يمكنُ الحديث عن الشِّعر كطبيعة، وهذا يفتح الباب على أُفق لانهائي يتقاطع في ذلك الوجود بِمَّا فيه من معدن ونبات وإنسان. إذا تحدثنا عن الشِّعر كصفة يدخل العروض والقافية وبقية المعجم. الشِّعر داخل الطبيعة يقتنص بالمخيلة وليس بالثقافة. الشِّعر كصفة متلازم مع الثقافة. الثقافة حوّلت الشِّعر وكتابته إلى انعكاس للمكتسبات التي لها حكم نسبي. الثقافة مسؤولة عن ضعف النقد وتهالك الرؤية إلى الشِّعر. الشِّعر وهو يبتعد عن الثقافة يلتقي بالإنسان، تكبر دائرة تلقيه، يُعاش كحس مُختلف داخل العادي والمُتكرر. الطبيعة تدفع بحس الشِّعر إلى الوجود بصور لانهائية، إذ الشِّعر في النهاية هو اللاشكل أو الخروج من القيود والأقواس.

* محمّد خطّاب

الثقافة في صورة المنظومة هي أن يبدأ العقل بالاِشتغال على المبادئ وتصورها كحدود لكي يتحوّل الحس الشِّعري إلى حس مُتعال داخل قوالب منتهية. وكلما صار الشِّعر إلى حدّ من الحدود كلما تلاشى حس الطبيعة أو الحس البدائي المُتخيل والنقي حول الشِّعر. حينما نقول إنّ الثقافة تشويهٌ للحس فهذا معنى حاصل لتصور معين عن ثقافة مقصودة وهي الثقافة الحدية التي تهتدي بالقياسات والقواعد.
هناك في المقابل نوع مختلف من الثقافة التي تهتدي بالحس الطبيعي دائمًا، الثقافة التي تتقاطع مع الطبيعة لكي تخلق صورة جديدة للشِّعر. داخل هذه الثقافة النادرة يتعاظم حس الشِّعر وينتقل إلى موقع جديد، موقع آخر. أنا أفكر في محاضرات بورجيس وأوكتافيو باث عن الشِّعر، وفي ثقافتنا العربية مجموع ما كتبه أدونيس مثلاً أو سركون بولص في الحوارات أو أنسي الحاج في الكلمات ومجموع ما قام به الشعراء أنفسهم داخل غِنى الحكايات والأساطير. هؤلاء الشعراء والكُتّاب اِشتغلت مخيلتهم عن الشِّعر من موقع التجربة/تجربة الكتابة. لذلك هم يرونه دائمًا خارج كلّ ثقافة وخارج كلّ تصنيف، محاضرات بورجيس تبدأ بالإنكار على الأقل إنكار الفهم للشِّعر ولا تبدأ بيقين، اليقين الّذي تُؤسس له سلطة المعرفة الحدية. الشِّعر دائمًا يتراءى لبورجيس في صورة أشكال لا منتهية.
الحس الإنساني هو الّذي يهب الثقافة معنى نستطيع أن نسميه «جميلاً» أو شفافًا، لأنّ ما يُثقل الثقافة ويُحولها إلى سلطة هو المفهوم المغلوط عن العقل الّذي يتوارثه الإنسان مع التاريخ. حينما تكون الثقافة عنصراً فاعلاً للمخيلة وليس العنصر الأصيل فيها، تُصبح أفقًا يخصب المعنى أو الحس الشِّعري. وهنا تُحافظ الثقافة على بنيتها الأسطورية وعلى الحكاية الأولى. مثل هذه الثقافة تعيد إنتاج معنى الشِّعر بعيداً عن التصنيف. لا حاجة إذن للحدود التي تُربك الشِّعر وتضعه في قوالب جاهزة. الأسطورة، الحكاية، اللّغة التي تحكي البدايات، حكاية الغيب، المُقدس من دون أقنعة لاهوتية، هذه كلها ثقافة تتقاطع مع الشِّعر كحس طبيعي. إنّ حجم الأسئلة التي تُثيرها مثل هذه الثقافة ذات طبيعة إبداعية خصبة.
