الروايـة فتحـت أمـامـي بعـض مجـاهـل النفـس

* كتاباتي المتنوعة تصب كلها في بحر واحد       *  اِنتقال الروائي من تيمة إلى تيمة ضرورة تفرضها الحالة الإبداعية

، يتحدث الكاتب والباحث والناقد محمّد مفلاح عن عوالمه الأدبية المتنوعة والتي تشمل (القصة، المسرح، أدب الطفل، المقال، النقد، البحث والرواية)، وعن اِهتمامه بالتاريخ والتراث الشعبي الجزائري والتصوّف، ودوافع اِشتغاله ، وفي هذا السياق يخص بالتحديد اِشتغاله على تاريخ منطقة غليزان، حيث تبقى أكثر منطقة ظل ينقبُ ويغوص فيهاً. مؤكداً في هذه النقطة، أنّه لا يمكن إنصاف منطقة غليزان وغيرها من مناطق الوطن إلاّ بتأسيس مخابر للبحث يتولاها ذوو الاِختصاص حقًا. مضيفا «لولا اِنتمائي واستقراري بمنطقة غليزان لَمَا تمكنتُ من اِنجاز أي بحث عن هذا التاريخ المحلي. ولا ريب أنّ نشاطي السياسي ساعدني كثيرًا على معرفة كلّ قُرى ومُدن المنطقة، والإطلاع على تراثها وتقاليدها ورموزها الثقافية».

*  حاورته / نوّارة لحـرش

صاحب «الوساوس الغريبة»، تحدث أيضا عن اِهتمامه بالرواية التي هي برأيه الجنس الأدبي الوحيد الّذي فتح له بعض مجاهل النفس، وعرّفه على عوالم جديدة. ومن جهة أخرى منحه المتعة والمعرفة معًا. كما تحدث عن جيل المؤسسين للرواية الجزائرية، وهو الجيل –حسب قوله- الّذي زرع فيه بذرة نَمت في أجواء خصوصية البيئة التي كان يعيش فيها، وزرع فيه بذرة الرواية التي تفطن إلى أهميتها وقدرتها على اِستيعاب قضايا ومعارف المجتمع الجزائري. كما تطرق في حديثه لموضوع الواقعية، قائلاً: «بمرور الوقت وجدتُ نفسي أميلُ إلى الرواية الواقعية، وأحب الأجواء التي تقدم لي عالم الإنسان في محيطه المحلي وبشكل فني جميل».
تكتب القصة والمسرح وأدب الطفل والمقال والرواية، وتشتغل كباحث في شؤون التراث الجزائري والتصوّف والتاريخ. أين تجد متعتك وراحتك أكثـر؟
محمّد مفلاح: بدايتي كانت مع القصة القصيرة وقد مارستُها بسبب مدة اِنجازها وإمكانية نشرها في الجرائد والمجلات، ثمّ كَتبتُ تمثيليات إذاعية متأثراً بمسرحيات موليار وكوناي وراسين التي كانت تُدرّس لنا بالمتوسطة. وفي السنوات التي درّستُ فيها، كتبتُ قصصًا لتلاميذي ثمّ لطبلتي بالمتوسطة، وقد نشرتُ بعضها. ولكنّني مِلتُ إلى كتابة الرواية فخصَّصتُ لها جل وقتي. وكان الطاهر وطار يُشجعني على مواصلة الجهد في هذا الجنس الأدبي، كان يقول لي: «إنّك روائي بحق تملك الأداة». أمّا المقال فقد كتبته للمساهمة في الحياة الثقافية بقراءاتي للإنتاج الثقافي فقط، وجهدي في هذا المجال متواضع، وهذا لتخوفي من الاِنصراف عن كتابة الرواية. ولم أهتم بالبحث في التاريخ المحلي -منطقة غليزان- إلاّ بعدما لاحظتُ فراغًا مهولاً في هذا الحقل، فشرعتُ في الكتابة عنه حتّى لا يضيع منا جزءًا مُهمًا من الذاكرة الوطنية. وأعتقد أنّ كتاباتي المتنوعة تصب كلها في بحر واحد هو رغبتي في ولوج عالم الإنسان بكلّ أبعاده. والرواية هي الجنس الأدبي الوحيد الّذي فتح لي بعض مجاهل النفس، وعرفتني على عوالم جديدة، وفي هذا الشكل الفن متسعٌ للتعبير عن كلّ قضايا الإنسان والمجتمع.
