قراءة في رواية - زنقة الطليان - للكاتب بومدين بلكبير
هي مُدن تزيّنت بالمركز واحتفلت به عنوانًا لها فزحف عليها الهامش وأفسد عليها فرحة وفرجة الاِحتفال. قد تتلون المُدن بألوان شتّى ويصبح أحدها من أهم خصائصها وكذلك كان الأمر مع الهامش الّذي بات لونها المُميّز. ذلك ما يصدق وينطبق على "زنقة الطليان"، رواية تنبع من الواقع وتقتفي جزئياته وكلياته، رواية واقعها فاق الخيال وامتزج هذا الأخير به ليكون جزءا لا يتجزأ منه، لأنّه لا يُمثل واقعًا واحدا لحالة مدينة بعينها بل يتجاوزها ليكون نموذجًا للمُدن الأخرى. لذا فمدينة الرواية المذكورة لا تخص ما حاولت الرواية تقديمه للقارئ نموذجًا صريحًا لمدينة فقدت هويّتها أو تكاد لتصبح تنميطًا مُبسطًا لمُدن أخرى تتشابه أعراضها وتتكرر أحداثها وتتناسخ شخوصها بكثير من الدقة والتماثل.

د- محمّد جديدي

اِسم "زنقة الطليان"، عنوان يتكرر في أكثر من مدينة، لا يدل بالضرورة على أنّ سكان الحي هُم من إيطاليا حتّى وإن كانوا ربّما في البداية كذلك وقد يضم جنسيات متوسطية أخرى مالطية وبرتغالية وإسبانية وأخرى لكن ما تعارف عليه اللسان يبقى متداولاً وإن لم يعد الطليان من قاطني الحي.
في رواية "زنقة الطليان"، وصفٌ أنيق لزوايا الحارة أو الزنقة ودقائقها عند الحركة وفي السكون، في بداية الصباح أو عند الغروب، بكثير من السرد المُمتع تأسر زنقة الطليان قارئها، بلهفة وشهية تطلب المزيد من معرفة يوميّات دلال، نجاة أو ناجي الرجلة، نونو لارتيست، جلال الجورناليست، رشيد العفريت والآخرين، لكلّ منهم دورٌ في الحياة وإن كان ثانويًا، هامشيًا، على الحافة. حياة غارقة في الروتين القاتل الّذي لا يخلو أيضًا من مشاعر إنسانية (المحبة والكراهية) متناقضة لا تفصح عن حقيقتها إلاّ مع نهاية الرواية لنكتشف مأساة إنسانية يجد القارئ نفسه ربّما مُجبراً على التعاطف مع شخصياتها، بحُكم الظُلم والفساد الّذي أفسد أحلام ساكنة الحي. إذ يتناوب الفساد والجهل على وأد كلّ حُلم باعث لأمل عودة زمن جميل ضاع إلى الأبد مع عصابة خنقت الحياة في المدينة بسدها أبواب الحرية.
زنقة الطليان، رواية تعجُ بحقائق الإنسان المغلوب على أمره في زمن الجشع والفساد، إنسان فقد الرجاء في خلاصه الجماعي ناهيك عن الفردي. وهي بالأحرى رواية تلونت بلون الهامش الّذي نغص على المركز بهجته لأنّ الهامش اِنتفض ضدّ اِنتفاء الوعود وتآكل خطابات لغة الخشب. فالواقع يُنبئ بتقلص مساحة المركز وتمدّد وتوسع رقعة الهامش وأُفقه الغالب لتغدو جُلَّ الأحياء مناطق ظل وجيوب مقاومة. رواية زنقة الطليان هي صرخة ونداء يُرفع للسلطات عن أحياء بمدن بل عن مُدن بأكملها باتت في غياهب النسيان وسيبتلعها الهامش إن لم يتم تداركها لأنّها لم تعد صالحة حتّى كمراقد، الآفات الاِجتماعية والجريمة والمخدرات تحاصرها وإمكانية العيش المُشترك بين ساكنتها تتلاشى تدريجيًا كلّ يوم. رواية تصلح نموذجًا لمُدن كثيرة أضحت على هذه الوضعية المُؤلمة، تزداد فيها رقعة التهميش والفقر والبطالة، يجتثُ فيها الفرد من ذاكرة حيه ليُرمى بأحياء جديدة لا يشعر فيها بالاِنتماء فيزداد غربةً وتيهًا. "زنقة الطليان" حكاية أتقنَ سردها وحبكتها الكاتب بومدين بلكبير على لسان امرأة، جسدت مدينة أثقل كاهلها الهامش وجثم على صدرها وزادتها كورونا اِختناقا. ترغب الرواية في نقل اِعتراف المدينة بهواجسها وآلامها ولكنّها لا تستطيع قول كلّ شيء تشويقًا ربّما لعملٍ قادم.
على لسان بطلة الرواية نقرأ: "كلما كنتُ أقطع شارعًا أو أعبر جادة أو أقف أمام بناية أسترجع بعض أنفاسي، أقف وحيدة في مواجهة هذا المشهد، لا رفيق لي سوى دقات قلبي المرتجفة وقرقرة أحشائي. جلستُ على الأرض مرمية في الشارع أقلب الصور في ذهني، تستمر المتاهة ذاتها الشبيهة بالهلوسات. عقلي لا يستطيع اِحتمال الفراغ المُطلق الّذي شل يوميات المدينة، والصمت المطبق، والسكون الّذي ظهر فجأةً حيث كان كلّ شيء في الأيّام الماضية حيًا ومُفعمًا بالنشاط. بقيتُ مشدوهة فاغرة الفاه، اِسترجعتُ كلّ أفلام وسيناريوهات الرعب التي سبق وشاهدتها، في حين أنّ منسوب الرعب الّذي ولده في داخلي هذا الفراغ الرهيب، والهلع الّذي بثه في نفسي تجاوز كلّ خيال. من استطاع إطفاء وهج المدينة وتحريرها من روادها بإخلاء شوارعها وتكنيس سكانها بهذا الشكل المفزع؟ كأنّ الجميع محبوسون في سجن كبير والزمن تعطل أو يُرجح أنّه في حالة شلل كامل! كلّ شيء أصبح بعيداً وغامضًا وغير قابل للتصديق وللإدراك في الوقت عينه. هل هناك من قام بمحو تفاصيل ويوميّات المدينة المعتادة؟ أو هناك قوّة غير مرئية عطلت الحركة على الأرض؟ لا يمكنني معرفة أو فهم هذه الأشياء التي أراها بأم عيني ماثلة أمامي، أو لا أراها. وهنا بالذات يكمن الشعور بالعجز الّذي أحس به الآن بينما أنظر إلى الشوارع الخاوية، أشعر أيضا بأنّ وجودي يتأرجح، بينما المجهول وعدم الأمان يتربصان بي. أشعر أنّ نهاري قد اِنتهى من شدة الذعر. نسيت جوعي، لا أجد الطاقة والقدرة على الاِستمرار في التفكير".

الرجوع إلى الأعلى