- حوانيــت النـشـر -  أصبحت تنشر حزم أوراق لا تنتمي لأي جنس أدبي تحت مسمى رواية
حذر الكاتب والناقد والأكاديمي الدكتور محمّد الأمين بحري، من الفوضى التي يعرفها قطاع النّشر في الجزائر والذي تسبّب في تجاسر على فنون أدبية، إلى درجة أنّ أصحاب "حوانيت النّشر" – كما وصفهم- باتوا ينشرون حزمات من الأوراق لا تتصل بأي فنّ تأليفي ولا تنتمي إلى جنس أدبي تحت مسمى رواية. وحمّل الوصاية مسؤوليّة ما يحدث، مؤكدا بأن تطبيق قانون الكتاب سيمكن من تطهير الساحة من 90 بالمئة من الناشرين والموزعين.
حاورته/ نــوّارة لـــحـــرش
 ويتحدث في هذا الحوار للنصر عن جهوده النقدية المتواصلة التي تواكب الرواية على وجه الخصوص، والتي تحاول غربلة ما يمكن غربلته بعد أن أصبحت الرواية الوجهة المفضلة للجميع بكثير من الاِستسهال والاِبتذال. إلى جانب قضايا أخرى.

لا أومن بنقد للرواية مُنفصلاً عن نقد الشِّعر أو المسرح أو السينما أو الدراما
جهودك النقدية لافتة وهي غير مهادنة، في وسط اِعتاد ربّما على المجاملات أكثر. فهل يمكن القول إنّ الدكتور بحري سيكرس كلّ جهوده النقدية لخدمة الرواية. هذا الفن الّذي اِستسهله الجميع؟
محمّد الأمين بحري: لا طبعاً.. النقد بالنسبة لي مفهوم شامل واشتغال كلي عابر للفنون، يُكمل بعضه بعضاً في جميع الفنون، وليس مجزوءاً، يختص بفن ويُهمل الباقي، ببساطة لأنّ الفنون صارت مُتكاملة ومشتركة في عديد من عناصرها، فكيف يبقى النقد مُنفصلاً ومجزءاً، وبلغة أبسط: لا أومن بنقد للرواية مُنفصلاً عن نقد الشِّعر أو المسرح أو السينما أو الدراما، فكلّ هذه الفنون صارت مرتبطة ببعضها خاصةً حينما نجدها تتبادل تقنياتها التي لم تعد مختصة بالفن الّذي ولدت معه. ومن هنا لم يعد لكلمة ناقد روائي أو شِعري أو سينمائي أو مسرحي أي معنى في عصر يتميّز بتشاركية الفنون، فإن لم يكن الناقد مُحترفاً وخائضًا في كلّ هذه الفنون فلن يكون عمله مُكتملاً. فمثلاً؛ إن كان هناك ناقداً روائياً، يدرس رواية، والرواية تستخدم تقنيات من مجال المسرح والسينما (وما أكثرها اليوم)، وهو لا علاقة له بالمجالين الفنيين المذكورين، فهل يستطيع إكمال عمله، وهو منقوص معرفياً وفنياً؟ أو إذا نشره، هل يكون له معنى، مع جهله بتقنيات أساسية اِستعارتها الرواية من تلك الفنون المُجاورة؟
والكلام ذاته سيُقال، لو أنّ عملاً مسرحياً اِستخدم تقنية مشهدية سينمائية، أو خطابية روائية، والناقد المسرحي لا عِلم له بتلك التقنيات، فهل يكون نقده هنا مؤسسا فنياً ومعرفياً؟ أم هو قاصر عن اِستيعاب ما ينقده تقنياً؟ لذلك أحاول دوماً تقسيم جهدي على مواسم الفن في بلادي، (رغم معارضتي الشديدة لفكرة أنّ للفن مواسم معينة يظهر فيها ويغيب في سواها)، فمثلاً وقت قراءة الروايات يكون صيفاً، وهي الفترة التي تسمح لي بمطالعة أكبر عدد من النصوص، التي اقتنيتها خلال السنة، والكتابة عنها بِمَا أنّني في عطلة دراسية. كما أنّ شهر رمضان هو شهر الأعمال الدرامية التلفزيونية باِمتياز، فأكرس ما أُتيحَ لي من وقت فيه، لمشاهدة الأعمال الدرامية ليلاً والكتابة عنها نهاراً وهي فترة بيتية بالنسبة لي. مِمَّا يسمح باِستغلال جل وقتي في المتابعة والمناقشة والكتابة مع شركاء هذا المجال.

