في خضم الجائحة تضاءلت النشاطات الثقافية والفكرية والرياضية وغيرها من النشاطات التي كانت تشهد حضور الجمهور على اِختلاف أنواعه، وإذا اِستثنينا الجماهير الرياضية التي يبقى حضورها طاغيًا وكبيراً وخرافيًا أحيانًا، لمكانة هذه اللعبة وشعبيتها لدى شعوب المعمورة، فإنّ النشاطات الثقافية والفكرية كثيراً ما تشتكي من قِلة الجمهور وأحيانًا غيابه شبه التام. لكن في الآونة الأخيرة ومع ظهور وبروز نشطات ثقافية وفكرية اِفتراضية على منصّات إلكترونية عديدة، مثل منصة زوم. ظهر ما يُسمى بالجمهور الاِفتراضي الّذي يُتابع هذه النشاطات ويتفاعل معها أحيانًا. فهل يمكن القول أنّ الجائحة ساهمت أو تمكنت من خلق "جمهور اِفتراضي" أكثـر حضوراً وأكثـر عدداً وأكثـر تشاركية وتفاعلية من الجمهور العادي الّذي كما سبق وأن قلنا بأنّه جمهور قليل جدا ويكاد يكون شبه غائب عن النشاطات الثقافية والفكرية. أيضا هل يُشكل "الجمهور الاِفتراضي" البديل الأفضل للجمهور الواقعي؟ أم كما قالت الكاتبة والناشطة الثقافية والأكاديمية حبيبة العلوي: "نحن ما زلنا نخبويين جداً، نعتبر الثقافي شأن الخاصة، ولهذا من الطبيعي جداً أن تكون جماهيرنا الاِفتراضية مقتصرة على دوائر الصداقات، هذا إن اِكتملت".
حول هذا الشأن "الجمهور الاِفتراضي". كان ملف هذا العدد من "كراس الثقافة"، مع مجموعة من الأساتذة والدكاترة الأكاديميين الذين تناولوا الموضوع كلٌ من زاويته وحسب وجهات نظر مختلفة لكنّها تلتقي في ذات المعطى والسياق.

استطلاع/ نــوّارة لحــرش

حبيبة العلوي/كاتبة وناشطة ثقافية وأستاذة جامعية
لا يُمكن الحديث عن جمهور اِفتراضي في ظل ندرة المنتج الرقمي
هل يُمكننا الحديث عن جمهور اِفتراضي للمُنتج الثقافي، في ظل ندرة في الاِشتغال على المنتج الرقمي نفسه، لقد اِنخرطنا في ما يُعرف بالنشاط الاِفتراضي في شكل اِضطراري، بحُكم الوضع الصحي، بالتالي أخذنا وقتًا في اِستيعاب تقنية التواصل، ولكن عمليًا لم تكن لنا مادة حاضرة لعرض اِفتراضي، غير توطين حلقات النقاش بمنصّات رقمية، هذا في حد ذاته إِيجابي، غير أنّه يتوجب علينا أن نُفكر بحتمية تطويع السلعة الثقافية وتحضيرها للعصر الرقمي، الّذي يبدو أنّه سيفرض عليها مقاييس خاصة، أهمها التكثيف والإيجاز، ولا أريد أن أقول البساطة.
ثمّة شروط موضوعية لم نتحضر نفسيًا لاِستيعابها حتّى نلحق بهذا العصر خاصةً على مستوى المنجز الإبداعي حتّى لا نلتفت كثيراً للتقنية التي تعودنا على اِستيرادها. فمثلاً نحن على مستوى الصورة والمنتج السينمائي، لا نحتفي كثيراً بالفيلم القصير، ولا بمسلسلات الويب، لم ننخرط فيها بقوّة بعد. مازال الشباب ينتظرون المُنتِج الكبير الّذي يمتلك الخيط الواصل للخزينة العامة، في حين أنّ أجيالاً شابة في الشمال اِنخرطت في حركية إنتاج بتكاليف بسيطة وحتّى برسائل ولغات بسيطة. نحن ما زلنا نخبويين جداً، نعتبر الثقافي شأن الخاصة، ولهذا من الطبيعي جداً أن تكون جماهيرنا الاِفتراضية مقتصرة على دوائر الصداقات، هذا إن اِكتملت.
