كانوا يقرأون ما كُتب بالعربية على قلّته مثلاً آنذاك، كتب أدب حوحو بالعربية، والأكيد أنّه كان يُقرأ، والأهم من ذلك في هذا الحُكم هو لابدّ من تحديد تاريخ بداية الاِهتمام بالأدب المكتوب باللّغة العربية، فالسّبعينيات كانت المرحلة الأكثر اِزدهاراً للقراءة باللّغة العربية، وإلاّ ما كان هناك أدباء سبعينيون، والثمانينيات شهدت الجامعة أكبر كم من الشّعراء العميقين والحداثيين ولعلّني أذكر فقط على سبيل المثال الراحل عبد الله بوخالفة، وساهم المد العروبي المتبقي منذ الستينيات في تمتين المقروئية بالعربية، والاِهتمام بالأدب المكتوب بالعربية، بعيداً عن «المقروئية» على العموم والتي تلحظ فعلاً بعض الفتور.
لا يمكن أن نعزو الاِهتمام بالأدب المكتوب بالعربية إلى الجوائز، والتي فقط لاحظنا اِنتشارها في الآونة الأخيرة، ولكن كانت على مرّ الفترات، السّبعينيات والثمانينيات والتّسعينيات، أجيال لم يكن همّها الجائزة، مع أنّ ذلك يمثل حقّا لا يمكن منعهم من الحلم به، ولكن كان هناك اِهتمام بالأدب في جوهره، وهكذا عرفنا كيف ظهر روائيون أمثال محمّد مفلاح، واسيني لعرج صاحب «نوار اللوز»، لحبيب السايح صاحب «زمن النّمرود»، أمين الزاوي ومحمّد ساري وياسمينة صالح وغيرهم..
إنّ الجوائز بِمَا يدور حولها الآن من شبهات، ومن تبعيتها للمموّل وتوجهاته السّياسية، وما يكتنف طبيعتها من غموض، كلّ هذا لا يجعلها معياراً لكي نقيّم بواسطتها مقدار مقروئية الأدب العربي من عدمها، أو كونها دافعًا لقراءته. واقعًا لا يمكن أن نلغي دورها في ذلك، لكنّها لا تصلح أن تكون سقفًا وحيداً لقياس درجة المقروئية، كلّ ما هنالك فقاعات متابعة لمّا يعلن عن اِسم فائزٍ عربي ثمّ لا تلبث أن تنطفئ جذوة العملية، لأنّنا لم نؤسّس لفعل القراءة تقاليد تجعل له قواعد تحكم مساره وطبيعته.
ليس من باب المفاضلة بين أدبين، عربي وفرنكفوني، لكن ربّما تقرير واقع، يمكن أن نقول أنّ عدد الملتقيات الأدبية المعرّبة تفوق مثيلاتها المفرنسة، وهو ما قد يكون عاملاً مُساهمًا في قراءة الأدب المكتوب بالعربية، وأيضا ربّما اِنتشار بعض الأدب المكتوب بالفرنسية يعود إلى تعريبه، سواء ترجمته إلى العربية أو عرضه تلفزيونيًا، كما حدث مع «الحريق» لمحمّد ديب، أيضا في فضاء الواقع نجد الرّوائي الكبير بوجدرة قد تحوّل إلى الكتابة بالعربية ولقي اِنتشاراً واسعًا، ولم يكن ذلك بسبب الجائزة بل لأنّ القارئ المُعرّب بطبيعته مفتوح على تعدّد القراءة وباحث عن آفاق أخرى للرّؤية السردية ومنهم مزدوج اللّغة. ثمّ نجد أنّ من الكُتّاب من يشتغلون على اللغتين، كمحمّد ساري والرّاحل مرزاق بقطاش، وهما معروفان أكثر في المجال العربفوني، ولعلّني أختم بأنّ حصر الخلاف اللغوي في فرنسي/عربي قد تجاوزه الزّمن والظّرف، فاليوم ما نُلاحظه في الجيل الجديد، وبالتالي، في اِهتماماتنا الأدبية هو التوجّه نحو الإبداعية الأنجلوفونية.