تطبيق قانون الكتاب سيؤدي إلى اندثار 90 بالمئة من الناشرين والموزعين المزيفين

بينما للمسرح مهرجانات أحرص على متابعتها جميعاً، وهي من صلب عملي وتدريسي في الجامعة، مِمَّا يجعل دروسي تتحين مع كلّ مهرجان أو دورة مسرحية، فأسجل أكبر قدر من الاِنطباعات والقراءات والتقديمات والتحاليل الآنية، ويكون لي الوقت في صياغتها في شكل مقالات ودراسات تكون موضوعاً لدروسي التطبيقية مع طلبتي في جامعة بسكرة، أو موضوعاً للمداخلات في ملتقيات ومهرجانات مُماثلة.
أمّا السينما فلا أجد بأنّ المقال يفيها حقها، بل أعتقد أنّ تأليف كِتاب في هذا المجال أكثر جدوى من المُتابعة الآنية والقراءات الاِنطباعية. نظراً لخصوصية هذا الجنس الفني.
وهذا العمل المُتكامل هو الّذي أومن به في العملية النقدية التي لا تتجزأ إلى جزر موزعة على كلّ فن منفصل عن الآخر. في المنظور البسيط.
غُرباء ودخلاء لا علاقة لهم بالثقافة اجتاحوا سوق النشر وعاثوا فساداً
اِجتهاداتك النقدية، أظهرت التجاسر الكبير على الرواية من طرف كُتّاب لا يحسنون حتّى قواعد اللّغة. لماذا برأيك هذا التجاسر على الرواية أكثر من أي نوع آخر من أنواع الأدب؟
محمّد الأمين بحري:  هذا أمر مُتشعب تشارك فيه عِدة أطراف بدايةً من الوصاية على قطاع الثقافة، التي تركت مجال النشر بيد العابثين فنشأت دور نشر وهمية، وأخرى تجارية، فاجتاح سوق النشر غُرباء ودخلاء لا علاقة لهم بالثقافة، وعاثوا في النشر فساداً دون تدخل الوصاية بالرقابة على سير دور النشر ومتابعة هيكلتها وشروطها ومتابعة نشاطاتها،، ودون إلزام دور النشر بقانون مُحدد للمهام المنوطة بها تجاه ما تنشره ومن تنشر لهم، ولا بتطبيق قانون الكِتاب الّذي لو طُبِقَ بكلّ شروطه ورقابته عليهم لاندثر 90 بالمائة مِمَن يُسمون أنفسهم ناشرين وموزعين، وهم عكس ذلك لا يستوفون شروط النشر، وكم الطبعات، ولا يُوزعون شيئاً مِمَا ينشرونه، بل يُوهمون الشباب ببيع لقب كاتب إن منحهم أي شخص أي نص على الإيميل، فيتفاوضون معه، على السعر مقابل عدد النسخ، الّذي أحياناً لا يتجاوز الثلاثين أو الخمسين نسخة ويقولون له هذه طبعة أولى، على الرغم من أنّ الطبعة كحد أدنى لها لا تقل عن الــ500 نسخة، موزعة، ثمّ إنّ هؤلاء يبيعون للكُتّاب مؤلفاتهم ليوزعوها بأنفسهم، بينما تجد في عنوان دار النشر هذه العبارة: (دار كذا للنشر والتوزيع)، وهي لا تملك من ذلك شيئاً، بل تلعب دور الوسيط بين الكاتب والمطبعة. دون قراءة النص ولا تنقيحه، ولا تكليف لجنة قراءة فنية ولجنة تدقيق لغوية لمراجعة ما تطبعه، بل كلّ ما تقوم به هو اِستلام النص من صاحبه وتمرره لصاحب المطبعة وربح فارق القيمة.

