الترجمة في الجزائر تحتاج إلى استراتيجية وطنيّة

يتحدث الباحث الأكاديمي والناقد والمترجم وأستاذ الأدب المقارن والترجمة (معهد الترجمة-جامعة وهران1) ومدير وحدة البحث في الثقافة والاِتصال واللغات والآداب والفنون، الدكتور محمّد داود، عن واقع الترجمة في الجزائر، وعن بعض إشكالاتها وتحدياتها، وهو يرى في هذا الشأن أنّها تُواجه في العالم العربي عامة وفي الجزائر على وجه الخصوص معوقات كثيرة تَحُدُ من فعاليّتها ومن إشعاعها في الأوساط الأكاديمية والثّقافيّة.

حاورته/ نــوّارة لحــرش

الدكتور داود، أشار في حوار للنصر ، إلى أنّ واقع الترجمة يُعاني كثيرا من اللامبالاة ومن غياب إستراتيجية وطنية تأخذ بعين الاِعتبار الأهمية الكُبرى التي يُمثلها هذا القطاع، رغم أنّ الدولة الجزائرية –حسب قوله- قد بذلت جهوداً مُعتبرة لتنمية الترجمة من خلال التكوين الجامعي وتحرير الحقل الثقافي والترخيص القانوني والتشجيع المادي لدور النشر منذ بداية التسعينيات.
وفي ذات المعطى الترجمي، تحدث أيضا عن الترجمة العلمية، مؤكداً بهذا الخصوص أنّها لم تعرف تطورا ملموسًا وذلك لمختلف الأسباب، على الرغم مِمَا بذلته الدولة من مجهودات ومِمَا وفرته من موارد مادية وبشرية. وأرجع بعض ما تعانيه إلى أنّ المؤسسات الموجودة في العالم العربيّ أو في الجزائر لا تملك إستراتيجية واضحة المعالم لتشجيع الترجمة العلمية إلى اللّغة العربية، لكون هذا النوع من الترجمة يتميز بصعوبة كبيرة والخوض فيه ليس في متناول أي كان. كما خاض الدكتور داود، في شؤون أخرى ذات صلة بالترجمة، والترجمة العلمية.
* إلى جانب البحث والنقد، والتدريس في الجامعة، تشتغل أيضا في حقل الترجمة. فكيف هو برأيك راهن الترجمة في الجزائر، وهل ما يُترجم في فترات مُتباعدة في العام يكفي للحديث عن وجود قطاع ترجمة ومشاريع وورش خاصة بالترجمة؟
محمّد داود: تُواجه الترجمة في العالم العربي عامة وفي الجزائر على وجه الخصوص معوقات كثيرة تَحُدُ من فعاليتها ومن إشعاعها في الأوساط الأكاديمية والثّقافيّة. إنّ الترجمة باِعتبارها من أكثر الوسائل الناجعة في نقل العلوم والمعارف إلى اللّغة العربية ومنها، تُعاني كثيراً من الاِكراهات وتُسجلُ تأخراً كبيراً، وقد أشارت إلى هذه الوضعية العديد من التقارير الوطنية والدولية ومنها المؤسسة الأممية «برنامج الأمم المتحدة للتنمية» في تقريره لسنة 2002: «إنّ العالم العربي لا يُترجم سوى 330 كتابًا في السنة، أي ما يُعادل خُمس ما يُترجمه بلد مثل اليونان، وأنّ ما تمت ترجمته من مؤلفات لا يتجاوز مائة ألف كِتاب، أي ما يُعادل المعدل السنوي لِما يُترجم سنويًا في إسبانيا».