في اِشتغالك على التراث الشعبي وتاريخ الجزائر، تشتغل أكثـر على تاريخ منطقة غليزان، حيث تنقب وتغوص فيها كثيراً. هل يمكن القول أنّك أنصفت منطقة غليزان من خلال كُتبك وأبحاثك؟
محمّد مفلاح: أرى أنّ رغبتي في معرفة بيئتي لكتابة رواية عميقة، كانت السبب الأوّل من وراء هذا الاِهتمام، وبخاصة بعد أحداث أكتوبر 1988، وقد بادرتُ بالتنقيب في الذاكرة الشعبية للبحث عن أجوبة على تساؤلاتي المُحيرة. وتمخض هذا الاِهتمام عن اِنجاز مجموعة كُتب في تراث وتاريخ منطقة غليزان، ومع ذلك أعتقد صادقًا بأنّني لم أقدم إلاّ جزءًا ضئيلاً من تاريخ غليزان الّذي يُشكل حلقة من تاريخ الجزائر. ولا يمكن إنصاف منقطة غليزان وغيرها من مناطق الوطن إلاّ بتأسيس مخابر للبحث يتولاها ذوو الاِختصاص.
للروائي هاجس مركزي واحد يظهر في مشروعه الأدبي كله ولكن بتيمات متنوعة
كتبتَ روايات تيمتها كانت الثورة التحريرية، أو تحكي وتُقارب فيها الثورة روائياً، كما كتبتَ روايات عن التحوّلات السياسيّة في الجزائر. هل الاِنتقال من تيمة إلى أخرى هو ما يبحث عنه الروائي عادةً؟
محمّد مفلاح: للروائي الصادق هاجس مركزي واحد يظهر في مشروعه الأدبي كله ولكن بتيمات متنوعة كنوتات القطعة الموسيقية. فالمشروع الأدبي هو كهذا العالم الفسيح الّذي نعيشه، توجد فيه كلّ المواضيع التي يُواجهها الإنسان منذ لحظة ميلاده إلى غاية مُغادرته الحياة. لذا يصبح اِنتقال الروائي من تيمة إلى تمية ضرورة تفرضها الحالة الإبداعية التي يعيشها، وهي في تغير دائم.
كتابة الرواية التاريخية صعبة للغاية وتتطلب من كاتبها إلمامًا واسعًا بتفاصيل العهد الّذي يكتب عنه
روايتك «شعلة المايدة»، تتحدث عن تحرير وهران من الغزاة الإسبان. هل يمكن إدراجها في خانة الرواية التاريخية، وهل كتابة التاريخ روائياً من اليسر الّذي يمكن أن يحدث دون أن تفقد الرواية التاريخية من جماليتها وفنيتها الإبداعية بحكم الحقائق الواردة فيها؟
محمّد مفلاح: «شعلة المايدة» رواية تاريخية، وهي تتطرق إلى مرحلة تحرير مدينة وهران سنة 1792، تحت قيادة الباي محمّد الكبير. كتبتُها لإبراز دور الشعب الجزائري في مقاومة المُحتل الإسباني، مُحاولاً الرد على طروحات الكُتّاب والمؤرخين الذين تحدثوا عن بطولات الباي محمّد الكبير دون الإشارة إلى تضحيات القبائل الجزائرية وتصديها للغُزاة الإسبان، كما ذكرتُ فيها بعض الوقائع التاريخية المسكوت عنها. ولم أكتب هذا النص الإبداعي إلاّ بعد سنوات من المطالعة لأهم الكُتُب المنشورة عن العهد العثماني، وبخاصة عن الفترة التي تحرّرت فيها مدينة وهران، إذ قرأتُ كُتبًا محققة وهي لاِبن سحنون الراشدي، وأبي راس الناصري، وأحمد بن هطال، وبن يوسف الزياني، وبن عودة المزاري، وشريف الزهار. كما قرأتُ للمؤرخين المعاصرين ومنهم سعد الله، وبوعزيز، وتوفيق المدني، وناصر الدين سعيدوني اِلخ.. وكتابة الرواية التاريخية صعبة للغاية، وتتطلب من كاتبها إلمامًا واسعًا بتفاصيل العهد الّذي يكتب عنه، وفي هذا المجال يُواجهه فراغٌ مهول، فالتفاصيل لن نجدها في كُتُب التاريخ المهتمة بالأحداث فقط. وهنا تزداد مسؤولية الروائي وهو يخوض مثل هذه المغامرة.