الكتّاب يكرّسهم الإعلام وليس النقد

ولما يخرج النص بتلك الصورة الكارثية لغوياً وفنياً، ومستوى يُسيء لصاحبه وللفن الّذي يكتب فيه، يتم اِتهام الكاتب بأنّه لا يحسن التعبير الكتابي ويسطو على فن لا يسمع به؟؟
ما يعني أنّ الكاتب المُغرر به وسط هذه الشبكة الاِحتيالية في الثقافة، قد وقع ضحية وهم، شراء هذا اللقب، وحفزه أشباه الناشرين الوهميين الذين أسميهم (أصحاب حوانيت النشر)، والذين أغروه بأنّه قد صار كاتباً لمجرّد نشره لحزمة من الأوراق لا تتصل عند قراءتها بأي فن تأليفي ولا تنتمي لأي جنس أدبي، لأنّه في غالب الأحيان، لم تسعفه قراءته ولا تكوينه في بناء معرفة كاملة بفنون الكتابة، وعادةً ما تجد تلك المنشورات التي تدعي اِنتماءها للرواية، مجرّد مذكرات لطفولة كاتبها أو مرحلة مراهقته، دوّنها في كراس لتنفيس المكبوتات، أو خلاصة مشاهدة مجموعة من المسلسلات ورسوم الأنميشن، أو مجموعة نصائح وإرشادات تم اِلتقاطها من منصّات التواصل الاِجتماعي، فيدفعه أولئك لنشرها تحت مُسمى "رواية"، وهو لا يعرف من الأساس ما هو هذا الفن ولم يقرأ عنه في غالب الأحيان.
وهذا ما دفعني لنشر سلسلة من المقالات أُقدم فيها نماذج من تلك الجرائم التي تُرتكب باِسم الأدب وفنونه، من طرف من سماهم الدكتور السعيد بوطاجين (الجماعات الأدبية المسلحة)، أمّا مقالاتي في هذا الشأن فسميتها (صناعة الوهم) أنشرها عادةً في فترة العطلة الصيفية.
وفي الحقيقة وجدت ثلة من النقاد والأدباء في المساعدة والدعوة إلى تطهير الساحة الأدبية من المعتدين على فن الكتابة الذين أفسدوا الذائقة الأدبية وشوّهوا الفنون الإبداعية، وأساءوا لأنفسهم وللكتابة. ومن بين من وجدتهم عوناً في عملية التطهير، ولو بكشف منتجات صُنّاع الوهم والرداءة في الكتابة، أذكر مثلاً لا حصراً: الدكتور السعيد بوطاجين، ولونيس بن علي، واليامين بن تومي، وشاهين دواجي، ومحمّد الأمين لعلاونة، وحسين علام، والحبيب بوخليفة، وعبد الحفيظ بن جلولي، وأحمد دلباني، ومحمّد تحريشي ومن الأدباء سليمان جوادي، والصديق حاج أحمد الزيواني، وعبد الله كروم، وعلي مغازي، وعبد الله الهامل، وغيرهم كثير، حيث لا تسع هذه الأسطر ذكر كلّ من ساند في إماطة الأذى عن طريق الأدب الأصيل والفن الرفيع.
تورط فئة من دور النشر في تشويه المنتوج الأدبي والإساءة للكتابة والكتاب وصناعة مشهد الرداءة
هل تتحمل بعض دور النشر ما لحق/ ويلحق بفن الرواية من أذى وابتذال؟
محمّد الأمين بحري: طبعاً، وقد أسهبتُ في ذكر مشاركة بعضها في تردي فِعل الكتابة والنشر، في السؤال السابق، وأضيف بأنّ غياب قانون النشر، والذهنية التجارية التي دخل بها أصحاب تلك الدور ميدان النشر، جعلتهم يتخلون عن مبدأ أساسي وهو على الأقل إنشاء لجنة قراءة لتدقيق وغربلة الأعمال الوافدة إليهم، والمخولة برفض أو رد بعض الأعمال على أصحابها، وهنا أسوق مثالاً قد يُجيب عن كلّ الأسئلة حول تورط هذه الفئة في تشويه المنتوج الأدبي، والإساءة للكتابة والكتاب.