أعتقد أنّه علينا في هذا الشأن بالذات أن ندعم أجيالاً جديدة قادرة على المغامرة، ثمّ ندفع بالطاقات المُتمرسة إلى قبول التكوين الرقمي الّذي يُؤهلها لولوج هذا العالم أو نحضرها لقبول الاِستقالة والاِنسحاب. عندما أقول هذا أعي جيداً أنّ ثمّة كثير من المبدعين يتأفّفون من كلّ ما هو تقني ورقمي، بدعوى سحر الورق وقداسة اللقاء المُباشر بالجمهور مثلاً. لكن علينا أن نعلم كجزائريين أنّ ثمّة فعلاً من اِستطاع أن يمزج ويُزاوج بين روح الفن وإبهار التقنية في فضاء واحد وهذا ما نحتاج إلى ترويض إبداعنا عليه. ثمّة تحدي سابق لصناعة الجمهور وهو صناعة المُنتج الّذي يصنعه.
في هذا الإطار تحضرني تجربة مثيرة لجمعية "لبن" اللبنانية، وهي جمعية تُعنى بالمسرح الاِرتجالي وتُركز على اِستظهار المسكوت عنه في الحرب الأهلية اللبنانية على وجه الخصوص، وكذا مُعالجة بعض التابوهات التي تمكّن لغة المسرح الاِرتجالي من إفراغها، هذا المسرح اِستغل فترة الحجر في إدماج جمهور جديد في دائرته التواصلية وهو الجمهور الحاضر في عروضه التي نقلها عبر تقنية زووم، وبفضل توظيفه لهذه التقنية ضمن المسرح أوّلاً عدم اِنقطاع عروضه كما نجح في اِستقطاب جمهور لبناني جديد خاصة من الدياسبورا، ثمّة دراسة كاملة لهذه الحالة للباحثة اللبنانية نيللي عبود، أتمنى أن يطلع عليها المهتمون عندنا حال صدورها.
مثل هذه التجربة تستحق الإشادة خاصةً وأنّها تمزج في منتجها الثقافي بين الهم المدني والاِجتماعي والنفسي والسياسي، في غير إهمال لِمَا هو حميمي وجد خاص.
أعتقد أنّ مثل هذه التجارب يجب أن تتكاثر عربيًا لأنّها تتماشى والأهداف الكُبرى التي يتبناها عالمنا اليوم، من حيث ضرورة صناعة ثقافة داعمة للتنمية المُستدامة، وبلغة أخرى ثقافة فاعلة في مشروع المجتمع وبناء الذات.

عبد الحميد ختالة/ ناقد وباحث أكاديمي -جامعة عباس لغرور خنشلة
الحضور الاِفتراضي أصبح يفوق الحضور الواقعي
تُستحدثُ الحلول مع تراكم المعارف، وهذا بالضبط ما حدث مع العالم وهو يُواجه هذا الفيروس القاتل كوفيد19، إذ اِنكفأ النّاس على أنفسهم مع الموجة الأولى لاِنتشار الفيروس لكن طبيعة الإنسان الاِجتماعية جعلته يبحث عن منفذ يُخرجه من العزلة التي أصبحت هي الأخرى قاتلة، وقد أمسى العالم الاِفتراضي النافذة الوحيدة والفاعلة جداً في اِستحداث التقارب بين الأفراد، بل أصبح مصدراً للأخبار وتبادل خبرات المواجهة العنيفة بين الإنسان والفيروس القاتل. وقد تفاعل المشهد الثقافي في الجزائر سريعًا مع العالم الاِفتراضي وأوجد لنفسه صيغًا تفاعلية وفرت له الاِستمرارية، مُستحدثًا لنفسه منصّات اِفتراضية فتح من خلالها ندوات نقدية وجلسات شعرية بل ووصل الأمر إلى خلق حلقات تفاعلية أسهم في تنشيطها جملة من الموسيقيين، وقد كان ذلك دليلاً على القوّة الفاعلة التي تسكن المُثقف والفنان الجزائري بعامة. وهنا تجدر الإشارة إلى ضرورة القراءة النقدية للمستوى التفاعلي الّذي حقّقته تلك المبادرات المتنوعة من إبداع ونقد وفن بشكلٍ عام، إذ ستمنحنا تلك القراءة مستوى تلقي الفعل الثقافي في الجزائر ومن ثمّة مقارنته بمستويات الحضور الجماهيري في مرحلة ما قبل الجائحة، خاصةً ونحن نعرف بأنّ قاعات الندوات الفكرية والنشاطات الثقافية عمومًا كانت تُعاني الفراغ الرهيب والعزوف المُقلق للجمهور عن الحضور. وربّما ما سأقدمه هنا هو بعض التجارب الشخصية التي عشتها في العالم الاِفتراضي إذ كنتُ أعكف على تقديم حصص ثقافية بعنوان "عوالم المسرح" بالتنسيق مع المسرح الجهوي العلمة، والأستاذين القديرين ليلى بن عائشة ومفتاح خلوف، وقد حقّقت تلك اللقاءات اِفتراضيًا نسبة محترمة من الجمهور، حتّى وإن كان المجال غير مفتوح بشكل تقني لمشاركة الأفكار مع المتتبعين، لكن على مستوى المشاهدة كنا قد سجلنا حضوراً متميزاً يفوق الحضور في قاعات المسرح.
