بمعطفك الأسود تقفُ بُعيد خطواتٍ من محلّ الميزابي "يوب"، و أبعد من جنّتك الملوّنة التي تخفيها في قبوٍ، بشارع "عبد الحميد كروش" لا تصلها شمسٌ لكنّها تضيء ولو لم يمسِسها نورٌ.

الأمين حجاج

ذاك القبو الجنّة، لا جدران له إلا اللّوحات ونافذة زجاجية تطلٌّ على جسر سيدي راشد وجسر سيدي مسيد، جنّتك التي تختصر نصف قرنٍ من الإبداع، الألوانُ تغمر المكان، أما الهوامش والأرض والرّفوف فتلك حكاية أخرى، صوّر في كلّ مكانٍ، كمن يبعثرُ ذاكرته حتى يتأكّد من نجاتها من همجيّة الوقت ويستطيع عدّها إذا أراد، قصاصاتُ ورقٍ وجرائد ذكرتك أو تذكّرتك، بعضُ التكريمات من رؤساء دول:  بورقيبة، الشاذلي بن جديد، الحسن الثاني، معمر القذافي، و...و...و، وصوّر لتماثيل منصوبة في روما، هامبورغ، وعواصم أوروبيّة كثيرة، ثم لا يلبث زائرك حتى تخنقه بقولك : "أترى كل هذا؟ هذا لا يساوي عشر ما أنتجتُ، والباقي تقاسمته الريّاح وبعثرته في كلّ مكان" تقولها بلكنةٍ جيجليّةٍ معتّقة.
نعم لقد كنتَ مُمثّلاً بارعاً
في 2012 سهوا وضعت صورتك في الجريدة، وبدل من أن يكتب تحتها "فنّان تشكيلي" كتب "مُمثّل"، ولما فشلت في إقناعك أنّه خطأ تقني من مركّب الصّفحات، قلتُ لك "نعم أنت ممثّل، أنت تمثّل لنا الحياة بالرّيشةِ والألوان".
لم نلتق بعدها إلا سنة 2014، حين كنّا نجهزّ لإطلاق العدد الأوّل للملحق الثقافي "جسور"، كان مخصّصا لمالك حداد، فكنت سعيداً  كطفلٍ حملت له لعبته المفضّلة، نعم إنّها لعبتك المفضّلة لعبةُ الذّكريات التي كنتَ تحفظها عن ظهر قلب، كأنّها حدثت بالأمس، فحدّثتني عنه وعنك، وعن لقاءاتكما، وكيف حضّرتما سويا للمهرجان الثقافي الإفريقي بالجزائر سنة 1969، وكيف كنت تفتش سلة مهملاته بحثاً عن كتابات جديدة ألقى بها هناك، وكيف كنت تحمله إلى بيته بعد منتصف الليل حين تخُونه قدماه.
بعدها بشهرين وتحديداً شهر أوت، زرناك في المستشفى الجامعي الحكيم ابن باديس، كنت أجريت عملية على أذنك، وعانيت من ارتفاع الضّغط، وأنت طريح البياض كان قلبك على الحجارة التي كانت تقتلع بوحشيّة من على مصاعد وأدراج الكدية، كنت أرسلت صرختك يومها: " أوقفوا إبادة التاريخ"، كنت حزينا أيضا أن لا أحد من مسؤولي الثقافة زارك أو قدّم دعما معنويا لك.
في عيد ميلادك السادس والسبعين (76)، اخترنا أن نحتفي بك هذه المرّة أنت, في العدد التاسع من ذات الملحق، كنّا نزورك أربعتنا إلى متحفك، أنا والشاعر شوقي ريغي، والروائيّة وافية بن مسعود والشاعرة رقية لعوير، كنت أسبقهم كل يوم أو أنت تسبقني فتمرّ على مكتب الجريدة بحي الاستقلال بالكدية وتصطحبني في طريقك، تعد لي فنجان قهوة النسكافيه ثم لا ينتهي الحديث إلا وقد أظلمت سماء قسنطينة فيكون المركز الثقافي محمد العيد آل خليفة نقطة افتراقنا فتتجه جنوب المدينة وأتجهُ شرقها، فسمعت منك قصصاً كثيرة، صولاتك وجولاتك في بقاعِ الأرض، لا زاد لك إلاّ الألوان، تذكرُ: أمين الزاوي، مالك حداد، كاتب ياسين، وديع الصافي، لطفي بوشناق، وكثيرون كثيرون، ثم تأخذني بحنين إلى منطقة "العاتقة"، وقصص الفحم والطّين، وتسلق الأشجار، ولوحة القرآن التي كانت تنام بجانبك، وسرقة الورد من فيلا في طريق عودتك حافيا إلى بيتك من كتاب القرية، وتوأمك خديجة التي كانت الوحيدة التي بقيت لك من عائلتك، ثم تقول: "من دون طفولتي لا يمكن تحليل ومعرفة عمار علالوش".
