الغرب سبـق الشّـرق في الاعتراف بنقديتي

يتحدث الناقد والباحث الأكاديمي الدكتور عبد الملك مرتاض، في هذا الحوار، عن تتويجه وفوزه بجائزة سلطان العويس الثقافية في دورتها السابعة عشرة (فرع الدراسات الأدبية والنقد)، موضحاً هنا أنّه ترشح لهذه الجائزة في أوائل إنشائها مرتين ولم ينلها، لأنّه كان يأتي في الرتبة الثالثة في سُلم الترشيحات. لهذا عزف نهائياً عن الترشح لها غير مفكّر في شأنها أكثر من عشر سنوات. لكن في الآونة الأخيرة –كما يقول-: «أغراني أحد تلامذتي بالترشّح لها، لأنّني أملك كلّ معطيات المرتبة الأولى، ما جعلني أقدم بعض آخر كُتبي التأسيسيّة مع الكُتب الأخرى الثقافيّة وعددها ثمانون مُؤلَّفاً، فكان الفوز والتتويج في دورة هذا العام». مضيفاً في هذا السياق: «لقد قدمتُ في مسيرتي الأدبيّة والنقدية كثيراً؛ فكان لا بدّ من أن يأتي يومٌ يُعترَف لي بهذا التقدير الّذي أعتزّ به اِعتزازاً عظيماً».

حاورته/ نــوّارة لــحــرش

مرتاض خاض أيضا في بعض الشؤون الثقافية والنقدية من بينها واقع النقد في العالم العربي، إذ قال في هذا الشأن وبكثير من الأسف: «الّذي نحزن له حقّاً أنّ أعمالاً نقديّة عربيّة متميّزة حقّاً، وأنّها بلغت حدّ الإبداع والاِبتكار والتأسيس، ولكنّها لم تترجم إلى اللغات العالميّة».
كيف تلقيت تتويجك وفوزك بجائزة سلطان العويس الثقافية في دورتها السابعة عشرة (فرع الدراسات الأدبية والنقد)؟ وهل كنتَ تتوقع هذا الفوز خاصةً وأنّ 285 مرشحاً في حقل الدراسات الأدبية والنقد كانوا يتنافسون على الجائزة؟
عبد الملك مرتاض: كنتُ ترشحتُ لهذه الجائزة في أوائل إنشائها مرتين، ولكنّي، وإن قيل لي كنتُ مرشحاً لها في الرتبة الثالثة، إلاّ أنّي لم أنلْها؛ فعزفتُ عنها نهائياً أكثر من عشر سنين، وحتّى تأخذ الوجوه المشرقيّة منها ما تأخذ، وإن كان المشرفون على الجائزة يقسمون بينهم مناصفةً غالباً، وذلك ما لم أكن أرغب فيه.
وظَللْتُ عازفاً غير مُفكّر في شأنها نهائيّاً، إلى ما قبل سنتين ونصف، أغراني أحد تلامذتي بالترشّح لها، لأنّي أملك كلّ معطيات المرتبة الأولى، فقدمتُ بعض آخر كُتبي التأسيسيّة مع الكُتب الأخرى الثقافيّة وعددها ثمانون مُؤلَّفاً؛ فكان الخبر السعيد والحمد لله على أفضاله.
جاء في بيان الجائزة، أنّ فوزك يعود إلى ما تتمتع به مؤلفاتك من عُمقٍ وشمولٍ غطت مجالات عِدة  في الدراسات الأدبية. هل ترى أنّ هذا التتويج من مؤسسة سلطان بن علي العويس هو بمثابة الاِنتباه الضروري لجهودك النقدية والبحثية، وإن جاء متأخراً بعض الشيء؟
عبد الملك مرتاض: نعم! لقد قدمتُ في مسيرتي الأدبيّة والنقدية كثيراً؛ فكان لا بدّ من أن يأتي يومٌ يُعترَف لي بهذا التقدير الّذي أعتزّ به اِعتزازاً عظيماً، وأرى هذه الجائزة تتشرف بها الجزائر كما أشرُفُ أنا بها، فما أنا إلاّ اِبن هذه الطينة الطيبة التي أنجبت كثيراً من عظماء الرجال عبر العصور.