كما كانت لي تجارب أخرى من خلال بعض الندوات الفكرية التي فرضت الجائحة أن تتم برمجتها اِفتراضيًا من ملتقيات نقدية أو جلسات معرفية وقد حقّقت هي الأخرى نسبة محترمة من المتابعة، أذكر هنا أنّ الندوات الرمضانية التي قدمتها مع الأستاذ مفتاح خلوف حول مكملات المشهد في القرآن الكريم وصل عدد مشاهديها إلى أكثر من ألفي مشاهد، وهو عدد محترم جداً مقارنةً بالتفاعل الّذي نعرفه في العالم الواقعي.
قد تكون قراءتي للمشهد الثقافي في زمن الجائحة من جهة الحضور الجماهيري غير كامل اِعتباراً أنّ الأمر قاصر على تجارب فردية، لكن الحقيقة التي تتداولها وسائط التواصل الاِجتماعي تُثبت أنّ المنصات الرقمية أصبحت تُشكل نقطة لقاء هامة لتنشيط الفعل الثقافي، لقدرتها على جمع أكبر عدد مُمكن من المتلقين الإيجابيين حيث يظهر تفاعل المتلقي مع النشاط الثقافي من خلال عدد التعليقات التي تصب في فكرة أساسية مفادها إيجابية الجمهور الاِفتراضي. إنّ القراءة الدقيقة لطبيعة متابعي الفعل الثقافي الاِفتراضي قد تسهم في معرفة مدى مصداقية ما نقدمه لدى الجمهور، ومنه سنصل إلى اِستنتاجات مهمة جداً تجيب عن السؤال المُتعلق بشغور قاعات النشاطات الثقافية من الجمهور، وإذ أنا مقتنع بأنّ ظروف تلقي أي فعل ثقافي تختلف إلى حدّ كبير بين الواقعي والاِفتراضي إلاّ أنّنا يمكن أن نقدم قراءة مُنتجة للمعرفة موضوعاتيًا وإجناسيًا تفاعليًا، من أجل العمل على إخراج الفعل الثقافي من حالة الركود إلى حالة تفاعلية بين كلّ أطياف المجتمع.