عند انطلاق الحدث العربي بقسنطينة سنة 2015، تم تأسيس الجريدة نصف الشهرية "المدينة نيوز"، فكلّفتُ برئاسة تحريرها في شقّها العربي، وكنتَ ممّن يحرّرون في شقّها الفرنسيّ، أذكر جيّدا تلك الليلة التي غادرنا مقرّ الجريدة بالمركز الدوليّ للإعلام بالقصبة، سألتني عن الأمور الماديّة فأخبرتك أن وضعيّتي تمّت تسويّتها في الأسبوع الأوّل من التحاقي بدائرة الإعلام، أما أنت فقصصتَ علي نكتة: "أخشى يا أمين أن يحدث لي مثل ذاك الشاب الذي كلّفته خالته الرعي بغنمها، كان يقول خالتي لن تأكل عرقي، وكانت تقول ابن أختي لن يخدمني بمقابل" ضحكتُ وقلتُ لك أنّ النّاس هنا لا يعرفون عمار علالوش ولا تاريخه، ولا أنّه من طينة إسياخم وكمال نزار، وأنّك في منظورهم مجرّد شخص كالبقيّة، قلتُ لك أنّي لو كنت مكانك وفي هذا السنّ لما أتيتُ لهذا المكان، لكنّه اجتهادك وحبّك للفنّ التشكيلي وكل ما يحاط به، توقّفت الجريدة شهر مارس وواصلتَ الكتابة إلى غاية أواخر شهر جوان، وانتهت عاصمة الثقافة العربية وأنت لم تقبض من دائرة المعارض أجرتك وأجرة الفنانين الذين دعوتهم لمعرض الفن التشكيلي بالمركز الثقافي محمد العيد الخليفة، وانتهى الحال باكترائك لعربة تحمل لوحات المدعوّين إلى خارج المعرض.
سأكرّر السؤال مرة أخرى: "عمي عمار لماذا لم تكمل اللوحة؟"
انتهت عاصمة الثقافة العربية وصرنا صديقين مقربين أكثر، وكنتَ اقترحتَ رسم بورتريه لي، قدّمتُ لك صورةً من أرشيفي، وكنّا وزّعنا العمل عبر جلسات أحضر فيها كل مرّة إلى مرسمك لأتابع عملك على اللّوحة من جهة، ومن جهة أخرى لتسرق بعض الملامح عن قرب ، وحدث أن صادفت آخر الجلسات يوم جمعة، لم أحضر، اتصلت بي ساعة مغرب، لكنّني أخبرتك أنّني من دون سيارة وببلدية الخروب ووسائل النقل في هذا الوقت شبه منعدمة، كنتَ مصراً على الحضور، لكنّني لم أحضر وأعلم يقينا أنّك غضبت من تأخّري، اتصلت بي في اليوم الموالي وقلت لي أنّ اللّوحة جاهزة، حضرتُ لكنّها لم تكن جاهزة، أخبرتك بذلك لكنك اختصرت غضبك عن إخلافي الموعد بقولك : " لا إنها جاهزة هكذا...يمكنك أخذها". ويبقى سؤالي معلقا في انتظار إجابتك "عمي عمار...لماذا لم تُكمل اللوحة؟"
كنت قلت لي في يوم من الأيام، أن تونس أعطتك كل شيء وأن تونس كانت كريمة معك بما فيه الكفاية، وأنت الذي غادرتها بعد أن أصبح الموت خبز الجزائريين اليومي، وتحديدا سنة 1991، ولم تغادرها بصفة ليست نهائيّة بعد أن سافر نفس الموت وصار قهوة التونسيين بعد حادثة البوعزيزي 2011.
احتضنتك تونس لـعشرين عاما، كوّنتَ فيها صداقات كثيرة، وصرت تونسيا بالفنّ والإبداع، بل صرت وجها ثقافيا تونسيا، وولجت عالم الصّحافة عبر بوابة "”La presse، عبر عمود أسبوعي، وبقيت بعد الربيع العربي، قدم هنا وقدم هناك، فتذكرُ بحنين لقاءاتك وجلساتك وسمرك، لطفي بوشناق، ومحمد طرشونة وجمال الصليعي، زبير تركي، ومحمد سحيلي، وغيرهم من الذين شاركوك كل هذه السنين.
