هذه الفقرات الأولى من ست قصص يضمها كتاب «المرآة تزيد من الوحدة» الاصدار الجديد للكاتب محمد رابحي. مجموعة قصصية في 124 ص عن دار الوطن اليوم 2020
أتيت..
لا أعلم من أين ولكني وصلت،،
دخلت الدار كواحد من أهلها. كأنما قد غبت عنها دهرا. دخلت مطمئنا. أعرف كل التفاصيل برغم إحساس قوي بأنني أراها وأطأها لأول مرة. كان المدخل أنيقا في حي راق هادئ: ممر ظريف بين كتلتي اخضرار تظهر عليها عناية غير متخصصة لكن حميمة ومحبة..
خايلني في جانب بعيد جسم مديد قوي لرجل أحسبه الجنائني، أشار لي بساعده كأنه يحييني ودون أن أسمع التحية رددت له بمثلها. وبعد درجات قليلة دلفت الدار: ردهة صغيرة تنفتح على قاعة واسعة بديعة، على الميمنة سلم يقود إلى طابق علوي، أما جدارها الشمالي واجهة زجاجية تشرف على فيراندا طريفة. وقريبا من عتبتها جلست امرأة مسنة تحيك قطعة من الصوف، لما انتبهت إلى حضوري بادرتني لأجلس حداءها، اقتربت وقبلت يدها لكني لم أجلس. ودون أن ترفع عينيها أشارت أن أتناول شيئا من علبة الشكولاتة ثم أشارت إلى علبة السيجار وهي تقول الـ»هافانا»، غير أني أبديت امتناني رقيقا موجزا إذ آثرت اللجوء إلى فراشي طلبا لراحة ملحاحة من تعب لا أستوضحه أذهني أم بدني؟ حثت الخطى إلى غرفتي، هذا ما كان يمليه علي شعوري وقد كان شعورا بين الألفة والغربة.
من قصة «ممر في نظرة زائغة»
نعيم صدوق..
اسم باغتني،، هكذا،، قفز من ذهني للتو إلى الورقة المبسوطة دوني.. أوقفز من عقلي الباطن إلى مكتبي، أو من رغبة تتحرك في الخفاء أو من لحظة من زمن مواز..
اسم سلس و لكنه غير مستهلك لو مر بي كنت تذكرته وتذكرت قضيته حتى وإن كان شخصا ثانويا. لكن من الغريب أن يقفز إلى بالي بهكذا شكل!! بسرعة ووضوح وتركيز!! مثل يد تحط على كتفك على حين لم تكن تتوقعه، يد شخص قلما تلتقيه ولا تتوقع أن تلقاه، سيما في مدينة تزورها لأول مرة وربما أخيرة،،أو مثل انفجار يفقد معناه إذا لم يقتل أحدا، وتصبح شظية وإن كانت صغيرة من شظاياه أهم منه إذا ما لامست أو انغرست بلحم أحدهم.. يبدو هذا الاسم مثل الشظية الصغيرة. انتثر من حطام فكرة وعلق بكياني.
تملكتني رغبة أو حاجة إلى أن أعرفه، أعرف ما حكايته..
من قصة»البحث عن نعيم صدوق»
الهدوء،، العراء،، الضياع،، فراغ على امتداد البصر..
بعد مدة طويلة أو قصيرة،، ربما قبل مدة قصيرة أو طويلة!؟ بل لا مجال أو لا حماس لمعرفة الوقت.. هل هو إلا الموت؟ الفناء؟ فناء دون حساب! لا جنة ولا نار.. امتداد مفرغ متروك لذاته..
وفي رقعة لا تتجاوز الشبر، شبر كغيره من الأشبار على امتداد بلد أو كون كان ثمة نبض. الشبر ينبض،، حياة لا تزال عالقة بالفراغ المهول الممتد،، يا ربي،، !؟،، فرصة الحياة لا تتجاوز الشبر، لكن لابد منها، لو أن أحدهم يمر من هنا!! لو أنه يبادر هذا الشبر النابض بإجراءات اسعافية لئلا ينقضي تحت الردم: يضع يديه عليه ويضغط يضغط،، وينفخ فيه مزودا إياه بما أمكن من الأنفاس.. رباه.. ليس ثمة أحد.. سيضيع في هذا الاتساع..