عبد الله العشي/كاتب وناقد وباحث أكاديمي
لا يمكن أن نتحدث الآن إلاّ عن جمهور بصدّد التكوين
الواقع أنّ الثقافة، اليوم، لم تعد، مثلما كانت، قيمة اِجتماعية ضرورية، وحاجة من حاجات الإنسان المُلحة، لقد تغير كثيراً مفهوم الثقافة، وتغيرت وظيفتها وأهميتها، خرجت من تلك الدائرة الفكرية التي تنشغل بالمسائل العميقة في الإنسان والمجتمع والحياة، وأصبحت أقرب إلى التسلية السطحية السريعة، أغلب ما يُقدم في وسائل الإعلام لا يتجاوز هذا المفهوم، في الوقت الّذي يتم فيه إبعاد الموضوعات الثقافية الحقيقية وتغييبها بشكلٍ أو بآخر. في ضوء هذا تمّ إنشاء جمهور يتفاعل مع السطحية والرداءة، وقد ساهم في إنشاء هذا الجمهور مؤسسات مختلفة؛ إعلامية وتربوية واجتماعية وسياسية واقتصادية، لقد نجحت هذه المؤسسات، بشكلٍ سريع، في أن تجعل الرداءة مؤسسة وأن تعطيها معنى وقيمة، وأن تمنحها سلطة، وأن تصنع لها معجبين ومروجين وجماهير، كلّ شيء الآن في خدمة الرداءة وخاصةً وسائل التواصل الاِجتماعي التي عوضت كلّ المؤسسات، وتجاوزت كلّ المرجعيات، وأصبحت توجه الجميع إلى المجهول.الرداءة، أيضًا، كما صنعت مؤسستها صنعت جمهورها، جمهوراً معنيًا بالصورة والإيقاع والحركة والصرخة والعبث، إنّهم مثقفو الرداءة، العالم تقريبًا موجه نحو هذا، أي نحو الاِنصراف عن القضايا الكُبرى، تلك التي صارت اليوم تُدعى السرديات الكُبرى، وأصبحت مُهمة المُشتغلين بالفكر هي كيف يُفككون تلك السرديات ويتخلصون من ثقلها الفكري والفلسفي والروحي، وكيف يمكن أن يتخلصوا من كلّ ما من شأنه أن يكون مرجعية للفكر والحياة. لا معيار، وبالتالي فكلّ شيء ممكن، (وكلّ شي نورمال)، في ضوء هذا التحوّل تبدو الثقافة بالمعنى الفلسفي والأنثربولوجي جزءا من التاريخ، مثلما ستصبح المدرسة والجامعة والحزب والمؤسسة والعقل والمنطق وغيرها جزءا من التاريخ أيضا. هكذا ستصنع السيولة نمطًا جديدا من الحياة والفكر والثقافة، وتبني نظامًا مُغايراً من العلاقات ومن البشر والجماهير. ما أثر الجائحة في ثقافتنا؟ في اِعتقادي لم تصنع شيئًا ذا بال، حاليًا، لا على مستوى الإنتاج الثقافي، ولا على مستوى الإقبال على الثقافة، هذا، حين يكون الأثر هو كلّ فاعلية ناتجة عن نشاط بشري يُغير بشكلٍ أو آخر في حجم الميدان الّذي ينشط فيه، لكن هناك بدايات لثقافة اِفتراضية لم تكتمل هويتها بعد، لا على مستوى المشروع الثقافي الّذي ينبغي أن تُؤسس له ولا على مستوى النُّخبة التي تتحمس له وتدعمه وتُتابعه. النشاط الثقافي الاِفتراضي الآن يتمرن على الاِفتراضية، فحسب، ولم يصل بعد إلى أن يُحقّق ذلك، لأسباب يتعلق بعضها بضعف وسائل التواصل، "لا يمكن الحديث عن ثقافة اِفتراضية في ظل تدفق رديء للاِنترنت"، وبعضها بالأمية التكنولوجية، وبعضها بالثقافة، الاِفتراضية وتشعباتها، وبعضها يخص كُتَّابًا منشغلين بالـ:"فيسبوك" يتبادلون أنواعًا من اللغو لا يليق إلاّ بالرديئين. ولذلك لا يمكن أن نتحدث الآن إلاّ عن جمهور بصدّد التكوين فقط، وليس عن جمهور اِفتراضي مكتمل، وعن نشاط ثقافي اِفتراضي بصدّد التكوين أيضا.
تخلصت نشاطات الاِفتراضي من بيروقراطية المؤسسة وعوائقها، وتحرّرت من عوائق المكان والزمان والأسفار والفنادق والأموال ونحوها، وأصبح بالإمكان، وبقليل من الجُهد، إقامة مؤتمر دولي في أسبوعين، ويمكن أن نضمن له نجاحًا علميًا وجماهيريًا لم يكن مُمكنًا سابقًا في الأنشطة الواقعية.
النشاط الثقافي الاِفتراضي، يحتاج، من أجل أن يصنع جمهوره الخاص، إلى دعم مؤسساتي، رغم ما قلناه سابقًا من أنّ المُؤسسة تُمثل عائقًا. لو أنّ المؤسسات، الآن، فهمت وتفهمت أهمية النشاط الاِفتراضي، وقامت بدعمه ماديًا وبشريًا لعجلت بصناعة الظاهرة الثقافية الاِفتراضية، ولوفرت كثيراً من الوقت والجهد والمال، لم يبلغ إلى علمي أنّ جامعة من الجامعات أسست منصة لغير العمل البيداغوجي، وهي مُؤهلة جداً بشريًا وماديًا لذلك.