عبد القادر رابحي
المشكلة تتعدى الأدب إلى فصام تاريخي
ربّما كان من الواجب العلمي البسيط التدقيق أوّلاً في مصداقية بعض التصورات التي تحوّلت مع الوقت إلى مسلمات ثابتة في المخيال الثقافي الجزائري يعود إليها المثقفون في كلّ مرّة يرون فيها لزوم اِتخاذها مطية لتثبيت المسلمات في الحقل الثقافي الهش، أو تقية للتغطية على حقيقة مُناقِضة لهذه المسلمات التي تكاد تكون مُستهلكة لفرط الاِستعمال لولا أنّ إشكالية اللّغة كما تُمارسُ في الواقع الألسني الجزائري تعطيها في كلّ مناسبة حيويةً للظهور كمسلمات لا يمكن تمحيصها والتحقّق من صدقيتها بدقة. ذلك أنّ ربط إشكالية الأدب الجزائري في عمومه باللّغة كما هي في الواقع، ثم التفصيل فيه من خلال تقسيمه إلى أدب مكتوب بالعربية وآخر مكتوب بالفرنسية، ثمّ تبضيع المحمولات الثقافية لهذين الأدبين وفقًا للمسارات الألسنية للغتين العربية والفرنسية، فيه كثير من التغطية على حقيقة ما يُعانيه الأدب الجزائري من حالة تشظ بِمَا يختزنه تاريخه المجروح من تأوهات ومن كدمات هي كامنة في بواطنه حتّى لتكاد نصوصُه بمختلف أشكالها ولغاتها تستغيث من شدّة ما تتحمله من تهجير لحقيقة محتواه الأصلي أوّلاً، ومن توطين لحقائق خارجة عنه لأنّها لم تكن من صلبه ولا تزال. إذ كيف يمكن أن نتصوّر أدبًا جزائريًا مكتوبا بلغة غير جزائرية؟ وكيف يمكن أن نبني على تصور خاطئ أصلاً مسلمات من ضمنها أنّ هناك أدبين يُكتب أحدهما بلغة عربية ويُكتب الآخر بلغة المستعمر؟ وكيف يمكن لهذه الاِزدواجية الطارئة تاريخيًا وحضاريًا على الجغرافيا البشرية أن تترسخ في المخيال الثقافي أوّلاً مرفودة بترسيخها في الواقع الأدبي على الرغم من تقهقرها التدريجي في الواقع الألسني؟ وكيف يمكن، من ثمّة، أن نبني على هذه المسلّمة حُكمًا بجدارة المقروئية بلغة المستعمر على المقروئية باللّغة العربية؟
ثمّة مشكلة عويصة تعتري الهوية الألسنية للمثقفين والكُتّاب في الجزائر، والتي أنتجت بدورها هوية أدبية متشظية يبدو أن ليس لها مثيلا تقريبًا في كلّ الدول التي تعرضت للاِستعمار من طرف فرنسا. كيف يمكننا تصوّر أنّ الجزائر بلد لا تزال تتعايش فيه لغة الشعب، أي لغة ما قبل المستعمر مع لغة المستعمر الطارئة بصفة حميمية إلى درجة إنتاج أدبين بلغتين مختلفتين؟ وكيف صارت تنتج كلّ واحدة منهما أدبها الخاص بها، ومن ثمّة قُرّاءها الخاصين الذين يُسارعون إلى نصرة لغة أدبائهم الذين يكتبون باللّغة التي يتكلمونها. وهل يبقى لنا، بعد كلّ هذا، إلاّ أن نتبع سُلّم المبيعات للتأكد من أحقية أحدهما على الأخر باِدعاء الأولوية وإنْ بالمبيعات الكبيرة للأقلية الألسنية الساحقة؟ وإذا ما حاولنا أن نُضيف إلى هذه «الفذلكة» حِدة ومبررات سنذهب إلى القول إنّ المشكلة وما فيها تتعدى الطابع الأدبي المكتوب باللّغة إلى تناسي اللغات الأصلية للمجتمع الجزائري، وأنّ ترسيخ لغة المستعمر في الواقع الألسني إنّما يتم على حساب الأغلبية الألسنية المسحوقة أوّلاً، وعلى حساب اللغات الأصلية للمجتمع الجزائري ثانيًا. فكيف يُمكننا أن نتصوّر، والحال هذه، أنّ ثمّة أدباء جزائريين لا يزالون يكتبون أدبًا بلغة المُستعمر وهم من جيل الاِستقلال؟ وكيف تحوّل المُبرر التاريخي للأجيال الأولى من الأدباء الجزائريين الذين عاشوا المستعمر وتعلموا في مدارسه من «غنيمة حرب» بتعبير كاتب ياسين إلى «غربة داخل لغة الآخر» بتعبير مالك حداد؟ هل الكتابة بلغة المُستعمر هي الطريق الوحيدة المُعبدة التي تُمكِن من الوصول إلى عالمية متوهمة أو جوائزية يصبح بموجبها حجمُ المبيعات دليلاً على عالمية راسخة وعلى تكريس أبديّ في بونتيون الثقافة العالمية؟