في صيف 2016 كنت اختفيتَ فجأةً، وباءت كل محاولات الاتصال بك بالفشل، لأن رقمي هاتفك مغلقان، ولم يكن لي إلا الاتجاه لمنزلك للبحث عنك في العمارة المقابلة لمسجد الأمير عبد القادر، فأخبرني أصغر أبنائك أنّك في رحلة علاج بتونس، ولديك أيضا ما يشغلك عن العودة.

الرحلة بدت وكأنها ستطول، وكأنّك شعرتَ أنّها ستكون آخر رحلة لك، وكأنّ اليقين أخبرك أن تطيل المُدّة أكثر لتجمع ما يمكن جمعه وتكنس ما يمكن كنسه من ذكريات للمرّة الأخيرة.
التقيت بك بعد عامين تقريباً وتحديدا شهر جويلية 2018، قرب مقهى المسرح بشارع الحبيب بورقيبة، وقبل ساعات من انطلاق أمسيتي الشعرية بالمدرسة السليمانية.
قلت لي تونس ليست تونس التي عرفتها قبل عشرين عاما، تونس لم تعد تعرفني، ولم تعد ترحب بي مثل قبل، وحدثتني عن ديونك الكثيرة هناك، وكيف تركوك تدفع وحدك ثمن إيجار البيت، وكذا التحضير لمعرض دولي هناك من جيبك ومن مالك الخاص، وكيف أنّ أغلب الأصحاب تفرقوا من حولك، وكنت تشعر أنّه لم يعد مرغوبا فيك.
قلت لك: "عمي عمار يكفي إلى هذا الحدّ، ارجع لبلادك و أولادك، لا قدر الله ومت هنا لن يعلم بك أحد" وبعد ساعة أو أكثر من محاولة إقناعك صمت وقلت لي سأفكّر وافترقنا.
بعد بضعة أشهر جمعتنا قسنطينة مجدّداً، أخبرتني أنّك أخذت بكلامي، وأنّه لا عودة لتونس مرّة أخرى، لأنّ الحياة هناك أصبحت مرهقة مع تغيّر الحال والنّاس والأحوال وتراكم الديون، وأنّك ستتفرّغ هنا لثلاثة أمور، نافذة الفنانين بمحطة كركري سابقا، ومحاولة إعادة لوحاتك وأغراضك من تونس، واستعادة أموالك التي تم النّصب عليها في شراكة محل النجارة والتي تجاوزت 500 مليون سنتيم، رغم أن حالتك الصحيّة أصبحت متدهورة جدا.
هنا كان آخر لقائنا...عمي عمار وداعا
أكتوبر 2019، كنت اقترحت اسمك لتكريمك في الطبعة الحادية عشرة من المهرجان الثقافي للشّعر النسوي، قلتُ في جلسة التحضير والترتيب أن حالة عمي عمار الصحية متدهورة، وقد يغادرنا في أي لحظة، فاتفقنا على معرض لك وعلى تكريم يليق بك، وافقت أنت في البداية ثم اتصلت بي قبل أيام قليلة من الحدث، زرتك في مرسمك، وقدمت لي اعتذارك عن المشاركة، حاولت لكن فشلت، وعلّلت ذلك بكون مسؤولي الثقافة في المدينة لم يبذلوا أيّ جهد لاستعادة إرثك المرميّ بتونس، بعد أن قرّرت ألا تعود إلى هناك مجددا، فكان شارع بلوزداد آخر مكان التقينا فيه.
في 2020 جاءنا الموتُ وصار يطرق أبوابنا كلّ صباح ومساء، فلم نعد ننتبه لغياب أحدٍ، فالغيّاب أصبح روتينا يومياً، اتصلت بك مرّة لأطمئن عليك، فأخبرتني أن حالتك متدهورة وأنك بحاجة لإجراء عمليّةٍ جراحيّةٍ، ثم اتصلت بك مرة أخرى لكنّك لم ترد.
بعد تزايد أخبار الموت في كل مكان، أغلقتُ صفحتي على موقع التواصل فانقطعتُ عن العالم وانقطعتْ أخبارُ الأصحاب والأحباب عنّي.
في 17 أوت 2020 دخلت محلّ صديقي وكانت جريدة "النصر"موضوعة على الرفّ هناك ، وكان على يسار الصفحة الأولى خبر وفاتك، قلتُ يا الله توفي بالأمس قبل أن أستعيد بعض وعيي المفقود من الصّدمة وأكتشف أن عدد الجريدة يعود لشهر جويلية، اتصلت ببعض الأصدقاء المشتركين بنا لأحزن وأشاركهم حزني ولو متأخراً، وأستعيد شريط ذكرياتك وحواراتك، ويخنقني سؤالي الأبدي: "عمي عمار ... لماذا لم تُكمل اللّوحة؟"

الرجوع إلى الأعلى