وأخيراً، فإذا كانت الاِفتراضية تضمن مثل هذه الإمكانيات وتُسهل إنجاز أعمال ثقافية وعلمية، لكن لا يمكن المُراهنة عليها وحدها في صناعة ثقافة حقيقية، يبقى الإنسان بوعيه وعُمق نظرته وقدرته على اِختيار المجال والقيمة والمعنى، هو الّذي ينبغي المُراهنة عليه في صناعة الثقافة وجمهورها.

جميلة مصطفى الزقاي/ أستاذة وباحثة أكاديمية وناقدة مسرحية
مزايا الفرجة الواقعية لا يمكن استبدالها بفرجة اِفتراضية
تحيي الفرجة المسرحية وتَعرف وهجها متّى ما أقبل عليها الجمهور باِهتمام وتفاعل ونهم. باِعتبار الجمهور طرفًا ضروريًا في المسرح، وحضوره مُتذبذب من عرض إلى آخر، بحسب النوع والموضوع والفكرة المطروقة، وتبعًا للكاستينج المُختار بعناية... وفي كلّ ذلك يعشق الجمهور المسرح بآنيته وركحه مثلما قال عنه أنطو نين أرتو Antonin Artau: "المسرح هو فن الآن والهنا"، بمعنى أنّه يقدم بصيغ مختلفة وأمام جمهور مختلف في كلّ مرة. والتي تخلق ذلك التمازج والتفاعل الكيميائي الّذي يُحدثه العرض بين أطياف جمهور لا تنسجم في شيء غير اِنسجامها في الحضور لمشاهدة فرجة مسرحية والاِستمتاع بها. فيتساوى الجميع بشغل مقاعد مرصوصة، وكأنّها تدعو للتآلف والمودة حتّى قبل بدء العرض المسرحي.. هذا غيضٌ من فيض مزايا آنية العرض المسرحي، فكيف نستعيض عن ذلك كله بفرجة اِفتراضية وبالتالي بجمهور اِفتراضي؟ وقع جدلٌ كبير فيما بين رجال المسرح عربيًا وأجنبيًا حول واقع الثقافة والفنون تحت نير وباء كورونا التي ألزمت الجميع بالفرقة والشتات بدل اللمة والألفة، وبالفردانية مُقابل الجماعية عِلمًا أنّ الفن المسرحي فن جماعي باِمتياز.
هذا عن الجانب النفسي والشعوري، وماذا عن الجانب التقني الّذي في الغالب لا يصل إلى المُتلقي الاِفتراضي بواقعيته لونًا وحركةً وإضاءةً وصوتًا؛ بخاصة في ظل غياب التصوير الاِحترافي للعروض المسرحية؟؟؟ وإذا اِعتبرنا الناقد من الجمهور، فكيف يتسنى له تشريح العرض واستنطاق لُغاته من خلال المشاهدة الاِفتراضية؟ خاصةً وأنّنا قبل ظهور هذا الوباء بأرزائه كنا قد خُضنا تجربة نقد العرض من وسيط إلكتروني بالندوات النقدية التطبيقية المُواكبة للمهرجانات الوطنية أو العربية، فكانت القراءة تُصبح قراءتين، والمُؤكد أنّ الأصوب هي تلك التي تنجر عن المشاهدة الواقعية، ولئن اِنساق الناقد وراء ما قرأه اِفتراضيًا يعود نقده وبالاً عليه، إذ غالبًا ما يُخِل بلُغات العرض وآليات الإخراج وغيرها...