صُنفت تجربتك في التأريخ للثورة خصوصًا مع «غليزان» كتجربة فريدة، حيث اِشتغلتَ فيها على بطولات ومعارك المنطقة، هل اِنتمائك للمنطقة سهلَ عليك الإلمام بحيثياتها وتفاصيلها الثورية والتاريخية؟
محمّد مفلاح: لولا اِنتمائي واستقراري بمنطقة غليزان لَمَا تمكنتُ من اِنجاز أي بحث عن هذا التاريخ المحلي. ولا ريب أنّ نشاطي السياسي ساعدني كثيرًا على معرفة كلّ قُرى ومُدن المنطقة، والإطلاع على تراثها وتقاليدها ورموزها الثقافية.
أنتَ من جيل ما بعد المُؤسسين للرواية الجزائرية. ما الّذي شكله فيك جيل المؤسسين من أساسيات وفنيات الكتابة الروائية، وهل استفدت من تجاربهم ومن هم أكثـر الروائيين الذين غرفت من رواياتهم أكثـر على المستوى الفني والإبداعي؟
محمّد مفلاح: جيل المؤسسين للرواية الجزائرية، زرع فيّ بذرة نَمت في أجواء خصوصية البيئة التي كنتُ أعيش فيها، زرع فيّ بذرة الرواية التي تفطنتُ إلى أهميتها وهو قدرتها على اِستيعاب قضايا ومعارف المجتمع الجزائري، مع اِنشغالها بمصير المواطن العادي في فضائه المحلي، أعجبتُ كثيرًا برواية «ريح الجنوب»، وتأثرت برواية «اللاز». ولما تعدّدت قراءاتي في هذا الجنس الأدبي، وجدتُ نفسي مُغرمًا بروايات كثيرة ولكُتّاب عالميين وأذكر هنا من تأثرتُ بهم وهم نجيب محفوظ، ودستويفسكي، وشتانيبيك، وسارتر، وكمال ياشر.
أُدرِجت تجربتك السردية ككلّ في تيار الواقعية، لكنّها الواقعية المرتكزة على الفني البعيد عن المُستهلك. ما رأيك في هذا الإدراج؟
محمّد مفلاح: في بداية مساري كنتُ أقرأ الروايات دون اِهتمام بالمدارس الأدبية التي كانت تنتمي إليها، ولازلتُ إلى حد الساعة أهتم بالرواية التي تمنحني المتعة والمعرفة معًا. وبمرور الوقت وجدتُ نفسي أميل إلى الرواية الواقعية فأنا أحب الأجواء التي تقدم لي عالم الإنسان في محيطه المحلي وبشكل فني جميل. لقد سافرتُ –مثلاً- في أعماق تركيا من خلال روايات «أوهان باموك» بعدما قمتُ بمثل هذا السفر مع «ياشر كمال» الّذي عرّفني على الريف التركي. وأعتقد أنّ الجزائر في حاجة إلى مبدعين أمثال بلزاك، وهيجو، اشتانبيك وتولسوتوي، ونجيب محفوظ، وحنا مينة، عبد الرحمن منيف، وباموك.. في حاجة إلى روائيين يكتبون أعمالاً تكون في مستوى تاريخ الجزائر وحضارتها. وهذا قبل الاِهتمام بكتابات ساورت، وروب غرييه. ومثل هذا الرأي لا يمنع الاِستفادة من أشكال تجارب هؤلاء الكُتّاب إذا تلاءمت وموضوعاتنا وقضايانا المعاصرة.