من المشين ألا يُفرّق مُثقّف بين النص وكاتبه

إذ اِتصل بي منذ بدأت هذه الكتابات، عدد كبير منهم والفكرة المشتركة بينهم هي: أنّهم لو لم ينشروا أي عمل يأتيهم مهما كان محتواه ومستواه، وبغض النظر عن قيمته وسلامة لغته، فإنّهم سيُفلسون ببساطة ويُغيرون النشاط، وإن وضعوا لجان قراءة فهذه الأخيرة ستطلب منهم قيمة مالية لقاء مراجعة كلّ عضو منها لكِتاب من الكُتب الوافدة إليهم، وهذه في نظرهم مصاريف وأعباء تُرهق تجارتهم، وإن اِقتصروا على نشر الأعمال الجيدة فقط، وردوا الباقي لأصحابها أو رفضوها لكونها غير ناضجة، فلن ينشروا في السنة أكثر من ثلاثة أو أربعة أعمال، وهذا لا يسد حتّى قيمة كراء المحل، أو سداد الضرائب، أو مصاريف المطبعة... وغيرها من أعباء تجارتهم، ولهذا السبب هم ينشرون أي كلام دون حتّى الاِطلاع عليه. وهنا بالتحديد تكمن مسؤوليتهم في صناعة مشهد الرداءة، طبعاً دون تعميم الكلام على دور النشر المحترفة والمحترمة التي تشرف الجزائر في المحافل المحلية والدولية بمنتجاتها أو بِمَا تناله من جوائز وما تُحظى به من مكانة جعلتها شريكاً لدور نشر كُبرى، ومؤسسات خارجية، تصنع الوجه المشرق للناشر والكاتب والكِتاب في الجزائر.
علاقة الناقد الوحيدة تربطه بالنص فقط
كيف ترى علاقة الناقد بالروائيين الشباب الذين كثيرا ما يشتكون من إقصاء النُقاد، والعمل على تكريس روائيين بعينهم؟
محمّد الأمين بحري: لا علاقة للناقد بأي شخص مهما كان، بل علاقته الوحيدة تربطه بالنص فقط. وخارج هذه العلاقة، قد يستفيد جميع أهل الكتابة (وليس الشباب منهم فقط) مِمَا يضعه الدارسون والنقاد بين أيديهم من قراءات ومطالعات ومكاشفات وتحليلات وتقييمات مطبقة على أمثلة نصية مِمَا يقع بين أيديهم في حدود اِهتمامهم، سواء في مقالات أو كُتب أو مداخلات.
لأنّه لا علاقة للناقد بتكريس أشخاص الروائيين أو بقية الكُتّاب (فكلمة كاتب كبير وآخر صغير ومكرس ومهمش...الخ. هي مصطلحات إعلامية، أو للاِستهلاك الإعلامي لا غير، ولا علاقة لها بالمُمارسة النقدية لا من قريب ولا من بعيد)، فالعلاقة الحصرية للناقد تكون بالنص، بغض النظر عمن كَتبه أكان شيخاً أو طفلاً أو كهلاً، فسن الأشخاص وأحوالهم الشخصية، وتقييم علاقاتهم كبشر تدرس في علوم إنسانية أخرى كعِلم الاِجتماع وعِلم النفس، وليس في النقد الّذي يدرس ما تمت كتابته على الورق فقط، دون أن يتعداه إلى أي شيء خارجه، وإن وجد أنّ النص فيه جودة، فإنّ النص يرفع صاحبه بطبيعة الحال، وإن وجد أنّ النص به اِنحراف أو خلل أو خطأ، فإنّ هذا سينعكس طبعا على من ساهم في صناعة هذه الرداءة.
أقول ختاماً؛ بأنّ النقد استكمال جمالي للأدب، (سواء بكشف عيوبه وشفطها، أو بتبيين محاسنه وتبئيرها، أو برصد ظواهره الجديدة أو التجريبية التي تشكل إضافة في فنه)، والعلاقة هنا حصرية بين الناقد والنص ولا دخل للكاتب في هذا الاِشتغال النصي، ومن ظن أنّ النقد يستهدف الأشخاص برفع مقام البعض أو إنزال مقام البعض الآخر، فإنّه قد اِنحرف عن جادة الفعل النقدي، إلى هامش فِعل النزاع الغوغائي الّذي يظن أصحابه (وهمًا أو تضليلاً)، بأنّ نقد العمل هو نقد للشخص. والأمر المُشين والمُؤسف لدى المُثقف أن تجده لا يفرق بين النص وشخص كاتبه. فيخلط بينهما، أو يعتقد بأنّه هذا هو ذاك. فيتخيّل أنّ علاقة النقد بالبشر لا بإنتاجهم الأدبي، وهذا أكبر وهم تعاني منه الساحة الثقافية، للأسف.