إنّ سؤال أين هو الشِّعر داخل ثقافة مجتمع يُؤسسه المخيال والحكاية؟ يصبح سؤالاً مجانيًا، لأنّ الشِّعر يكون حيث يكون. داخل المخيال يتحرك الشِّعر ممتزجًا بروح الثقافة السائدة وهو يتلقى كحالة أو كتجربة جمالية في صورة المُتعدّد. في السماع والحركة والمكان، أي في كلّ تمظهرات المجتمع المختلفة. لو ظلت الثقافة في موقع المُخيلة لظلّ الشِّعر بنفس التوهج الّذي تُبدعه الطبيعة، ولكن الثقافة في معظم أحوالها دخلت مُعتركًا جديداً وفضاءً مختلفًا وبدأت تتأسس كسلطة وإرادة فوقية، ومن ثمّة اِنسحب الشِّعر/التجربة وبقي الشِّعر/الشكل.
ظهور القصيدة كمفهوم وليس كتجربة من دون تسمية قتل الشِّعر. في الجاهلية كان هناك القول الشِّعري أو الشِّعر بالمُطلق ومع حلول عصر العقل ودخول الأدب دائرة «التلقي النقدي» بدأت أشكال من المفاهيم المُتعلقة بالشِّعر تُسيطر على جسد الشِّعر الحقيقي. هذا وجهٌ من وجوه التشوهات التي حصلت في التراث، حيث غاب الشِّعر وتوارى خلف القصيدة التي تمثّلها النقد في صورة مُطلقة للشِّعر. هناك حلقة خفية لم تُستثمر بعد وهي القراءة الأجنبية للشِّعر، أي الثقافة الفلسفية مثلاً التي كان لها رأي في الشِّعر الّذي لم يُقرأ من قبل النقد الفقهي، الشذرة التي تركها الكندي حول أبي تمام حينما أرجع الصعوبة إلى مصادر الشاعر الغنية منها الفلسفة، كأنّه أراد أن يقول: لمقاربة شعر أبي تمام لا بدّ من القراءة الكثيرة للفلسفة التي أمدت الشاعر بخبرة عن العالم.
للثقافة وجهان في علاقتها بالشِّعر، الوجه الأوّل ثقافة الشعراء التي تشتغل داخل تجربة الشِّعر ذاته، حيث لا يختلف الاِنشغال عن القول. إنّه فضاء موحد جامع بين حالة التجربة الشِّعرية أو لقاء الشِّعر كحالة مع العالم، وبين تمثل هذا اللقاء أو العلاقة الجامعة. والوجه الثاني هي نوع من ثقافة سيادية تجعل من الشِّعر لاحقًا وحالة تبريرية للمُعتقد أو للفكرة القائمة. مثل حدود الشِّعر التي صاغها النقد في كلّ الثقافات «فقط في الثقافة العربية عمومًا أخذت حركة الحداثة والخروج عن الحدود مجرى مُختلفًا ومتأخراً». والحدود صيغت كسلطة معرفية داخل القول الأدبي -لا ننسى أنّ هذه الحدود نفسها أسست لمعنى ما هو -الأدبي؟- كان من إستراتيجيّتها هو معرفة الفرق بين ما هو شعر وما ليس بشعر اِبتداءً من الظاهرة الشكلية التي لها متعلق بالوزن والقافية أو إيقاع اللّغة منذ القديم وتغيرت اليوم حيث الجدل في مُسمى قصيدة النثر. لكن هذه الإستراتيجية قتلت روح الشِّعر في النثر. الشِّعري في رأيي على الأقل تخلل النثر كثيراً لا باِعتبار الشكل، بل باِعتبار الرؤية والمخيلة والجوهر: نصوص الشذرات الصوفية، ألف ليلة وليلة، نصوص الفلسفة، هذه كلها اِعتمدت على الشِّعر كحس لتصل إلى حالة من التعبير عن معنى لا نصل إليه بالنثر.
التراكم الّذي حدث «وهذا يجب أن يدرس على حِدة» هو أنّ ثقافة الحدود أخذت من الفقه والمنطق الّذي ساد بيئة الفلاسفة والمحدثين وجعلت منه معياراً للفهم والتذوق، وتضخمت سلطة النقد لكي تستوعب الأشكال الأدبية من منظور فوقي. فكرة الخضوع هي التي شكلت بنية هذه الثقافة، لأنّ التراكم يخفي تقاطعات شتّى حدثت بين الفقهي والسّياسيّ والتاريخي والجغرافي أيضا. يأتي الثقافي لكي يصوغ في النهاية الخطاب الّذي يستوعب الشِّعر.