بيد أن النبض الغريب، على عكس التوقع، لا يخمد، يوحي بذلك ولكنه يستمر. بل ما يفتأ يتضاعف،، لا أحد يمسه،، يتضاعف من تلقاء ذاته،، !؟،، يقوى،، يشتد،، كأن ثمة امرؤ غير مرئي يقوم بما كان هو يتمناه.. كأن هذا الشخص ليس إلا أمنيته، المتلهفة، تتجسد لتسعف النبض الوحيد، تنفخ فيه وتضغط عليه. لتساعده حتى يصير شبرين..
من قصة»واحد، أنين، تلاشى،،»
يجتاحه حنق جاف وهو يحاول أن يدخل المفتاح بثقب الباب،، في الأولى كان المفتاح مقلوبا،، في الثانية بعد أن يديره  يجده مقلوبا لأنه في الأولى لم يكن كذلك،، في الثالثة يتعثر مفتاحه بين أصابعه فلم يدخل بالثقب،، أما في الرابعة يجتاحه حنق جاف بعد أن يتبين له أنه يستخدم المفتاح الخطأ.. فيتساءل بحدة في ذات نفسه إن كان الأمر يتعلق بسلسلة الخيبة إذا تحركت حلقة منها تداعت لها البقية تباعا؟ أم هو حظه العاثر الذي يذكره بإلحاح بوجوده في أدق تفاصيل حياته؟ أم هو الشؤم الذي يتناوله ويعتقد أن فيه خلاصه الصحي؟.. ثم وهو يضع المفتاح الصح يجد نفسه يتخيل رقدته القادمة مع سهيلة متسائلا إن كان سيخطئ مفتاحه ثقبها؟ «مؤكد، كل شيء يمكن أن يحدث إلا إذا لم يحدث!».
من قصة «سندروم نسيم عبود»
يعود ،، لا يعود ،،
منذ ثلاثين سنة وهو يعود،، يعود عودته الرتيبة الجافة،، ربما كان لها معنى في وقت من الأوقات: خريج جامعة، موظف جديد، يحب عمله، سكناه ملكه باسمه، راض مرتاح، حديث الزواج.. يعود إلى حبيبته إلى الدفء إلى ابنه البكر.. الآن تغيرت الأحوال: إنها عودته الأخيرة..؟؟.. سوف تمحى المسافة بين عمله وسكناه،، المسافة التي قد تؤخره عن عمله أو تؤخره عن أسرته ويحدث خلالها ما يحدث. مسافة الحياة بكل مجهولها ومعلومها. سوف تختفي وتضيق هذه المسافة ومعها تضيق الحياة وأشياء أخرى كثيرة. بمعنى آخر تنتهي إلى أن تكون زنزانة تحوطه جدرانها ويموت فيها اختناقا.. لمن يعود اليوم؟ إنه لا يعود إلا إلى نفسه. لا أبناء ينتظرونه ويعمل هو حسابهم بالهدايا، يعود فقط لأنه متعب، في البيت فراش، حمام، طعام بالطريقة التي يفضلها، يجلس إلى نشرة الأخبار وقتما شاء..
لم يتبق شيء من أي شيء،، لا من الوظيفة، لا من الأسرة، لا من العمر، ولا منه،،
من قصة «حدث في ساعة
 من الساعات»
-كيف أحطمه؟
-أحطمه،، وكفى!!
مزقته الأسئلة، وما ضمدته الأجوبة.
ما عاد يحتمل..لا أسئلة ولا أجوبة،، أنى له بعقل صاف،عقل طفل، لما لا عقل منغولي يحميه، يخلصه،،
- لا يحتمل بلدنا أن يكون فيه كلانا،،
في هذه الساعة المتأخرة من الزمن الطويل الذي عرفه فيه عن قرب، هو مقتنع بأنه يكن له كرها شديدا لا يقوى عليه،الكره الذي لا منافذ له ويهد صاحبه.
وهو إلى هذه الساعة المتأخرة من الوعي الغابر في التصورات والتوقعات، يجد نفسه في ورطة مع نفسه لا معه،، لا يعرف ما أصابه، لقد صار خصمه هذا مرضه الذي ينهش بقاءه.
- أتعبني دون أن يدري بأمري..  
حرب باردة جامدة، حرب معلنة لكن لا أسباب لها ولا ميدان ولا أسلحة.. حرب من طرف واحد..
من قصة «أنا أعلى»

الرجوع إلى الأعلى