النقد الأكاديمي خطوة غير ناضجة في سُلم النقد بمفهومه الأوسع
وماذا عن إشكالية النقد والحرية النقدية والحرية الأكاديمية. برأيك هل يمكن أن ينفصل النقد عن المؤسسة النقدية (الجامعة) للبحث عن اِستقلالية الناقد أم أنّ ذلك يتطلب فضاءً آخر لم يتشكل بعد في الجزائر والعالم العربي بصفة عامة وسائر بلدان العالم الثالث..؟
محمّد الأمين بحري: في الجزائر أو في العالم العربي أو في العالم أجمع، علينا التفريق بين نوعين من النقد: النقد الأكاديمي، والنقد المحترف. فالنقد الأكاديمي، ليس ذلك الّذي صدر عن شخص جامعي، أو تلقى تعليمًا مدرسياً، أو ذلك الّذي يحمل شهادة في تخصص الدراسات الأدبية والنقدية الأكاديمية، بل ببساطة، هو من كان جهده النقدي، يصب في إطار إنجاز مشروع أكاديمي، أو بحث تخرج، أو مذكرة تنتهي بتتويجه برتبة أكاديمية؛ ما يعني أنّ جهده النقدي منصب حول نيل شهادة لها ضوابط إدارية، وتواريخ أكاديمية، لإنجازها وفق معايير منهجية تخدم فلسفة المؤسسة وتوجهها المعرفي أكثر مِمّا تصب في مدار تحليل العمل.

ناشرون أخبروني أنّ الاكتفاء بنشر الأعمال الجيدة سيؤدي بهم إلى الإفلاس!

وذلك لأنّ العمل الإبداعي المدروس من طرف ناقد في إطار تكوينه الأكاديمي، ليس هو غاية الناقد، بقدر ما هو وسيلة لتحقيق غاية أخرى أهم منه (في نظر الأكاديميا) وهي نيل الشهادة والرتبة الأكاديميين.  بأهداف وأُطر إدارية بحتة. لأنّ هذا الناقد الأكاديمي شريكاً في منظومة إدارية، وخاضعاً لشرطيتها وخطوطها الاِفتتاحية التي إن تعارضت مع فكر الإبداع الأدبي وأصالته، فإنّه يتم اِنتهاك العلاقة التحليلية العميقة مع العمل الإبداعي، من أجل الوفاء للتوجه الأكاديمي الّذي يُؤطر العملية النقدية هنا. وهو ما يجعلنا نعتبر بأنّ النقد الأكاديمي خطوة غير ناضجة بعد في سُلم النقد بمفهومه الأوسع.
أمّا النقد المُحترف هو ذاك الّذي يُمارسه شخصان. الأوّل مثقف لم يتلق تكويناً أكاديمياً في هيكلته النقدية التي اِستقاها من متابعاته الأصيلة للحركتين الإبداعية والنقدية، من حوله محلياً وقومياً وعالمياً، فتراه ينجز دراساته بشكل يستهدف تشريح النص الإبداعي وبناء دلالته التأويلية، أي إنّ العمل الإبداعي هنا هو الهدف لذاته ومن أجل ذاته، لتصبح كلّ الأدوات النقدية التي اِستقاها من متابعاته محلياً وعالمياً، وسائل من أجل هذه الغاية.
والقسم الثاني من النُقاد المحترفين هو ذلك الّذي نشأ في بداياته نشأة أكاديمية تلقى فيها جهاز منظومته النقدية، من المؤسسة الأكاديمية التي تخرج منها، وبعد التخرج، تجاوز كلّ تلك الأُطر الإدارية والتنظيمية التي كانت تقيد قلمه بمنهجياتها المؤسساتية، والإدارية. وإذ تحرّر منها، وانفك من إسارها، فعليه في مرحلة قادمة، تجاوز هدفية تحقيق المنهج إلى هدفية محاورة المنجز.
فيحوّل أهداف الناقد الأكاديمي الّذي كانه، من الشكل الإطاري إلى المضمون الإنجازي للنص. وبعبارة أخرى تتحوّل وسائل الناقد الأكاديمي؛ متمثلة في المنجز الأدبي الّذي سعى بدراسته إلى نيل شهادة إدارية، إلى أهداف يستثمر من أجل بلوغها كلّ معارف جهازه النقدي، الّذي صار متحرراُ ومتجاوزاً لقيود الأكاديميات الجامدة. وهنا نستطيع أن نقول بأنّ الناقد الأكاديمي قد صار محترفاً، حينما يقطع علاقته بالوفاء للمنهج، ويستبدلها بالوفاء للنص، وبعبارة أوجز، نقول: إذا كان المنهج عند الناقد الأكاديمي هو من يقرأ النصوص التي يتم إسقاطه عليها. فإنّ النص لدى الناقد المحترف هو من يقرأ المناهج، ثمّ يفككها، ويختار ما يصلح لهوية النص منها، فيقرأها ويُحاورها ويُعدِل فيها، ويقبل منها ما يتلاءم ودلالاته ويسقط منها ما لا يتوافق مع رؤيته، وهذا ما يُحرّر النص ورؤية الناقد من سطوة المناهج الأكاديمية التي كانت تُفرض عليه قبل التخرج. ويتطوّر إلى ناقد محترف يقرأ النص بروح المناهج، ويقرأ المناهج بفلسفة النص، ويستخلص دلالاته من رؤيته التراكمية، وليس وفاءً لأي إجراء أو منهج خارجي.