وبالعودة إلى مصطلح "الجدار الخامس في المسرح" الّذي يعود فضل اِستخدامه لأوّل مرّة إلى الصديق الدكتور هشام زين الدين الكاتب والناقد المسرحي اللبناني الّذي شارك ببحثه هذا في "ملتقى القاهرة الدولي للمسرح الجامعي" في شهر مارس2021 وقد صرح به جداراً تكنولوجيًا خامسًا مُسْتَشِفًا ذلك من أسلوب التواصل الآني بين المسرحي وجمهوره، وقد فرضته مأساة كورونا، فانعكس سلبًا على هذا الفن الفرجوي ذي الرّوح الجماعية سواء أثناء صنع الفرجة بالمخبر أو بعد نهايتها حين يلتقي حاملو علامات العرض وأيقوناته مع جمهور متعطش لفك طلاسم ذلك العرض المسرحي. وما الجدار الخامس -بحسب الباحث- إلاّ ذلك البديل المفروض على المسرحيين عوض الاِنكسار والجمود في اِنتظار زوال الجائحة. ورقم الجدار هذا يُحيلنا على بريخت وكسر الجدار الرابع ليصبح الجمهور فاعلاً ومُتفاعلاً مع العرض من حين لآخر، وكان ذلك في منتصف القرن العشرين مقوضًا مبدأ الإيهام المسرحي الّذي تبنته الأرسطية.
والسؤال الّذي يطرح نفسه بعد ذلك التقديم الّذي أجلى تقريبًا اِستحالة الأخذ بالجدار الخامس، هل سيتسنى للمسرحي هدم الجدار الخامس في المسرح والاِنقلاب عليه بطرائق ومناهج مسرحية ما بعد حداثية وما بعد درامية؟؟؟ وهل يكمن الحل في الاِستغناء ولو آنيًا عن تلك التقنيات البصرية السينوغرافية التي لا تصل إلى الجمهور بجوهر وظيفتها وكامل جماليتها؟ حتّى تُصبح الفرجة مُضلة لذوق المُتلقي ولأُفق توقعه وانتظاره.
ألا يكمن حل هذه المعضلة التراجيدية في العودة إلى مسرح القوّال parolier الّذي كان يُعنى بجميل القول ومأثوره وموسيقاه ودلالاته وشعريته، وشخوصه المُستمدة من يوميّات المُتلقي؟ كذا لإقامة علاقة ذكية مع المُتفرج حتّى يُصبح مُبدعًا، وهذا ما كان علولة ينشده من خلال علاقته بجمهور الحلقة لأنّ العرض بالنسبة إليه ليس نهائيًا ولا مُكتملاً، بل هو مُحفز للطاقات الإبداعية والثقافية للمُتفرج، وبذلك لم يكن يرضى بتدجين جمهوره.
ألا تدعو جدلية الجدار الخامس إلى التفكير في بديل مسرحي يُمَتع ويُثقف ويُرفِه دون أن يُضِلل ذوق الجمهور ويُفسده بتقنيات بصرية تُشوّش مشاهدته للعرض وتُقلق راحته وهو الذي بإقباله على المسرح يُنشد التريض الّذي يُحدثه العرض في نفسه نصًا وإخراجًا وتمثيلاً؟؟؟ ألن يكون النكوص المسرحي الجزائري هو الحل الصميمي للجدار الخامس الّذي أضحى قدراً للمسرح ينبغي التُعايش معه؟؟؟ ولن يتمّ دحضه حقيقةً إلاّ بالاِجتهاد والبحث عن أشكال مسرحية مُواتية لهذا القدر الّذي نتمناه آنيًا ومآله الزوال!!

محمّد تحريشي/ كاتب وناقد وباحث أكاديمي
العالم الاِفتراضي أتاح إمكانية مشاهدة النشاطات لأكبر عدد من المتابعين
أدى اِنتشار جائحة كورونا في أرجاء العالم إلى الاِهتمام بإنجاز كلّ الأعمال عن بُعد ومن المنزل، وشهد العالم اِهتمامًا مُتزايداً بالشاشات الذّكية التي تُسهل عملية التواصل هذه من دون الخروج من البيت أو مُغادرته لقضاء الاِحتياجات الحياتية وقضاء المصالح الاِجتماعية والتجارية عبر فضاء الأنترنت. وقد شجعت التدابير الصارمة للحجر الصحي والتحكم في حركية المواطنين تجبنًا للعدوى، من تسريع التعامل مع الواقع الاِفتراضي.