ربّما عكست هذه الإشكالية، بِما تحمله وتتحمله من أثقال حضارية وتبعات إيديولوجية، نوعًا من الفصام التاريخي الّذي يسكن حقيقة الواقع الألسني للأدباء الجزائريين بعيداً عن الموضوعات التي بإمكانها ألا تعكس تمامًا الواقع الجزائري بِمَا تطرحه من قضايا عالمية كما يحدث الآن مع كُتّاب جزائريين عديدين؟ كيف يمكن للاعب كرة قدم مُتسرب مدرسيًا لا يتجاوز مستواه البكالوريا في أحسن الأحوال أن يصل إلى تعلم لغة الفريق الّذي تحوّل للعب له في سنتين أو ثلاث على الأكثر، بينما يبقى المُثقف الجزائري المُتنور العارف العالم الّذي لم يغادر موطنه الأصلي وهو يرفع حجة عدم قدرته على تعلم لغته كسبب للإصرار على الكتابة بلغة أخرى غير لغته؟ هل هذا معقول ومنطقي؟ ربّما كان من الواجب البحث عن بعض شذرات للإجابة عن هذه الأسئلة في الدوافع التي جعلت كاتبًا كبيرا كرشيد بوجدرة يتحوّل فجأةً، وفي لحظة وعي جديرة بالتحليل والتأمل، إلى الكتابة بالعربية، والبحث عنها كذلك في المبررات التي جعلت كاتبًا كمحمّد مولسهول يُبرر اِختياره للكتابة باللّغة الفرنسية بسبب نفوره من مُعلم اللّغة العربية. ربّما يتضح لنا من هذا لماذا يُحقّق ما يُسمى بالأدب الجزائري المكتوب بالعربية نجاحات في ما تُحيل إليه لغته من مجال حضاري لا يتعدّاه، ولماذا يُحقّق ما يُسمى بالأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية نجاحات في ما تُحيل إليه لغته من مجال حضاري لا يتعدّاه!

سفيان زدادقة
تاريخيًا الأدب المكتوب بالفرنسية أكثر رسوخًا في عالم المقروئية والنشر
يعد من الناحية التاريخية الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية أكثر رسوخًا في عالم المقروئية والنشر، لسبب واضح وبسيط: اِرتباطه بلغة أوروبية حديثة وكولونيالية واسعة الاِنتشار ولها ثقل ثقافي وحضاري مهيمن، على الأقل في القرنين الـــ19و20، وكان من الطبيعي للكاتب الجزائري الّذي يستعمل الفرنسية أن ينخرط بسهولة في هذه المنظومة المتكاملة المحكمة من إعداد النص وتصحيحه وضبطه لغويًا إلى طباعته بشكل اِحترافي إلى توزيعه جيداً إلى الترويج له عبر الصحافة إلى نقده وتقييمه.. بينما الكاتب الجزائري بالعربية لم يكن يملك الأدوات الثقافية والاِقتصادية ولا الشبكات (ولا حتّى القارئ) التي تُمكنه من تحويل ما يكتب إلى بضاعة قابلة للاِستهلاك واسع النطاق، ولم تبدأ هذه الأدوات في التوفر نسبيًا إلاّ مع دولة الاِستقلال وظهور مطابع الدولة، لكن مع نسبة أمية مرتفعة، وغياب تقاليد فنية وتقنية راسخة في عالم النشر بالعربية، وضعف شبكات التوزيع، وانعدام الإشهار للكتاب، وضآلة ما يُخصص للفعل الثقافي من مساحة في الصحافة، كلها عوامل جعلت المنشور بالفرنسية يتفوق بمراحل على المنشور بالعربية.