نصوص تصدر بصورة كارثية لغوياً وفنياً ومستوى يُسيء لصاحبه وللفن الّذي يكتب فيه

والدليل على هذا التحوّل الإيجابي؛ أنّ كثير من المذكرات والبحوث الأكاديمية أضحت منجزات نقدية، بعد اِنتهاء مرحلة التكوين الأكاديمي، لكن بعد تحويرها كلياً، وتجريدها من صبغتها الأكاديمية، وإعادة كتابتها بشكل يُلائم روح النقد لا روح الإدارة وشرطياتها الأكاديمية، ليصبح الناقد مستهدفاً للنص بعد أن كان مستهدفاً نيل شهادة، كلفته من قبل؛ التنازل عن جواهر الرؤية التحليلية، فأسقطها فقط بسبب تعارضها مع الرؤى الأكاديمية.
أمّا الوجه المأساوي من كلّ هذا الإنجاز النقدي، أن يتم طبع الرسائل الأكاديمية، كما هي في صيغتها التي تخرّج بها الباحث، لتصبح كِتاباً نقدياً هو نسخة طبق الأصل للمذكرة، دون إعادة كتابة، وتحوير جذري، يُحرّره من الأكاديميات التي لم يعد لوجودها أي معنى خارج أسوار الجامعة. فنجد أنفسنا أمام رسائل أكاديمية، صرفة في شكل كِتاب. وما هذا بالنقد الناضج ولا ينبغي له.
فئة من الأكاديميين يعتقدون بأنّ الشارع الثقافي مشكّل من طلبة في طور التكوين
وماذا تقول عن ما يملأ الساحة الآن من منجزات في هذا الإطار؟
محمّد الأمين بحري:  أمّا عمّا يملأ الساحة الآن من منجزات فهناك إنزال نقدي مُحترف غزير، يكتب فيه الكثير من النقاد المحترفين، مِمّن ولدت ذائقته دون تكوين أكاديمي، لكن صقله الميدان الّذي يهواه، فانتقل من الهواية إلى الاِِحتراف، بقوّة نضجه الثقافي.
ومنهم من كان من الأكاديميين، فكسروا القوقعة الأكاديمية بمجرّد خروجهم من فترة التكوين، وحرروا ذوائقهم، ورؤاهم النقدية التي تجعل النصوص بين أيديهم تخترق كلّ المناهج، وتُضيف إليها من روح النص، فتقبل ما تستسيغه، وتُسقط ما لا يتماشى وروح النص. كما لا يزال (بكلّ أسف) من منتسبي النقد الأكاديمي، من يطبعون المذكرات الأكاديمية. مُصمتة في منهجيتها، وأسلوب كِتابتها، وأبجديات قوالبها التي لا تمت للنص بصلة. ولا يزالون يرسلونها إلى المطابع. ليُعيدوا نشرها كرسالة أكاديمية موجهة للإدارة، (رغم أنّها قد خرجت منها) أكثر من كونها منجزاً نقدياً مُوجهاً للنص وجُهداً مُوجهًا للمُثقف الأشمل. كأنّهم يعتقدون بأنّ الشارع الثقافي الّذي يتوجهون إليه بتلك الرسائل الأكاديمية المنشورة، مشكلاً من طلبة في طور التكوين.
وهذه الفئة من الأكاديميين، مازالوا يرزحون تحت قوقعتهم الأكاديمية، يرفضون الخروج منها، ولعلهم لا يعرفون الخروج منها، لقراءة نص معين لذاته ومن أجل ذاته.

الرجوع إلى الأعلى