المؤسسات الموجودة لا تملك إستراتيجية واضحة لتشجيع الترجمة العلمية
وعلى الرغم مِمَا أثاره هذا التقرير من جدل في الأوساط الأكاديمية والإعلامية حول دقة وصحة هذه المعلومات، فإنّ واقع الترجمة يُعاني كثيرا من اللامبالاة ومن غياب إستراتيجية وطنية تأخذ بعين الاِعتبار الأهمية الكُبرى التي يُمثلها هذا القطاع. ويمكنُ القول أنّ الدولة الجزائرية قد بذلت جهوداً مُعتبرة لتنمية الترجمة من خلال التكوين الجامعي وتحرير الحقل الثقافي والترخيص القانوني والتشجيع المادي لدور النشر منذ بداية التسعينيات. وقد تمّ تأسيس العديد من أقسام ومعاهد الترجمة وتوطين المعهد العالي العربي للترجمة بالجزائر العاصمة إلى جانب مؤسسات أخرى مثل المجلس الأعلى للغة العربية وغيرهما، وهي جهودٌ معتبرة لكنّها تفتقد إلى رؤية شاملة وإستراتيجية وطنية واضحة. والجدير بالذكر أنّ طلبتنا يفتقرون إلى الكُتب لمواصلة دراستهم وفي مختلف التخصصات الاِجتماعيّة والعلميّة والتكنولوجية. هذا مع العِلم أنّ الترجمة بوصفها نشاطًا يسمح بالاِنفتاح على الثقافات الأخرى ليس غريبًا عن حضارتنا العربيّة والإسلامية، ولعلّ ما قامت به مؤسسة «بيت الحكمة» من جهود في الفترة العباسية وما قام به المُصلح «رفعت الطهطاوي» في مصر في بداية النهضة العربية أحسن مثال على ذلك، لكن ما عرفه العالم العربي من اِنحطاط ومن اِحتلال غربي فيما بعد جعل هذا النشاط يتراجع، وهيمنت اللغات الأوروبيّة على اللّغة العربيّة بشكلٍ كبير. وربّما ما قامت به الدولة الجزائرية من جهود في مجال تعريب المدرسة والجامعة كان بإمكانه أن يدفع بالفاعلين إلى الاِستثمار في الترجمة، لكن هذه الجهود لم تتجاوز المُبادرات الفردية وبعض الأعمال المؤسساتية التي لم تُعمر طويلاً.
* ما الّذي يمكن فعله أو القيام به حيال هذه الأوضاع في قطاع الترجمة؟
محمّد داود: بالنظر إلى هذه الأوضاع المزرية التي يُعاني منها قطاع الترجمة، لا بدّ من إعادة النظر فيما تمّ إنجازه وتقييمه ووضع إستراتيجيّة وطنية للرفع من قدرات هذا القطاع بالتشجيع المادي والمعنوي للمترجمين وبمختلف اللغات، وتأسيس مخابر ووحدات بحث ومراكز تعتني –وفقط- بترجمة المؤلفات وفي جميع التخصصات العلميّة، الاِجتماعيّة والتّكنولوجيّة، لعلنا بهذه الخطوات قد نُنجز ما لم يُنجز منذ مدةٍ طويلة. وربّما التحديات الكبيرة والرهانات الضخمة والتحوّلات السريعة التي يعرفها العالم والاِكتشافات الهائلة التي يُنجزها العُلماء والمفكرون يوميًا وفي كلّ مكان، تدفع بنا إلى التفكير بجدية في الموضوع، وربّما تنظيم جلسات وطنية حول الموضوع تُشارك فيها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ووزارة التربيّة الوطنيّة ووزارة الثّقافة والمجلس الأعلى للغة العربيّة ودور النشر العموميّة والخاصة، لوضع إستراتيجية وطنية شاملة للنهوض بالترجمة في وطننا.
* وماذا عن واقع الترجمة العلمية في الجزائر؟
محمّد داود: لعله من البديهي القول أنّ الترجمة هي من العوامل المُساعدة والمُحفزة على النهضة العلمية والحضارية للدول والأُمم، وقد أدرك خُلفاء الفترة العباسية هذا البُعد الجوهري وأسسوا بيت الحكمة لترجمة العلوم والفلسفة اليونانية، ووضعوها تحت إشراف خيرة المترجمين مِمَن اِنخرطوا في هذا المشروع الكبير. وكان من نتائج هذه الجهود أن تطورت العلوم في العالم العربيّ والإسلاميّ في تلك الفترة، كما أسهمت هذه الترجمات في نقل تلك المعارف إلى أوروبا، مِمَا ساعد هذه القارة على النهوض وإقامة دول على أُسس قوية.