حاليًا وعلى الرغم من التطور الملحوظ في صناعة النشر وطنيًا وعربيًا، إلاّ أنّنا مازلنا نعاني من التخلف الشديد، وفوضى النشر، والاِنتهازية، وغياب الشبكات الداعمة، وضُعف التقاليد الفنية (باِستثناء نسبي لمصر ولبنان)، ولا يمكن لأي كاتب عربي مهما كان اِسمه وشهرته أن يدعي أنّه يعيش على ما يكتب ماديًا، وأن يُوفر له ناشره المال الكافي باِنتظام، بعكس ما هو حاصل في المجتمعات الأخرى حتّى غير الأوروبية، حيث الكاتب جزء أساسي من صناعة ثقيلة ميزانيتها بالمليارات، فالقرّاء بالعربية لا يتمتعون بالجدوى الاِقتصادية، لعددهم الضئيل بالمقارنة مع عدد السكان، وضُعف قدرتهم الشرائية، وعدم تحمسهم لشراء الكِتاب واستهلاك ما تُنتجه هذه الصناعة (باِستثناء الكِتاب المدرسي)، وزاد الطين بلة ظهور الانترنت والكِتاب الاِلكتروني المقرصن. وحتّى الأوساط المُفترض أن ترتفع فيها نسبة المقروئية كالطلبة مثلاً نجد الأمور كارثية، فمعظمهم لا يقرأ كُتب المكتبة المتوفرة مجانًا فكيف نتوقع منه أن يشتري كتابًا؟
أمّا مسألة الجوائز فأعتقد أنّها غير مُؤثرة بشكل فعّال ومستديم في مسألة المقروئية، وهي قيمة ظرفية ولا يجب الاِعتماد عليها كطريقة في تسويق أي كِتاب، ولا تمس إلاّ عددا ضئيلاً مِمَا يُنشر، إضافةً إلى أنّها لا تمثل حدثًا اِجتماعيًا بأي مقياس. بل مجرّد سطرين في الصفحة الثقافية.
الحل للاِرتقاء بالمنشور العربي يجب أن يكون مركبًا: خلق قارئ عبر نشر الثقافة الحقيقية وطريقها الأوّل إصلاح جذري للتعليم، وإعادة الاِعتبار للعمل الثقافي وتثمينه، وإعادة تقييم القيم المجتمعية، وإدراج صناعة النشر بكلّ شبكاتها وملحقاتها ضمن دعم الدولة والخواص على السواء، فالنّاس يتبرعون لبناء مسجد أو تزويج شباب لكنّهم أبداً لم يتعلموا أن يدعموا نشر رواية أو صناعة فيلم أو إنتاج مسرحية وهذا غريب. وكأنّ الثقافة مسؤولية الحكومة وليس المجتمع.
بالنسبة للكاتب، لو تعلق الأمر باِختيار اِقتصادي بحت فأكيد أنّ الكتابة والنشر بالإنجليزية أو بالفرنسية أكثر جدوى وربحية وتحقيقًا للاِنتشار من النشر بالعربية، فبؤس لغة ما لا يعود إليها بل لبؤس أهلها.

منى صريفق
المُتابعات النقدية للنصوص العربية كانت ومازالت قليلة
لكلّ أدب في العالم تراكميته، وخلفيته التاريخية التي تضرب في عُمق تأسيسه. والأدب الجزائري المكتوب باللّغة العربية مثله مثل الآداب التي كانت ومازالت لها خصوصية لا يمكن الحُكم عليها بطريقة سطحية. وإن نحن حاولنا الإجابة عن التساؤل المطروح الّذي يُقارن في عمقه بين الأدب المكتوب باللّغة العربية والآخر المكتوب باللّغة الفرنسية في الجزائر لوجدنا الكثير من النقاط التي يجب مناقشتها لنعرف أي منهما بالفعل يفرض نفسه وتراكميتَه كتجربة قابلة للقراءة والاِحتفاء عبر ما يُعرف بالمحلي والعربي والعالمي.