ظلّ الاِعتراف بنقديّتي قائماً في الغرب، دون أن يتنبّه المشرق والمغرب إلى ذلك
سُجِّل اِسمك سابقًا في موسوعة «لاروس» بباريس مصنَّفاً في النّقّاد، وأُدرِج في هذا الكِتاب العالميّ الموسوعيّ المهم. كيف تقرأ هذا الاِعتراف الدولي والعالمي بجهودك النقدية والبحثية؟
عبد الملك مرتاض: كان ذلك منذ أكثر من عشرين عاماً، فظلّ الاِعتراف بنقديّتي قائماً في الغرب، دون أن يتنبّه المشرق والمغرب إلى ذلك، وإن كنتُ نلتُ كثيراً من التقدير بكتبي التأسيسيّة التي أصبح المشارقة يتهافتون عليها كثيراً، حتّى إنّ داراً في القاهرة للنشر طلبت من مؤسسة البصائر حين كانت تنشط في مجالها، أن توافيَهم بعشرة من هذه الكُتب لتنشرها مجتمعةً.
غير أنّ أحد وزراء الثقافة السابقين عارض أن تطبع وزارة الثقافة كُتبي، مع أنّي رعيته وهو شابّ، وكان يدعي لي بالمودة، من حيث نشرت الوزارة كلّ من كتب كتابين اثنين أو أكثر من ذلك من زملائي الأدباء الجزائريّين، فظلْت مظلوماً في وطني غيرةً وحسداً.
فقط أضيف بشأن تسجيل اسمي في موسوعة «لاروس» بباريس، أنّي حينها كنتُ قرأتُ هذا الخبر في جريدة «المجاهد» اليوميّة، الناطقة باللّغة الفرنسيّة، ولم أطّلعْ عليه شخصيّاً. ويمثّل مثل هذا التسجيل إقراراً ببلوغ الشخص المستوى الّذي يجعله في زمرة النقّاد العالميّين، فهو بمثابة الدّمغة الشرعيّة للتصنيف النقديّ.
غير أنّ ذلك إذا وقع لأيّ شخص لا يشفع له فتِيلاً في أن يكون ناقداً حقّاً ما لم يواظب، ويُصْرِرْ، وينصَبْ، كيما يُضيفَ جديداً في سجلّه الشخصيّ من وجهة، وفي سجلّ النقد العالميّ من وجهة أخرى. والّذي نحزن له حقّاً أنّ أعمالاً نقديّة عربيّة متميّزة حقّاً، وأنّها بلغت حدّ الإبداع والاِبتكار والتأسيس، ولكنّها لم تترجم إلى اللغات العالميّة. ولعلّ ذلك يعود إلى أنّ الذين يتكلّمون هذه الألسُن بطلاقة واقتدار لا يعرفون من العربيّة إلاّ قليلاً، والعكس صحيح، مِمَّا جعل بعض هذه الأعمال، وهي قليلة على كلّ حال، لا تَحظى بالترجمة من العربيّة إلى سَوائها من اللغات...
وكان المستشرق الأمريكيّ دافيد إيرك قد ترجم لي إلى اللّغة الإنجليزيّة سنة 1986 فصلاً كاملاً من كتابي: «الأمثال الشعبيّة الجزائريّة»، ونُشر في كتاب بجامعة ميامي (ولاية فلوريدا).
كنتَ عضواً في لجنة التحكيم لمسابقة أمير الشعراء التي تنظمها هيئة الثقافة والسياحة والتراث في أبو ظبي، كما كنتَ عضواً ومحكمًا في الكثير من الجوائز والمسابقات. كيف ترى الأمر الآن وأنت المُتوج ولست في مقعد التحكيم، ما الفرق؟
عبد الملك مرتاض:لا أعتقد أنّه يوجد فرْقٌ كبير بين الاِثنين، فتحكيمي في مسابقة أمير الشعراء عملٌ رتيبٌ ظلِلْنا ننهض به، وللإخوة القائمين على المسابقة كلّ التقدير حيث ظلْتُ حكماً في الجائزة من أوّل مواسمها إلى يومنا هذه، وأربط دائماً هذه الأفضال بالاِنتماء إلى جزائري الحبيبة.