وعندما نتحدث عن بلادنا، نجد أنّ الترجمة لم تعرف تطورا ملموسًا وذلك لمختلف الأسباب، على الرغم مِمَا بذلته الدولة من مجهودات ومِمَا وفرته من موارد مادية وبشرية. وتكفينا الإشارة إلى تأسيس المدرسة العُليا للترجمة بالعاصمة سنة 1963، أي منذ الحصول على الاِستقلال، كما تمّ، فيما بعد، إنشاء عديد الأقسام والمعاهد التي تقوم بتدريس الترجمة، إلى جانب المجلس الأعلى للغة العربية الّذي يُركز في بعض جهوده على الترجمة بمختلف أنواعها. وقد اجتهدت السلطات السياسية المتعاقبة على تعميم اللّغة العربية، وكان ذلك منذ بداية السبعينيات ورافقته عملية تعريب العلوم الاِجتماعية والإنسانية بالجامعة مع مطلع الثمانينيات، وبسبب قِلة المراجع وغياب الكفاءات العلمية المُعربة كان ذلك صعبًا على الأساتذة والطلبة، وأعتقد أنّنا تجاوزنا ذلك حاليًا. ومن المعلوم أيضا أنّ الجامعة الجزائرية قد ركزت على العلوم الإنسانية والاِجتماعية دون الاِهتمام بالعلوم الدقيقة والعلوم الطبية والتكنولوجيات، وحتّى العلوم الاِقتصادية والتجارية والتسيير تُعاني من هذا النقص، بسبب اِزدواجية التعليم في الجزائر. فالطلبة يتلقون الدروس في كلّ المراحل باللّغة العربية وفي جميع المواد، ويضطرون، لمَا يريدون التخصص في العلوم الصلبة، إلى الدراسة والتعلم باللّغة الفرنسية. وهذه مشكلة أخرى تُواجه عالم الترجمة التي نجد المشتغلين بها وعليها يُركزون على ترجمة الكُتب الأدبية والفلسفية وفي التاريخ والاِجتماع، لكونها لا تتطلب تمكنًا كبيراً في هذه المجالات العلمية، إذ يكفي أن يكون المُشتغل على الترجمة مُلِمًا بلغة ثانية أو ثالثة، ومُتمكنًا من أسرار تلك اللّغة ومُطلعًا على أهم مُصطلحات التخصص الّذي ينوي الاِشتغال عليه ليكون له ما يُريد. وبطبيعة الحال، قد يلجأ في عمله هذا إلى قواميس المصطلحات ومعاجم اللّغة لكي يُتقن ما يقوم به من نقل لمادة علمية من لغة ما إلى اللّغة العربية. وبالعودة إلى الترجمة العلمية، نجد أنّ كلّ البلدان العربية ومنها الجزائر تعاني من نقص فادح في ترجمة العلوم الصلبة، وأنّ المؤسسات الموجودة في العالم العربيّ سواء في لبنان أو في قطر أو في مصر أو في الإمارات لا تملك إستراتيجية واضحة المعالم لتشجيع الترجمة العلمية إلى اللّغة العربية، لكون هذا النوع من الترجمة يتميز بصعوبة كبيرة والخوض فيه ليس في متناول أي كان، لأنّه يتطلب إلى جانب اِمتلاك اللغتين تخصصًا في الميدان المُراد الترجمة منه وإليه. ولكي يتحقّق ذلك لا بدّ من توفر الإرادة السياسية التي تقوم بتشجيع ترجمة العلوم الصلبة، وتوفر الإرادة الفردية للمترجمين، ولكي تستجيب الترجمة إلى طموحات ما تصبو إليه الدولة الجزائرية بمؤسساتها المختلفة ولطموحات المجتمع الجزائري الراغب في النهضة والتحضر والعصرنة، أي إقامة مؤسسات وطنية تتحكم في آليات الترجمة وفي توحيد المصطلح.