ما الّذي يمكن أن تصنعه الحداثة «بمعناها الثوري البنّاء» إزاء هذا التراكم؟ وإزاء هذه السلطة التي أخضعت الأشكال الأدبية للتصنيف المنطقي؟ دور الحداثة يكمن في قراءة التراث الشِّعري عاريًا من الأوصاف وخارج المعيار. هذا مطلبٌ صعب يبدأ بفهم الأشكال الخفية لسلطة النقد التي اِمتزج فيها السياسي بالاِجتماعي وبالديني وبالثقافي أيضا. أن تعزل هذه السلطة/السلطات ثم ترى إلى الشِّعر الّذي يُقابل العالم مهمة صعبة لكنّها مؤدية.
يأتي دور اللّغة الّذي يُشكل عتبة للفهم. كيف نقرأ الشِّعر داخل لغة شفافة مُبدعة لا تنتهي صورها؟ لغة تتخلق مع كلّ قراءة. لغة تُخاطب تجربة المُتعدّد. الحداثة التي تُعيد إنتاج الذاكرة تتصوّر اللّغة عالمًا لا يخضع للماقبل، لغة هي قبل القاعدة، لغة يجد الشِّعر فيها ذاته. يستطيع أن ينتقل وأن يُبدل مواقعه فتنتقل معه اللّغة في شكل جديد. الحداثة تقرأ الشِّعر في لغة مُتجدّدة. التصوّر التقليدي يرى إلى اللّغة في إطار مرسوم سلفًا بقواعده النحوية والصرفية والدلالية، ولا يمكن تصوّر فاعليتها داخل تنوع الثقافة، لأنّ هذه الفاعلية أصلاً مرتبطة بسلطة المعيار، فاعلية مقيمة في الزمان والمكان. ليس هناك إيمان بالاِنتقال وتبديل المواقع، إذ لا نقاش مع المعيار الّذي فرضته سلطة معينة جاءت من موقع أعلى «موقع هرمي» يُؤكد أنّ الدين هو الحاكم. واللّغة ما هي إلاّ ظاهرة تتبع ما للمُقدس من معنى ومركز. داخل هذا التصوّر يتحوّل الشِّعر إلى مجرّد أداة لا تتعلق بالجوهر ولا صلة لها بالعوالم، بل متعلقها أحكامٌ ومعان ذات صلة بِمَا تقرر داخل المركز. الشِّعر الأخلاقي جزئية داخل هذه الثقافة. ينسب للشاعر لبيد بن ربيعة قوله: «ما كنتُ لأقول شِعراً بعد إذ علمني الله سورة البقرة وآل عمران» ويبدو لي من وجهة نظر نقدية أنّ هذه المقولة جاءت من مركز آخر ولبيد مجرّد هامش «هامش تقليدي ومهم» للتأثير على الذائقة والذاكرة، بينما المقصود أنّ مركزية الشِّعر تالية لمركزية المُقدس، وهذا ليس من تراكمات الثقافة، بل من إملاء السلطة.
يُصبح الشِّعر كتجربة في الوجود وفي اللّغة أيضًا ظاهرة يستقطبها المقدس تسمية المقدس شأن بشري صرف. تبقى سلطة المعرفة الدينية مهيمنة على جميع المستويات وتجد في الشِّعر أداة فاعلة لاِستمرار التأثير «معظمه سلبي للأسف الشديد لأنّه يلغي السؤال والشك». داخل هذه الأسئلة يمكن العودة إلى ميراث نادر وقليل كان يتعامل مع الثقافة بشفوف جميل. التصوّف كنموذج، وليس التصوّف الّذي تحوّل إلى مجرّد سلطة دينية داخل مدارس واتجاهات، بل التصوّف التجربة الّذي جعل من اللّغة كمكتسب ظاهرة وجودية يتمحوّر حولها العالم كله. إضافات هذه الثقافة فتح إمكان النظر إلى الشِّعر خارج القصيدة وهذا ما أضافه التصوّف أو العرفان. تأتي السلطة لكي تتعامل مع لغة التصوّف التي هي لغة الشِّعر كلغة مُدانة لأنّها خرجت عن المقدس وتطاولت على المركزية.
السؤال الّذي يدفعني إلى التفكير داخل الشِّعر هو كيف نُؤسس لثقافة لا تعترف بالمركز وتتقاطع مع ما هو جوهري داخل ذاكرة مشوهة؟

الرجوع إلى الأعلى