حقل الرواية طغى بعض الشيء على الأجناس الأدبيّة الأخرى
جوائز النقد والدراسات النقدية قليلة في العالم العربي مقارنةً بجوائز الرواية مثلاً؟ هل ترى أنّ هذا يشكلُ إجحافًا في حق الحقول النقدية والبحثية وفي حق النقاد والباحثين؟
عبد الملك مرتاض: حقّاً إنّ حقل الرواية طغى بعض الشيء على الأجناس الأدبيّة الأخرى، إلاّ أنّ جائزة العويس تُراعي النقد والرواية فتجعلهما في اِهتمام واحدٍ.
وكان يمكن أن أتقدّم للجائزة بالترشّح لها من خلال أعمالي الروائيّة حيث بلغت إلى الآن، فيما أذكر، أربعَ عشرةَ روايةً، ولكنّي آثرت الترشح للجائزة النقديّة لأنّ النّاس أصبحوا يصنّفوني ناقداً أكثر مني روائياً بحكم نشاطي في الجامعة والملتقيات وتحكيم المقالات للدوريات.
النقد لدينا إبداع خالصٌ وليس ينبغي أن يقلّ جمالاً عن النص المكتوب عنه
هل تقرّ بأنّ الناقد فيك، غطّى أو أثّر على حضور المبدع فيك؟ وهل كنت ترغب مثلاً، لو أنّك تفرّغت لكتابة الرّواية والشِّعر؟ أم أنّ للنقد سحره وشغفه الّذي يجعلك تمارسه بكلّ إبداع؟
عبد الملك مرتاض: لقد استطعتِ أن تجيبي عن الأسئلة في سؤالك الأخير. النقد لدينا إبداعٌ خالصٌ، وليس ينبغي أن يقلّ جمالاً عن النص المكتوب عنه، فنحن حين حلّلنا، في كتابنا «ألِف- ياء»، مثلاً، قصيدة «أين ليلاي» لمحمّد العيد آل خليفة قد نكون كتبنا عدّة قصائدَ عن واحدة. وكذلك جئنا ذلك، في معظم كتاباتنا عن الشِّعر والقصة والرّواية، إلى آخر كتبنا، وهو عن مطالع المعلّقات: «الشِّعر الأوّل»، ذلك بأنّا نرى أنّ الذين يرون النقدَ علماً هم قد يحملون عُقَداً إزاء العلماء التجريبيّين في العلوم الدقيقة، مثلاً، لأنّ العلم هو ما تتمّ البرهنة عليه ببرهان دامغ مثل قولنا: 4 + 4 = ثمانيَة. وكلّ من انتهى إلى غير هذه النتيجة عُدّ مخطئاً.
بل أنا أدعو إلى أن تكون لغة النقد موازية من حيث علوّ مستواها، وجمال نسْجها، للمكتوب عنه شعراً كان ذلك أم سرداً. وعلى أنّ من الكتابات السرديّة المصنَّفة على أنّها أدب، ليس لها من الأدبيّة شيء!.
الجنس الأدبي إذا كان راقياً رفيعاً هو الّذي يفرض نفسه على الهيئات المُكافئة
في وقت سابق قيل الرواية ظُلمت لكن الجوائز أنصفتها. فهل يأتي وقت ونقول النقد ظُلِمَ والجوائز ستنصفه؟
عبد الملك مرتاض: ربّما يكون ذلك. لكنّي أعتقد أنّ الجنس الأدبي إذا كان راقياً رفيعاً هو الّذي يفرض نفسه على الهيئات المُكافئة، فتضطرّ إلى الاِعتراف به، ومن ثَمّ تتوّج صاحبه بِمَا هو أهلٌ له من التقدير والاِعتراف.