جامعات الجزائر أصبحت اليوم متفتحة على كلّ الكِتابات الإبداعية
أعمالك كانت محور الكثير من رسالات الماجستير والتخرج والأطروحات والدراسات النقدية. ماذا يعني لك هذا في وقت يشتكي فيه كثير من الكُتّاب من إهمال النقد لأعمالهم؟
محمّد مفلاح: تشرفتُ كثيرًا باِهتمام الباحثين وإن جاء متأخراً، ولعلمك فإنّ أوّل مُذكرة ماجستير حول رواياتي كانت سنة 2002 وهي للباحثة «إسمهان حيدر» من جامعة قسنطينة، وقد أُنجزت بعدما صدرت لي ست روايات ومجموعتان قصصيتان وثلاث قصص للأطفال، بعدها أصبحت رواياتي محور عدة مذكرات تخرج لنيل شهادات الماستر، وماجستير، والدكتوراه.. أمّا أعمال الكُتّاب التي لم تحظ إلى حد الآن بالدراسة والنقد في الجامعة فالسبب الرئيسي في هذه الوضعية يعود للتوزيع، فهذه الأعمال الإبداعية غير متوافرة في المكتبات. أرى أنّ جامعات الجزائر أصبحت اليوم متفتحة على كلّ الكِتابات الإبداعية (رواية، وقصة، وشعرا)، وقد كثر اِهتمام الباحثين والطلبة بالأقلام التي لم تدرس إلى حد الساعة. وتبقى مشكلة توزيع الكِتاب عائقًا في وجه التفاعل بين الأدباء والنُقاد والباحثين والإعلاميين، هذا التفاعل الّذي نراه ضروريًا لإنعاش الحركة الثقافية في الجزائر.
قلت: «أستهجن كلّ تجريب عبثي يلجأ إليه بعض الأدباء لأنّهم غير قادرين على كتابة الرواية بقواعدها وفنياتها المعروفة». برأيك كيف يكون التجريب دون أن يخل بالعمل فنيًا وجماليًا، إذا ما اعتبرنا أنّ للتجريب ضروراته الفنية التي لا يجب التنازل عنها أو إفلاتها أثناء الكتابة؟
محمّد مفلاح: التجريب أمر حتمي في كلّ الفنون والآداب، ولم أقل إنّه يخل بالعمل فنيًا وجماليًا، ولكن التجريب المطلوب في نظري هو الّذي يُقْدِمُ عليه الروائي بعدما يكون قد تمكن من أدوات فنه أي أن يكون قد جرب كتابة الرواية الكلاسيكية. أمّا من يدعي التجريب في أي فن من الفنون وهو لا يتقن حتّى القواعد الأساسية لهذا الفن فالنتيجة ستكون نوعًا من الكتابة العبثية، وكان سارتر واضحًا في موقفه من الرواية الجديدة التي سماها بـ»لا-رواية».
شغلتَ وظائف سياسية ونقابية وإدارية مختلفة، لكنّك بقيت وفيًا للكتابة وحافظت على الكاتب فيك ولم تتركه يتوه في زحمة هذه المهام، هل كان الأمر سهلاً؟
محمّد مفلاح: إنّ التوفيق بين النشاط العام والكتابة الإبداعية أمر صعب، وأعترف إن جهدي في الكتابة قل إلى حدٍ ما في المرحلة التي توليتُ فيها مسؤوليات وطنية، ولكنّني سرعان ما تداركت الأمر مستفيدًا من تجارب كُتّاب تولوا وظائف هامة، وأهم شيء تعلمته من هؤلاء المبدعين الكبار هو التنظيم ثمّ التنظيم، ومع التضحية بأي أشياء ثمينة من أجل حلم الكتابة.
ن/ل

 

الرجوع إلى الأعلى