لننطلق من فكرة تواجد الأدب المكتوب باللّغة الفرنسية في الجزائر قبل المكتوب باللّغة العربية، فله أسبابه الكثيرة إلاّ أنّ أبرزها هو تواجد الكيان الاِستعماري في الجزائر عبر محاولاته جعل الفرد الجزائري ينسى لغته الأم «اللّغة العربية» ليتجه بشكل مباشر نحو اللّغة الفرنسية تلبيةً لمخططات اِستعمارية تضرب في أساسات تكوين هوية الفرد الجزائري، لن يتسع لنا المقام هنا لنقل صورة كاملة ووافية عن الأعمال التي قام بها المُستدمر لإحلال اللّغة الفرنسية بدل العربية في الجزائر إلاّ أنّ تركيزنا سيكون على ذلك الأدب الّذي نتجَ في تلك الآونة وحتّى بعد الاِستقلال ليومنا هذا. أصبح لدينا نحن كبلد مستقل (أدب) يُكتب باللّغة الفرنسية «لغة المستعمر» وهنا تكمن المفارقات التي صنعها الجزائري في أن يكتب بلسان فرنسي ليُعبر عن حال وهوية عربية جزائرية، تُحارب وتحاول بشتى الطُرق التفوق على الآخر الّذي أراد قتل روح الكاتب في شخصية المُثقف الجزائري. وعلى سبيل الذِكر لا الحصر نجد مالك حداد، كاتب ياسين ومحمد ديب وغيرهم. لتأتي الرواية المكتوبة باللّغة العربية في الجزائر لتُكمل تراكمية كتابية ظهرت في المشرق على اِختلاف المعالجة وطريقة البناء طبعًا. إلاّ أنّ فكرة الاِزدواجية في الكتابة بلغتين بقيت بشكل صارخ في العصر الحديث والمعاصر. وهذا ما خلق جواً جديداً خصبًا للبحث والمُناقشة والقراءة الجادة لكلّ ما يتم إنتاجه. هنا تحديداً لم يقتصر الأمر على القراءة الأكاديمية الناقدة لكلّ النصوص وإنّما تدخلت عناصر جديدة كالإعلام الثقافي الفرانكوفوني الذي أراد أن يُشجع الكُتَّاب المعاصرين باللّغة الفرنسية بنشر أعمالهم والاِحتفاء بهم وجعلهم يتصدرون عناوين كُبرى الصحف في فرنسا وكلّ البلدان التي تقرأ بهذه اللّغة. في مقابل حالة من السبات التي يُقابل بها الكاتب باللّغة العربية. لن ينكر أي أحد في العالم حقيقة مدى صلابة الإعلام الثقافي في نشر النص وإيصاله للقارئ الّذي يريد أن يقرأ كلّ جديد. وللأسف الشديد المُتابعات النقدية والتنويه بالإصدارات الجديدة للنصوص التي تُكتب باللّغة العربية كانت ومازالت قليلة مقارنةً بتلك التي تُنشر يوميًا عبر وسائط الإعلام المختلفة باللّغة الفرنسية، ومواقع التواصل الاِجتماعي كالفيسبوك والانستغرام حاليًا. وهذا ما يجعل القارئ الغربي أو القارئ بلغة أخرى يتفوق على القارئ باللّغة العربية للأدب المكتوب بالعربية. ولكن إن قاربنا الأمر من زاوية نظر إيجابية لوجدنا فكرة وجود أدب يُكتب بلسانين في بلد واحد لهو من مُميزات البلد في حد ذاته. فهو يسهم بطريقة مباشرة في تكثيف بنائية التراكم المُراد تحقيقه في مجال كتابة النصوص الروائية وبالتالي التنويع في الموضوعات والأساليب السردية والتجريب الروائي الّذي يخلق جيلاً مُتشبعًا بفن الرواية وكيفية كتابتها وإبداعها وأخيراً الظهور محليًا وعربيًا وعالميًا.
من جهةٍ أخرى لا يمكن إنكار الفعل الهام والراجح للجوائز الأدبية في نشر النص المُتوج، والتعريف به وبصاحبه. ولنُركز جيداً على فكرة الترويج لصاحبه أكثر من الترويج للأدب الّذي ينتمي إليه الكاتب. وشخصيًا أرى أنّ النصوص التي تُتوج في الجوائز الأدبية على المستوى العربي والعالمي لهي من المقدمات التي تحتفي بالجهد الشخصي للكاتب قبل الإطار العام الّذي ينتمي إليه النص الإبداعي. فنجد القارئ يذهب ليبحث عن النص المتوج رأسًا دون الاِهتمام بالمكان الّذي صدر عنه هذا الأدب، أو البلد الّذي ينتمي إليه. فالأدب بصفة عامة يُعرّف بنفسه عبر الأقطار بتراكميات وكتابات إبداعية قد يرفضها جيل ليتقبلها جيلٌ موال آخر. فإن كانت الجوائز الأدبية تحتفي بالجهود الفردية التي يجب أن تحترم طبعًا، فإنّ تاريخ الرواية الجزائرية باللّغة العربية الّذي لا يزال لحد الآن في طور البناء يُبنى بكلّ النصوص التي كُتبت فيه سواء تُوجت أم لم تُتوج.

الرجوع إلى الأعلى