الناقد لا يمكن أن ينفصل عن التأسيسات الجامعيّة للنقد لأنّها هي منطلقه وموئله
هل يمكن أن ينفصل النقد عن المؤسسة النقدية (الجامعة) للبحث عن اِستقلالية الناقد أم أنّ ذلك يتطلب فضاءً آخر لم يتشكل بعد في الجزائر والعالم العربي بصفة عامة وسائر بلدان العالم الثالث؟ وهل يمكن للجوائز أن تكون هذا الفضاء مثلا؟
عبد الملك مرتاض: هو مفصولٌ في كثير من أطواره؛ غير أنّ التأسيس ينطلق أبداً من الجامعة، ومَن لا يكون جامعيّاً يعسر عليه مُمارسة النقد الأكاديمي الرفيع؛ فربّما يتناول النصوص التي يقرؤها من خارجها فقط، فيظلّ يحوم ولا يقعُ.
قلنا: إنّ الناقد لا يمكن أن ينفصل عن التأسيسات الجامعيّة للنقد لأنّها هي منطلقه وموئله، فبين أحضانها يتخرج النُقّاد؛ ولكنّهم يتفاوتون، أثناء ذلك، بحسَب عوامل كثيرة كأن تتمثّل في نوع قراءة ما يقرأ؟ وهل يعرف لغة أجنبيّة تُعنى بالنقد أكثر من سواها كالفرنسية، حيث إنّ الألمانيّة مثلاً تُعنى بالفلسفة أكثر من النقد الأدبي.
في الأخير آسف على هذا التبسيط والإيجاز الشديدين في الإجابة عن أسئلتك الذّكية. وإنّي لا أدري كيف اِسترقت من نفسي هذه الدقائق لأجيبك اِحتراماً وتقديراً لمتابعاتك الثقافية. فأنتِ تعلمين كم وقتي الآن الّذي كنتُ أملكه، لا أملك منه اليوم شيئاً كثيراً.

سيرة مختصرة:
عبد الملك مرتاض من مواليد 10 ديسمبر1935 في مسيدرة بولاية تلمسان، أستاذ جامعيّ ومُحاضر، علمٌ من أعلام النقد العربيّ، وكاتب موسوعيّ، يصول ويجول في كلّ فنون وأنواع الأدب: إبداعًا ونقدا، قصّة وشعرا، رواية ومسرحًا. تقلّد منصب رئيس المجلس الأعلى للغة العربيّة (1998-2001)، بقرار تعيين من الرئيس الأسبق اليمين زروال، وفي فترة توليه رئاسة المجلس، أنشأ مجلة «اللّغة العربيّة»، وتمّ نشرْ معجماً للمصطلحات الإداريّة، كما قامت هيئة المجلس تحت إشرافه بإقامة العديد من الفعاليات الثقافية تمثلت في ملتقيات وطنية ودولية، حول «وضع ومكانة اللّغة العربيّة بين اللغات العالميّة».
لمرتاض، مجموعة كبيرة من الإصدارات، تجاوزت أكثر من سبعين (70) كتاباً في مختلف الفنون الأدبيّة والنقديّة والدراسات. ففي الرّواية على سبيل الذكر، صدر له: «وادي الظلام» عن دار هومة بالجزائر، «رباعيّة الدم والنار»، وثلاثيّة الجزائر: «الملحمة»، «الطوفان»، و«الخَلاص»، كما صدرت له رواية/ سيرة ذاتيّة بعنوان «الحفر في تجاعيد الذاكرة» عام 2003 عن دار هومة بالجزائر، وعام 2004 عن دار الغرب بوهران.  كما صدر له في النقد الكثير من العناوين النقديّة المختلفة، وطنيا وعربيا، وبفضلها سُجِّل اِسمه في موسوعة «لاروس» بباريس مصنَّفاً في النّقّاد، كما أُدرِج في هذا الكِتاب العالميّ الموسوعيّ المهم، ويعد هذا الإدراج إضافة واحتفاليّة دولية لاسْمه، ومنجزه النقديّ على وجه الخصوص. كما ورد اِسمه في موسوعات أخرى أجنبية وعربية.

الرجوع إلى الأعلى