بعض الكتب التي نقرأ تتحول هوامشها إلى ساحة لحيرة القلب والعقل، لذلك فإنّ من نعير له هذا الكتاب أو ذاك سيجد الشخبطة الكثيرة على حواشيه والانطباعات المتزايدة في صفحاته وقد تتحول هذه التعليقات إلى مجال واسع للمراجعة والإضافة وربما التهكم والمعارضة من طرفه، وهذا ما ينطبق على كتاب الرسوم المصورة «لست أنتِ من كنت أنتظر» Ce n’est pas toi que j’attendais (سيناريو ورسوم فابيان دولمي) الذي يستحضر فيها بكثير من الحميمية والعاطفة النبيلة لقاءً غير متوقع بين أب وابنته المولودة للتو والتي يكتشف أنها مصابة بمتلازمة داون. دولمي يقول في حواراته ولقاءات البيع بالتوقيع أنّ الكتاب جاء دون ترتيب مسبق، إنه يحب الرسم منذ الطفولة، وإنجاز كتاب عن مسار شخصيته مع ابنته الثانية مرفوقا برسوماته له علاقة مباشرة بيومياته.
ياسين سليماني
الأب لا يعاني من اضطراب في الشخصية، وليس عنيفا كما أنه زوج ملتزم، يحب الحياة، مبتهج، كما أنه أب يعتني بواجباته تجاه ابنته، على الأقل نحو البنت الأولى، لكنه أيضا مثل معظم الناس يتخيل أن المشكلات الكبيرة، الأزمات، الفجائع تحدث فقط للآخرين، ونقرأ عنها في صفحات الحوادث عن أشخاص بعيدين عنا. لا أحد ينتظر أن تولد له بنت معاقة خاصة إذا كانت فترة الحمل طبيعية ومرّت بسلام ولم يُخبر الأطباء عن أي مشكل صحي للجنين كما أنّ الولادة السابقة مرت بخير و»أنتجت» إنسانا «طبيعيا»
تحكي الرواية كيف انهار فابيان بعد اكتشاف المفاجأة، كيف اختلطت عواطف الغضب مع الرفض والشعور بالعار. نعم العار، والدموع الكثيرة التي نزلت بصخب وعنف مرة وبهدوء مرة، حيث يصرخ متهكما «مرحبا بكم في أرض المعاقين» (Bienvenue à handicapland ( سؤال أساسي بقي لسانه يلوكه: لماذا أنا تحديدا؟
بمرور الوقت، سيتقبل فابيان هذا الاختلاف أو ما يسميه بعدها بـ»الميزة» التي تتمتع بها ابنته جوليا. هذا الكتاب إذن أتى ليحكي هذه القصة وكيف اكتشف شيئا فشيئا أنّ ابنته ليست كارثة حلت بحياته الهادئة ولكنها منحة جميلة يسعد بها لذلك عندما هدأ اضطرابه وبدأت ابنته تكبر أمام عينيه أنجز المهمة التي قال إنها مؤثرة بشكل رهيب. الكتاب كما يقول بعض النقاد الفرنسيين «صفعة عاطفية قوية جدا»، يثير الرغبة بالبكاء مرة، وبالتعاطف مرات، الأب الذي يجد نفسه في دوامة من التساؤلات التي تتجمع لديه فجأة، الرغبة في التخطيط للوضع الجديد بينما هو يعاني من أمّية تامة فيما يخص التعامل مع أطفال بهذه الوضعية، التفكير في مستقبل ابنته وما ستكون عليه في الأعوام المقبلة، الناس الذين كانوا حوله، زوجته، والأحاديث التي كانت تدور بينهم عن جوليا التي تنظر بعينين ناعمتين دون أن تدرك وضعيتها أو الهواجس التي تشكلت عند أبيها منذ ظهورها في مسرح حياته. الحب الذي يجب أن يعطيه لها والحرص على صحتها والاهتمام بكل احتياجات بنت يقول له البعض أنها تنتمي لمجموعة «أطفال القُبلات». هل علاقة الأب مع ابنته نوع من «القَبول القسري»؟ عبارة ملفتة لا شك أنّنا نعلق عليها في هامش الصفحة ويعلق عليها غيرنا.
لم يكن فابيان يتوقع جوليا، لكنه بعد كل عواصف الغضب والحزن والقلق أصبح سعيدا أنها خرجت إلى الدنيا بكل مشكلاتها وصعوبات التعامل معها، كأنه استسلم أخيرا لنصيحة  شانتاناندا بوري «كن مرتاحا في قيامك بأي شيء، كن سعيدا وابقَ بعيدا عن أي قلق أو اضطراب حتى في المصائب والملمّات». في آخر الكتاب سنعرف أنّ الأب يكتشف ابنته ويكتشف نفسه أيضا في ردود فعله وتحولات شخصيته. لقد استغرق قرابة العام حتى بدأ يحبها، عام إلى أن بدأ بلمسها، وأخذها إلى صدره، لم يكن يعرف كيف يفعل ذلك.
الكتاب لحظة شجاعة حقيقة، أن يحكي فيها الأب هشاشته وخوفه من واقعه الجديد ومن الأيام المقبلة وما تخفيه لابنته، دون أن يهتم بأحكام القراء وإثارة الصدمة فيهم، كما نكتشف في آخر الكتاب مجموعة صور فوتوغرافية للطفلة جوليا، وللبنت مع أبيها. الكتاب أيضا ومن جهة بصرية ينوّع في استخدام الألوان على الشخصيات من فصل لآخر وهذا من أكثر جوانبه إمتاعا.
ليس هذا الكتاب الوحيد لتولمي كما أنه ليس الأحدث، لقد كتب بعد «لست أنت من كنت أنتظر» عددا من الأعمال الناجحة، وهي بالمناسبة أعمال تهتم بها الصحافة وتجرى حولها العديد من اللقاءات الإعلامية، مثل «حياتا بودوين» Les deux vies de Boudouin، سلسلة «ملحمة حكيم»، «عزيزي الدكتاتور»، «سوزيت أو الحب الكبير»
الهوامش الكثيرة التي يسجلها أحدنا على كتاب مثل هذا، ثم يجد أن «أحدهم « قد سجل عليها ملاحظات إضافية بخط يخاصم الجمالَ لكنه يعتنق الواقع ويصدق فيه هوامش تلاحق صفحات الكتاب من البداية عندما يقول مثلا عن ابنته أنها «تبدو وكأنها قرصان!» وصولا إلى قوله «نحن محظوظون بها»، من الإنكار والغضب والصراخ إلى: كيف نتعلم أن نحب ولو ببطء شديد.
هذا الكتاب راهنيّ جدا، وحتى بعد سنوات من صدوره يبقى ملهما ومهما.

الرجوع إلى الأعلى