إنّ كورونا أو هذا الوضع الصحي الجديد والهشّ والمُقلق والمُحيّر أسهم في بلورة واقع جديد يجمع بين الواقع المعيش والجانب الاِفتراضي، وجعل المجتمع البشري يُغيّر الكثير من عاداته في التخاطب والتواصل؛ اِقتضي ذلك توظيف كلمة –عن بُعد- وأصبح كلّ شيء عن بُعد الكلام والتواصل والجلوس والقراءة والتدريس والمعالجة، ولنقل إنّ كلّ النشاطات الاِجتماعية تُمارس عن بُعد. ولعلّ من نافلة القول الإشارة إلى أنّ تعلُم عادة جديدة صعب جداً وأنّ التنازل عن عادة مُكتسبة أصعب وأشق، ومن ثمّ وجد الكثير من الكُتّاب والمثقفين وحتّى بعض الأساتذة الجامعيين صعوبة في التكيّف مع هذا الواقع الجديد الاِفتراضي والرقمي، بل إنّ هذا الوضع حفّز القائمين على مثل هذه النشاطات على تفعيل الوسائل الرقمية للوصول إلى الأهداف والغايات، بل أكثر من ذلك فقد سرّع هذا من فاعلية الرقمية في حياتنا العامة، بعدما أخذ منا الكسل والتسويف مأخذاً في التعامل بطرائق تقليدية في التعليم وقضايا الثقافة.
كان جمهور اللقاءات العلمية والثقافية والتظاهرات الفنية محدوداً في العدد وفي المكان وفي الزمان، وكان علينا أن نلجأ إلى الطبع والنشر والتوزيع حتّى تصل فعّاليّات هذا اللقاء العلمي أو تلك الفعّالية الثقافية إلى الجمهور، وكم كان ذلك يأخذ من الجهد والوقت والمال، ومع ذلك قد يجد القارئ المًهتم صعوبة في الوصول إلى كلّ هذا الإنتاج على كثرته والّذي قد يبقى حبيس أدراج ومكتبات غطى الغُبار محتوياتها بعد عزوف الطلبة عن زيارتها، واستعاضوا عنها بِمَّا تُوفره مواقع الويب وصفحات التواصل الاِجتماعي.
كانت لي تجربة مُهمة في التحاور عن بُعد في مشروع مُهم للأستاذ الدكتور عبد الحق بلعابد في الملتقى القطري للمؤلفين حيث قدمتُ مداخلة حول الرواية الخضراء. تداخل البيئي والأدبي في الرواية القطرية في جوان 2020، ثمّ توالت التجارب مع جامعات عربية في الخليج وفي أقطار عربية أخرى، ثمّ تعدت ذلك إلى جامعة كالكوتا بالهند. ووجدتُ نفسي أنفتح على جمهور جديد من المتابعين لهذه الفعاليات حضوريًا عبر المنصّات المُتعدّدة كالزووم وجوجل ميت وفايسبوك، ومتابعين آخرين على اليوتيوب بأعداد من المشاهدين قابلة للاِرتفاع كلّ يوم. ومن ذلك أيضا مساهمتي في صالون عبد الناصر هلال بالسعودية أوت 2020 وأبوليوس الجزائري سبتمبر2020، والمنتدى الثقافي الجزائري ديسمبر2020، وملتقى الرواية العربية المُنظم من نادي الباحة الثقافي بالسعودية نهاية جوان وبداية جويلية2021. هذا بالإضافة إلى التعاون مع جامعة واسك بالعراق خلال سنتي2019-2020، و2020-2021، بتقديم ندوتين لطلبة الدراسات العليا بكلية الآداب، وندوة من تنظيم مختبر السرديات بالجامعة نفسها.
لعلّ المُتابع لمثل هذه الندوات يُدرك تمام الإدراك أنّ العالم الاِفتراضي يسمح لأكبر عدد من المتابعين من إمكانية مشاهدة هذا النشاط أو ذاك، وأذكر جيداً أنّني بعدما قدمت مشاركتي في أبوليوس الجزائر بلغ عدد المتابعين بعد 24 ساعة أكثر من عشرة ألاف مشاهد، والأمر نفسه لما قدمت ندوتي في المنتدى الثقافي الجزائري.
هذا من جانب ومن جانب آخر كان الأمر مُيسراً وسهلاً وسلسًا لا يقتضي تنقلاً ولا سفراً ولا إيواء في فنادق ولا إطعام في مطاعم ولا مصاريف أخرى، بل أصبح الأكثر هيّنًا على المنظمين وبأقلّ التكاليف اللهم دفع حقوق التواجد على المنصة المُختارة، وهو مبلغ زهيد أمام خدمة كلّ شهر أو على مدار السنة.

الرجوع إلى الأعلى