* هل ترجع بعض مشاكل الترجمة العلمية، إلى قلة أو ندرة الترجمة العلمية في الجزائر؟
محمّد داود: يعود هذا في نظري إلى سبب قلة أو ندرة الترجمة العلمية في الجزائر، كما يعود هذا في اعتقادي دائمًا إلى أسباب مباشرة تتعلق بالدرس العلمي الّذي يُعاني منه طلبتنا، بحيث يبدأ التكوين في المراحل الأولى من الاِبتدائي إلى الثانوي باللّغة العربية ثم ينتقل إلى اللّغة الفرنسية في المرحلة الجامعية، وهو الأمر الّذي ينشأ عنه تذبذبا في هضم المفاهيم والنظريات، هذا من جهة ومن جهة أخرى قد يعود أيضا إلى الإرادة التي تفتقد لدى العديد من النّخب في الهياكل الأكاديمية والبحثية في تطوير اللّغة العربية في مجالات أخرى غير العلوم الإنسانية وكأنّه حُكِمَ على الجزائر أن تشتغل باللّغة الفرنسية في الأمور الدقيقة مثل الرياضيات والطب والتكنولوجيا والاِقتصاد عمومًا وأن تترك الأمور الخاصة بالعلوم الاِجتماعية والإنسانية للغة العربية، أي الوظيفة الأيديولوجية فحسب.
لابدّ من وضع إستراتيجيّة وطنية للرفع من قدرات قطاع الترجمة بالتشجيع المادي والمعنوي للمترجمين
هذا واقع الجزائر، بسبب عدم الثقة في قدرة اللّغة العربية على مواكبة العصر وهذا اِعتقاد خاطئ من الأساس. هناك أيضا تعدّد واختلاف المدارس الترجمية من بلد عربي لآخر وربّما من مترجم إلى آخر، علاوةً على اختلاف وتناقض المصطلحات في الاِختصاص الواحد، وهذا أيضًا من المعضلات التي تُعاني منها الترجمة العلمية، بينما الترجمة الأدبية والترجمة في العلوم الاِجتماعية والإنسانية قد وجدت –على الرغم من الصعوبات- اِمتداداً واسعًا لنشاطاتها.
* أيضا هل يمكن الجزم أنّ بعض الخلل في قطاع الترجمة العلمية يرجع إلى قلة المترجمين العلميين، أم إلى عزوفهم عن الاِشتغال في هذا المجال لسبب من الأسباب؟ وهل بإمكان المترجم الأدبي أن يخوض في الترجمة العلمية؟
محمّد داود: هل يرجع هذا إلى قلة المترجمين العلميين في الجزائر، أم إلى عزوفهم عن الاِشتغال في هذا المجال لسبب من الأسباب؟. أعتقد أنّ السببين المذكورين في السؤال هما الأصح، القِلة في المترجمين وأيضًا العزوف عن العمل الشاق، كون الترجمة في هذا المجال تقتضي جهداً مزدوجًا: التحكم في الاِختصاص والتحكم في اللغتين «اللّغة المنبع واللّغة الهدف» وهو أمر يتطلب كفاءة عالية والكثير من الجهد الشاق والاِلتزام وإرادة فولاذية وهي أمور قلما تتوفر في شخص واحد، هذا بالإضافة إلى أنّ هذا النوع من النشاط الأكاديمي يقتضي عملاً جماعيًا وإستراتيجية ترعاها مؤسسات تملك المنهجية والرؤية والمقاربة الشاملة.
ومن جهة أخرى، أرى أنّ المُترجم الأدبي لا يخوض غمار الترجمة في المجالات العلمية، لأنّه لا يمكن له خوض غمار الترجمة العلمية كون هذا النوع من النشاط الترجمي يقتضي التحكم في الاِختصاص العلمي وهو على ما أعتقد لا يتوفر للمترجم الأدبي، يمكن لهذا الأخير التعاون مع المترجم العلمي في الجانب اللغوي وحسب.

الرجوع إلى الأعلى